تكشف حرب غزة مدى دقة حسابات كل طرف أو سوئها. فهي تسير بوتيرة متزايدة رغم محدودية النتائج الميدانية لمصلحة إسرائيل. فالقوات الإسرائيلية تواجه مقاومة شرسة من مقاتلي “حماس” تمنعها من التقدم الحاسم، بينما المأساة تزداد سوءاً بالنسبة إلى المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة. أما شمالاً على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية تحديداً، فإن قواعد الاشتباك المفترض أن تبقي الاشتباك محصوراً في المناطق المواجهة للشريط الحدودي تنتهك يومياً وبتدرج، ما يزيد من نسبة انزلاقها إلى حرب مفتوحة يقول الطرفان إنهما يريدان تجنبها. أما واشنطن، فهي تجهد في محاولة لإقناع شركائها العرب بوجود فرصة للوصول إلى حل الدولتين بعد حرب غزة، في وقت تشير تصريحات مسؤولين إسرائيليين إلى أنهم في واد آخر ولا نية لهم لتطبيق حل الدولتين كما يراه المجتمع الدولي.
تتحرك القوات الإسرائيلية في المنطقة الشمالية لقطاع غزة بحذر شديد. فهي تتصرف مثل شخص دخل مشكلاً ويخشى أن تطاله صفعة. فمقاتلو “حماس” استعدوا جيداً ويواجهون في معنويات عالية. وبالنسبة إليهم العدو من أمامهم والبحر من ورائهم، وبالتالي لا خيار لهم سوى القتال إما للنصر أو للموت أو الاستسلام. وتمكنهم شبكات الأنفاق من التنقل بحرية وأمان ومن دون التأثر بالقصف الإسرائيلي العنيف. وهذا مكّنهم من مفاجأة القوات الإسرائيلية في أكثر من مكان، بخاصة على الجبهة الشمالية. ولقد استفادوا من أمرين مهمين:
الأول امتلاكهم صواريخ الياسين 105 المضادة للدروع والتي تُصنع محلياً. هذه الصواريخ مكّنتهم من مواجهة المدرعات الإسرائيلية التي تشكل أداة التفوق الإسرائيلي في المعارك البرية. وانتشرت فيديوات عديدة تظهر مقاتلي “حماس” يخرجون من الأنفاق لمباغتة القوات الإسرائيلية وقصفها بصواريخ الياسين التي تملك حشوة مزدوجة تمكنها أحياناً من اختراق تصفيح المدرعات الإسرائيلية مثل الميركافا والنمر. بلا شك أن هذه الهجمات تربك القوات الإسرائيلية، بخاصة عندما تأتي من الخلف.
الأمر الثاني الذي استفادت منه “حماس” هو التكتيك الإسرائيلي الحذر الذي يهدف إلى تقليل الخسائر البشرية في صفوف الجيش، وبالتالي يعتمد على كثافة النيران وعلى إبقاء المشاة في الآليات حتى تيقّنه من أن المنطقة المستهدفة باتت خالية من المقاتلين ليخرجوا بعد ذلك لتمشيطها. حرب المدن هي حرب مشاة وقوات خاصة، ودور المدرعات فيها يكون للإسناد الناري فقط. فلا يمكن للمدرعات أن تتقدم بين المباني وفي الأزقة من دون التعرض لكمائن محكمة. يجب أن تتقدمها قوات المشاة أو تحيط بها لتوفر الحماية من القوات المدافعة التي تكون مختبئة في المباني أو بين الركام. هذا الحذر الإسرائيلي في التقدم يمكّن مقاتلي “حماس” من نصب كمائن وشن هجمات ناجحة انطلاقاً من الأنفاق.
لا يبدو أن إسرائيل أحرزت أي تقدم مهم في سعيها للوصول إلى شبكة الأنفاق الرئيسية لمقاتلي “حماس”. فما عثرت عليه قواتها في شمال القطاع كان أنفاقاً ثانوية للدفاع وغير مرتبطة بالشبكة العنكبوتية. وللعثور على الأنفاق بفعالية يجب استخدام قوات المشاة بكثرة للبحث عنها. لكن القيادة الإسرائيلية تدرك الثمن الكبير في صفوف جنودها إن قامت بذلك، وهي تريد أن تبقي أرقام قتلاها متدنية للحفاظ على دعم الرأي العام الإسرائيلي الداخلي الذي يؤيد العمل العسكري ما دامت الخسائر مقبولة.
