في دراسته “جان جينيه والفلسطينيون” يوثق الباحث والروائي التونسي حسونة المصباحي، لحوارات ومقالات نادرة في أزمنة متعددة مع الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي الشهير وعلاقته بالفلسطينيين شعبًا، وثورة، وقضية.
وكان أول هذه الحوارات، في الدراسة الصادرة بين دفتي كتاب عن دار ضمّة للنشر والتوزيع في القاهرة (2020)، ذلك الذي قال فيه إن “جمال الثوار الفلسطينيين فاتن وملموس”، وهو الذي أجراه معه كل من الصحافي النمساوي روديغار فيشانباري والمناضلة الفلسطينية ليلى شهيد يومي 6 و7 ديسمبر/ كانون الأول 1983، لفت فيها إلى أن زيارته لبيروت تمت بدعوة من “مجلة الدراسات الفلسطينية”، وكانت ترافقه شهيد نفسها، حيث وصلا بيروت مرورًا بدمشق يوم 12 سبتمبر/ أيلول 1982.
عند وصول جينيه إلى بيروت عاين “الخراب المرعب الذي خلفه الغزو الإسرائيلي للبنان في بداية صيف العام المذكور، وفي اليوم الثاني لوصوله اغتيل بشير جميل زعيم الكتائب، وبعد مرور يومين فقط على ذلك، حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا” التي كتب عنها شهادة مؤثرة نقل عبرها ما حدث إلى العالم.
وأكد في الحوار ذاته أن ما دفعه إلى التضامن مع الفلسطينيين هو في البداية تاريخه الشخصي، لافتًا إلى أن كتاباته التي تعبر عنه وعن تاريخه كانت بمثابة حلم، وكان عليه لكي يحصل على “نوع من الامتلاء والحياة”، أن يتجاوز الحلم والهاجس لكي يبقى في قلب الواقع… “كنت قد تضامنتُ مع حركة الفهود السود في الولايات المتحدة الأميركية، كما تضامنت مع منظمة “بادر ماينهوف” الألمانية، وأيضًا مع الفلسطينيين… كنتُ دائمًا ألبي طلب من يطلبون مني التدخل لصالحهم… وقبل سنوات كان الفلسطينيون طلبوا مني الذهاب إلى الأردن، وقبل عام، كانت ليلى شهيد هي التي طلبت مني الذهاب إلى بيروت… أنا على الدوام مع الشعوب التي تثور”.
ولفت في حواره مع فيشانباري وشهيد إلى أن “جمال الثوار الفلسطينيين فاتن وملموس، ففيه نوع من الوقاحة والتحدي تجاه الشعوب التي أهانتهم… ذلك الجمال الذي أتحدث عنه، والذي لا يتوجب الإلحاح عليه، لأنني أخشى أن يقع الناس في الخطأ، يكمن في أن يقوم عبيد قدماء بالتخلّص من قيود الاستعباد التي كانوا مقيّدين بها، كي ينعموا بالحريّة… لقد غيّر الفلسطينيون الصورة التي كانت راسخة في ذهني عن الشرق التقليدي، فهو شعب يقوم بأمور مثقلة بالرموز وبالمعاني، وتكسر واقعًا لا ريب فيه، وتعبّر عنه بدلالات واضحة، فمع الفلسطيني كل سيجارة لها معنى، وسطل الماء الذي تجلبه فلسطينية من النبع له معنى أيضًا… ما كنت أشعر به ولا زلت أن الشعب الفلسطيني هو أول شعب في العالم العربي بنى علاقة خاصة مع نفسه، وهي علاقة حديثة وثورته حديثة أيضًا”.
وأشار جينيه إلى أن الاستقبال الذي حظي به سواء في المخيّمات، أم في معسكرات القتال، أي على الحدود الفاصلة بين الأردن وإسرائيل، كان “حارًا إلى درجة أنه لم يكن بإمكاني أن أشعر في لحظة من اللحظات، أن الفلسطينيين ينفرون مني، ولا يرغبون في حضوري بينهم. هذا الحضور يجسّد حرصي على أن يكون فعلي منسجمًا مع الواقع، وليس مع عالم الكلمات واللغة فحسب”.
