كان في الجزائر، في فترة الاستعمار، شرطيٌ جلادٌ فرنسي مختصٌ بتعذيب الجزائريين الوطنيين. وبسبب كثرة عمليات التعذيب التي ينفذها، وشدّة العنف الذي يمارسه على المُعَذَّبين؛ أُصيب هذا الجلادُ باضطراباتٍ نفسيةٍ وسلوكية، وصار عدوانيًا بصورة كبيرة وصلت إلى حد ضرب زوجته بعنفٍ شديد لأسبابٍ تافهة، حتى إنه بدأ يضرب طفلَه الرضيع. عندها استشار طبيبًا نفسيًا ليعالجه، ويساعده في ضبط سلوكه، وكان الطبيبُ هو فرانز فانون، الذي روى هذه القصة لاحقًا في كتابه “معذّبو الأرض”. المهم، أدرك الجلادُ، بعد مدّة من بداية العلاج، أن نوعية العمل الذي يقوم به سببُ اضطراباته النفسية والسلوكية كلها، وبما أنه غيرُ قادرٍ على الاستقالة من العمل، ولأن نوعية العمل لن تتغيّر بالمدى المنظور، طلب من طبيبه النفسي، بصورة مباشرة، أن يساعده في أن يُعذّب الجزائريين الوطنيين من دون أن يُصاب بأي وخزةٍ في الضمير، ومن دون اضطرابٍٍ في السلوك، أي كما قال: “أن يعذّبهم بهدوءٍ ورِباطة جأشٍ كاملة”! (with complete equanimity).
في العمق، لجأ الجلادُ إلى علم الطب النفسي كي يساعده في إنجاز عملية تعذيب الوطنيين بدمٍ بارد، حوَّل بكاءه إلى صنعةٍ، صارت مثل صنعته وحرفته في إبكاء الآخرين، الأمر الذي يحصل بسلاسةٍ في فلسطين وسورية في هذه الأيام، من دون الحاجة لا إلى علوم الطب النفسي، ولا أي علمٍ آخر. إذا فكّرنا في طلب الجلاد الفرنسي نجد أنه يطلب “تسويغًا أخلاقيًا للجريمة”، أي إنه يحتاج إلى أن يؤهّل نفسه أخلاقيًا للإرهاب. ويريد، ثانيًا، أن يستمر في التعذيب، وفي الوقت نفسه، أن يحتمل فعلَ التعذيب من دون تأثيرٍ في توازنه بوصفه إنسانًا، لا يزال له في الدنيا من يحبهم ويحبونه، مثل زوجته وأطفاله. عند الجلاد حاجةٌ إلى حماية ذاته من إجرامها، من الأثر العكسي لعملٍ لا يريد أن يتوقف عن القيام به. إنها الحاجة إلى تثبيط ضميرٍ يحاول أن يصحي متجاهلًا حسابات الذات المعقدة. ولن يجد هذا الجلاد طلبه عند طبيبٍ نفسي بطبيعة الحال، ولكن صرنا نعرف اليوم، مثلًا، أن ثمة طريقًا إلى التعذيب برباطة جأشٍ وهدوءٍ، موجودٌ في سرديات مُسوِّغة، تتغطّى بحقيقةٍ مُحرَّفةٍ بصورةٍ مخاتلة أو بتاريخٍ مؤولٍ بصورةٍ أيديولوجية. ويثبت الشرق الأوسط الراهن أن هذا النوع من التثبيط الشامل للضمير موجودٌ بوفرةٍ في السرديات العقائدية القادرة على تحرير الغرائز العدوانية من منظومة المراقبة التي يمليها الضمير، أي تحرير السلوك من مرجعياته الإنسانية، تمهيدًا لبناء فكرة العدو بوصفه “حيوانًا في صورة بشر”، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، أخيرًا. صناعة الوحشية تجعل العنفَ موضوعًا تافهًا بمقدار ما صار عاديًا في غزّة أمام حكومات العالم كله، حيث أقصت إسرائيل الفلسطينيين من الإنسانية دفعةٍ واحدة؛ فصار الفلسطيني أمام العالم كله آخرَ فائضًا عن الحاجة. إسرائيل ومنتفعاتها كلهم، وإيران ومنتفعاتها أيضًا (مثل نظام الأسد)، لا يعملون إلا بوساطة القتل. أما الذي يسمّونه سياسة فيصبّ كله في أمرٍ واحدٍ لا يوجد غيره، هو تحويل التعطّش إلى القتل، والانتقام والثأر الذي تغذّيه الأساطير، إلى مسائلَ ذات طابع سياسي ومن ثم وجودي.