وبناءً على تحرك القوات الإسرائيلية، يبدو أنها تريد فرض طوق على مدينة غزة بهدف استنزاف مقاتلي “حماس”. فالقيادة الإسرائيلية تتحدث عن حرب طويلة لأشهر، ما يعني أن الهدف هو تنفيذ استراتيجية أرض محروقة مع استنزاف الفصائل الفلسطينية لإجبارها على الاستسلام أو تجويعها وحرمانها من مقومات الحياة. لكن هذه الاسراتيجية بحاجة إلى دعم أميركي – غربي مفتوح يؤمن لها هدفين: الأول غطاء سياسي – إعلامي يمكنها من الاستمرار في عملياتها العسكرية التي تحصد آلاف المدنيين من دون رقيب أو حسيب. والثاني، هو توفير الدعم المالي لمساعدة اقتصادها الذي يعاني بشدة تبعات الحرب واستدعاء 350 ألفاً من جنود الاحتياط الذين يشكلون في الأيام العادية جزءاً أساسياً من اليد العاملة في الاقتصاد الإسرائيلي.
لكن المشكلة التي تكتشفها إسرائيل والغرب اليوم هي أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت أقوى من الإعلام العادي. فشبكات الأخبار الدولية مثل الـ”سي أن أن” والـ”بي بي سي” لم تعد قادرة على احتكار المعلومات. كما أن وسائل الإعلام المحلية في أميركا لا تملك القدرة على حصرية مصدر المعلومات. فلقد تمكنت الفصائل الفلسطينية من استخدام شبكة تليغرام لبث شرائط الفيديو الخاصة بها والتي تناقلها الناس ووضعوها على شبكات تواصل اجتماعي أخرى مكّنتها من الوصول إلى أرجاء العالم كافة، ومعها صور ضحايا القصف الإسرائيلي من أطفال ونساء. هذا أحدث صدمة كبيرة لدى الرأي العام في الغرب ودفع بعشرات الآلاف من المواطنين للخروج بحركات احتجاج أسبوعية مطالبين بوقف الحرب. ولقد بدأت قوى سياسية داخل الدول الغربية تتأثر بمواقف الرأي العام الداعم للفلسطينيين، ما يؤشر إلى أن قدرة حكومات هذه الدول على توفير الغطاء للعمليات الحربية الإسرائيلية ستكون محدودة وستنتهي مع فترة زمنية قد لا تزيد عن بضعة أسابيع.
تسعى الإدارة الأميركية لتهدئة حلفائها العرب الغاضبين مما يجري في قطاع غزة عبر التشديد على أنها ستحول الأزمة الحالية التي تواجهها إسرائيل في غزة إلى فرصة لفرض خيار حل الدولتين على الدولة العبرية. ويقوم وزير الخارجية الأميركي بجولات مكوكية على دول في المنطقة وحول العالم لهذه الغاية. لكن من يتابع تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية وبعض وزرائه من اليمين المتطرف يستنتج أنهم ليسوا على الموجة ذاتها لحلفائهم الأميركيين. فهم يستغلون الوضع الحالي لخلق واقع جديد في الضفة الغربية وقطاع غزة يقوم على تجزئتهما وإعطاء دور أمني أكبر للقوات الإسرائيلية فيهما، ما يتناقض كلياً مع حل الدولتين. وهذا يصعّب عمل واشنطن بإقناع حلفائها، وقد يحتم عليها دعم فكرة تغيير الحكومة الإسرائيلية الحالية بواحدة تكون مستعدة لخيار السلام. لكن هل سيكون ذلك ممكناً قبل انتهاء حرب غزة؟ وهل هناك ضمانة بأن انتخابات إسرائيلية جديدة لن تؤدي إلى فوز أحزاب اليمين بالأكثرية؟
أما في ما يخص الجبهة الشمالية لإسرائيل، فيبدو أن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله قرر الاستمرار في مقاربة الغموض البناء لمصلحة محور الممانعة، أي إبقاء الجبهة في جنوب لبنان مفتوحة بشكل محدود ليمنع القوات الإسرائيلية من التركيز كلياً على غزة. ومن أهم ما قاله نصر الله في كلمته في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري إن عنوان المعركة هو غزة والقضية الفلسطينية. ففتح الجبهة الشمالية وجبهات إقليمية أخرى سيغير عنوان الحرب في غزة من القضية الفلسطينية إلى تهديد إيران وحلفائها في محور الممانعة. هذا سيؤثر سلباً على القضية الفلسطينية ويجعل إنجاز “حماس” الكبير يبدو أمام الرأي العام العربي والدولي وكأنه كان جزءاً من مخطط إيراني لخدمة مصالح طهران وليس عملية للمقاومة الفلسطينية لاستعادة أرضها. لكن هل يمكن ضبط قواعد الاشتباك في جنوب لبنان؟ فآلية ضبط الاشتباك تحتاج إلى تعاون طرفي النزاع وتعطي أي طرف منهما حرية التصعيد الكبير نحو الحرب عندما يجد في ذلك مصلحة له. وفي ما يخص هذه الجبهة، السؤال المهم يبقى: هل ثمة مصلحة للبنان كدولة وشعب في فتحها؟ وكيف يمكن أن ينقذ ذلك “حماس” في غزة؟