وسجل جينيه لاءاته الثلاث رفضًا وصف كتابه “أربع ساعات في شاتيلا” بالرواية، قائلًا: ليست رواية، لأنني كنت فعلًا هناك، أي في شاتيلا.. إن كلمة رواية تحيلني فورًا إلى الحلم، وإلى ما هو متخيّل، لذلك أعتبر “مدام بوفاري” رواية، أما نصّي عن شاتيلا فهو شهادة واقعية… النص الذي كتبته عن شاتيلا لم أكتبه بأفكار مني، بل كتبته بكلمات هي كلماتي، لكن لكي أتحدث عن واقع لم يكن واقعي، ولكوني لا أتحكم فيما شاهدته بالعين المجردة، كان عليّ أن أكتب: لقد شاهدتُ أناسًا موثقي الأيدي والأرجل، وشاهدتُ عجوزًا قطعت أصابعها.
وكان لافتًا أن الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي الشهير لديه شعور بالفخر لمساعدته الفلسطينيين، بقوله “هذا أمر يشعرني أنني أكثر حرية من ذي قبل”، وأيضًا شعوره بحزن ما للحظة لا يزال الفلسطينيون ينتظرونها، بقوله: “أنا عجوز، وعندما يحصل الفلسطينيون على دولة، على مؤسسات، فإنني لن أكون إلى جانبهم، وعندما يصبح الفلسطينيون أمة مثل بقية الأمم، لن أكون هنا”.
وختم جينيه حواره هذا بملاحظة غاية في الأهمية، حيث شدد: الفلسطينيون، وقبل أن يصبحوا مقاتلين، أي منذ طردهم من أراضيهم في عام 1948 وحتى انطلاق المقاومة المسلحة في عام 1965، كانوا شعبًا مسالمًا، من دون أسلحة، ومن دون عمليات عسكرية، ومن دون منظمة التحرير الفلسطينية، ومن دون تحويل وجهة طائرات، ومن دون إزعاج حياة الغربيّين، ومن دون أن تكون أخبارهم على الصفحات الأولى للجرائد، وعلى أغلفة المجلات… كان من الصعب أن يكون هذا التحول وأغلب المخيمات تحت إشراف السلطات الحكومية حيث تقع وكالة غوث اللاجئين، لكن مع بروز الحركة السياسية والعسكرية الفلسطينية، أصبحت المخيمات تحت إشراف المنظمات الفلسطينية، وهذه “صحوة فلسطينية” أحدثت تغييرات حتى في ملامح الناس، فقد باتوا هم القوّامون على أنفسهم، وانطلاقًا من هذه اللحظة، شعروا أنهم موجودون، لكن من دون وطن، وهذا هو الجانب المهم في نظري، أن يواصلوا الإحساس بأنهم موجودون على أرض الواقع، وأن كل ما يقومون به له هدف واضح يتمثل في تحرير وطنهم المُغتصب.
كان لدى جان جينيه شعور بالفخر لمساعدته الفلسطينيين، بقوله “هذا أمر يشعرني أنني أكثر حرية من ذي قبل” (الصورة: غيتي) |
وفي حوار آخر سبق حواره مع فيشانباري وشهيد، ووثق له المصباحي تحت عنوان “أنا متمرّد ولست ثوريًّا”، وأجراه هوبرت فيخته للأسبوعية الفرنسية الشهيرة “دي تزايت” في 19 و20 و21 ديسمبر/ كانون الأول 1975، وفيه يتحدث علانية عن علاقته المعقدة حد الكراهية بموطنه فرنسا، قال: أذكر بأن لا أب لي ولا أم، وأنني تربيت بفضل الرعاية الاجتماعية، وأنني عرفت من الطفولة أنني لست فرنسيًا، وأنني لست من القرية التي وجدت نفسي مقيمًا فيها… ذات يوم طلب منا المعلّم أن يكتب كل واحد منّا موضوعًا إنشائيًا يصف فيه البيت العائلي، وقد وصفت بيت العائلة التي كنت أقيم عندها، وصادف، بحسب المعلم، أن الموضوع الإنشائي الذي أنا كتبته هو الأجمل، لذلك قرأه بصوت عالٍ، إلا أن التلاميذ تلقّوا الأمر بسخرية، قائلين: لكن البيت الذي وصفه ليس بيت، إنه طفل لقيط… عندئذ حدث فراغ هائل، وشعرت بمذلة موجعة دفعتني إلى الاعتقاد بأنني غريب، وأنه عليّ أن أكره فرنسا… الكراهية ليست الكلمة المناسبة، بل عليّ أن أتقيأها… هذا جعلني أعشق كل من يذل فرنسا، وبعدها أصبحت أتعاطف مع كل المهانين والمذلّين في العالم، بل أصبحت متمردًا، أكثر منّي ثوريًّا، لكن إن حدثت الثورة فقد أنضم إليها، لكن الأهم أنني لا أريد أن يتغير العالم لكي يسمح لي أن أكون ضدّه.