إسرائيل كائنةٌ في الألم، إذا زال ألمُ الفلسطينيين تجوع فتموت، وإذا زال ألمُها، يزول ألم الفلسطينيين؛ فتموت
لا تختلف إسرائيل في فلسطين عن الجلاد الفرنسي الذي كان في الجزائر إلا في أن الجلاد كان ساذجًا بما يكفي لكي يأمل تسويغَ جريمته عند طبيب، فيما إسرائيل تُسوِّغ جريمتها عند التاريخ، وعند أمراض الإنسان الغربي الأخير؛ فالفرق أن الجلاد الفرنسي طلب المساعدة عند الطبيب ولم يجدها، ولكن إسرائيل وجدت المساعدة عند المريض: أي عند الإنسان الغربي الأخير حفيد جلاد الجزائريين. وهذا في العمق توصيفٌ للفرق بين الاستعمارين، القديم والإسرائيلي الجديد الوريث الأوحد. تساعد هذه المقارنة بين إسرائيل وفكرة الجلاد المريض بوصفه مُحتلًا يُعذِّب السكان الأصليين ويقتلهم، في بناء مدخل لفهم مسوّغات إسرائيل مجازرها في غزّة، ومن ثم سلوك جهازها السياسي والدبلوماسي بوصفه فاعلًا لتحقيق هدفٍ واحد: تسويغٌ أخلاقي عالمي للقتل والدمار الشامل.
هذا مدخل مهمٌ للتفكير في خيارات الساكن الأصلي، أي المعذَّب الفلسطيني أمام هذه المصيبة الكارثية التي لا بد من مواجهتها. وإذا اتفقنا أن ثمّة آلية تعمل لدى إسرائيل لحماية الذات من إجرامها، مثل ما كان يعمل الجلاد الفرنسي المريض في الجزائر على تعطيل الأثر العكسي لإجرامه، كي لا يرتدّ عليه وعلى عائلته؛ فإننا نفترض أن العمل على تعطيل هذه الآلية قد ينتج منه تدمير إسرائيل ذاتها. ولهذا الطرح ما يشجّع على التفكير فيه في سلوك إسرائيل في السنوات الأخيرة. يعني ذلك، أيضًا، أن منهج مواجهة السردية الإسرائيلية بسردية مثلها تعاكسها في الاتجاه، مثل تعريف الصراع بثنائية اليهودي والإسلامي، يحرم الفلسطيني من فوائد مقاربة الصراع بين محتلٍّ جلادٍ مجرم، وسكانٍ أصليين (natives)؛ فالمقاربة الأخيرة قد تفتح أبوابًا للعمل السياسي يجعل الجهاز المناعي الإسرائيلي يهاجم ذاتَه، وهذا من أفضل السيناريوهات بالنسبة للفلسطينيين؛ فالمجرم عدوّ ذاته قبل أن يصبح عدوّ الأخرين، ولكن ينبغي العمل على تحريك هذه العداوة.
ثمة نوعٌ من السياسة يؤدّي إلى قتل الجلاد بسلاح حقده، ولكننا لم نمتلك بعد هذا النوع، ولا يزال غيابه يمنح التراكيب الأيديولوجية فرصةً تلو الأخرى لصناعة اللاسياسة
بطبيعة الحال، لا تكتمل هذه المقاربة في نصٍّ صحافي، وتحتاج إلى مؤسّساتٍ تصمّمها، وتخطّط لها، ثم تنفذها بدقة عالية. وتحتاج إلى عقلٍ بارد، وبعض الزمن، وكثير العقل والانفتاح، والقدرة على بناء الخطاب، ورسم السلوك مرحليًا واستراتيجيًا، تحتاج إلى “عقلٍ على صهوة جواد” (بتعبير هيغل). وهذه مؤهلاتٌ، للأسف، لا تتوافر لدى القوى الفلسطينية الكلاسيكية الراهنة جميعها، لا حركة فتح ولا “حماس”. ولكنها بطبيعة الحال تتوافر لدى الفلسطينيين العاديين، ولدى الرأي العام العالمي الذي عبّر عن ذاته بوضوح في عواصم مختلفة في الأيام القليلة الماضية التي تلت مجازر إسرائيل في قطاع غزّة.
ثمة، إذًا، نوعٌ من السياسة يؤدّي إلى قتل الجلاد بسلاح حقده، ولكننا لم نمتلك بعد هذا النوع، ولا يزال غيابه يمنح التراكيب الأيديولوجية فرصةً تلو الأخرى لصناعة اللاسياسة، ومن ثم الحضور في المأتم الذي لا ينتهي. إسرائيل كائنةٌ في الألم، إذا زال ألمُ الفلسطينيين تجوع فتموت، وإذا زال ألمُها، يزول ألم الفلسطينيين؛ فتموت. وهي في ذلك مثل الجلاد الفرنسي المريض الذي كان في الجزائر: إذا ترك التعذيب يزول ألمه لكنَّه يفقد عمله، الذي لا يتقن غيره، ويجوع. إسرائيل، مثله، تقتات بالإيلام وكائنةٌ في الألم؛ ومثلها، أيضًا، إيران: أيديولوجيتان تحترفان البكاء.