ورصد الكتاب رد الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، والذي توفي في عام 2017، وكان من أصدقاء جينيه المدفون مثله في “العرائش” بشمال المغرب، على اتهام الكاتب الفرنسي إريك مارتي جينيه بـ”مساندة الإرهاب والإرهابيين” و”معاداة ديمقراطية إسرائيل”، بكتاب عنونه غويتيسولو بـ”جان جنيه والفلسطينيون”، جاء فيه: ما قدمه إريك مارتي قراءة مشبعة بالغضب المقدس الذي فجّره حسب ما أعتقد، رد فعل الصحافة الفرنسية على “جولة” شارون في فناء المسجد الأقصى، والتي فجّرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بحيث استخلص من العالم الشعري لجان جينيه المعقد والمتضمن خليطًا غريبًا أنه معاد للسامية ويكره إسرائيل، ويحلم بتدميرها، إلا أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، ولا بمثل هذا الوضوح… خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، دافع جان جينيه عن مشروع دولة فلسطينية لائكية، وهي نفس الدولة التي دعا لها ياسر عرفات، فيها يتعايش المسلمون والمسيحيون على قدم المساواة، وهذا يمكن أن يفترض ذوبان إسرائيل في محيطها العربي، ثم اختفائها كدولة، وقد كنّا من ضمن القلائل الذين آمنوا بقوة هذا المشروع قبل أن ندرك استحالة تحققه، فالضغوطات التي يفرضها التاريخ والعقل ترسم في واقع الأمر حدود حقل الحلم، كما أن السياسة لم تتوقف منذ أمد بعيد عن السباحة بينه وبين صلابة الواقع… إن السلام الذي سيقام في الشرق الأوسط لا بد أن يقوم على احترام الشرعية الدولية، وعلى اتفاق عادل ودائم بين الدولة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية المرتقبة، وقد عاش جان جينيه ومات في زمن آخر، وكانت رؤيته الثورية المعقدة والمتناقضة تنتمي إلى مناخ ابتكاره الشعري.
وتحت عنوان “قرب عجلون: إلى روح كل الفدائيّين”، جاء في الكتاب نص نادر لجان جينيه كتبه خلال إقامته في المعسكرات الفلسطينية في عجلون بالأردن في الفترة ما بين أكتوبر/ تشرين الأول 1970 وأبريل/ نيسان 1971، ونشر في ملحق قصير ضمن كتاب جماعي صدر عام 1970 في ذكرى استشهاد المناضل الفلسطيني وائل زعيتر الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية في أكتوبر/ تشرين الأول 1972 بالعاصمة الإيطالية روما، وهو كتاب كتب ياسر عرفات مقدمته، واحتوى على نصوص لكتاب وفنانين غربيّين كبار.
وكان جان جينيه تعرّف على وائل زعيتر في بيت الكاتب الإيطالي الكبير ألبرتو مورافيا في روما، وتحديدًا في شهر أبريل/ نيسان 1972، وتوطدت علاقة بينه وبين ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الإيطالية، وكان يتمتع بثقافة عالية، وحسّ إنساني رفيع… وكان جينيه يعتزم القيام بجولة في الشرق الأوسط رفقته، لكن استشهاد زعيتر حال دون ذلك.
وتحدث فيما كتبه عن الفدائي الفلسطيني كما رآه في صفحات عدة، أقتبس منها: الفدائيون كانت لهم وسامة نضرة، بسيطة، مهداة إلى الفطنة، وتحركاتهم بسيطة، ونابهة، وممهدة للفعل… أما اللغة فهي مختزلة، عاكسة لرغبة في عدم مواصلة تقليد قديم، وطامحة إلى دفن صورة يرغب كثيرون بأن تظل قائمة… هذا الجمال الجديد لم يكتسبوه إلا بفضل الثورة، وفي نفس الوقت، هم يشبهون الثوار فعلًا.. كثير منهم تزوجوا، وتقبلوا أن تكون نساؤهم إلى جانبهم في النضال، كأن يعتنين بالجرحى، وإن كان لا يزال بينهم من يرفض ذلك… قد تكون شجاعة غيرهم الحربية كبيرة، لكنها لا شيء أمام الشجاعة الأخلاقية للفلسطينيين.
ومن بين مقالات جينيه عن الفلسطينيين في كتاب المصباحي، مقال “نساء جبل الحسين”، ونشر في “لوموند ديبلوماتيك” في الأول من يوليو/ تموز 1971، حول أربع نساء من مخيم الحسين، ومقال “الفلسطينيون” وكان من أوائل مقالاته عن الشعب الفلسطيني وقضيته، ونشر في مايو/ أيار 1971 في مجلة “زووم” معلقًا على صور كان مصور فرنسي شهير التقطها في المخيّمات الفلسطينية.
وقبل الاختتام بمقطع من “أربع ساعات في شاتيلا”، النص الشهير لجان جينيه، نشر الكتاب حكاية زيارة الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي الشهير للمخيم، هو الذي وصل رفقة ليلى شهيد إلى بيروت يوم 12 سبتمبر/ أيلول 1982، ليشهد في اليوم التالي على رحيل قوات التدخل الدولية، وفي اليوم الذي تلاه مقتل بشير الجميل، وبعدها بيوم اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلية لبيروت مجددًا لـ”طرد من تبقى من مناضلي المقاومة الفلسطينية”، وفي مساء اليوم ذاته حاصرت القوات نفسها مخيمي صبرا وشاتيلا، قبل أن تقتحمه قوات الكتائب اللبنانية في اليوم التالي، أي السادس عشر من الشهر نفسه، ليومين كاملين.
في السابع عشر من سبتمبر/ أيلول 1982 قامت ممرضة نرويجية تعمل في مخيم شاتيلا بإعلام ليلى شهيد وجان جينيه أن أعمالًا “غريبة” تحدث في المخيم، وفي صبيحة اليوم التالي، قرّر جان جينيه الذهاب إلى المخيّم، إلا أنه اصطدم بالدبابات الإسرائيلية التي كانت تسد المدخل، وكان عليه الانتظار إلى صبيحة يوم التاسع عشر من الشهر نفسه كي يتمكن من الدخول إلى المخيم رفقة ليلى شهيد، ومصوّرين أميركيّين، منتحلًا صفة صحافي، وكان الجيش اللبناني قد شرع في حفر قبور جماعية لدفن ضحايا المجازر، ومع ذلك، كانت مئات الجثث لا تزال منتشرة هنا وهناك، وقد تعفنت تحت شمس الخريف، حسب ما ورد في كتاب “جان جينيه والفلسطينيون”، وعلى مدى أربع ساعات، ظل جينيه يطوف في المخيّمين وحيدًا، وعند عودته إلى شقة ليلى شهيد حيث كان يقيم، لازم الغرفة التي ينام فيها أربعًا وعشرين ساعة لم يتكلم خلالها مع أي أحد، وفي الثاني والعشرين من ذات الشهر عاد إلى باريس عبر دمشق، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1982 أكمل كتابة نصه الفريد من نوعه، وربما المستعصي على التصنيف: “أربع ساعات في شاتيلا”.