يعاني البحث التاريخي في العالم العربي سيطرة التقليد وسطوة مفاهيم ونظريات لم تعد تسعف المؤرخ على كتابة تاريح جديد ، وعلى رغم إدراك بعض المؤرخين عمق هذه الأزمة المعرفية، بخاصة في ما يتعلق باختيار المواضيع، لا يزال الباحثون يكتبون ويفكرون بالطريقة التقليدية نفسها التي دأب عليها كبار المؤرخين العرب على اختلاف مرجعياتهم الفكرية وحساسياتهم الثقافية وتكوينهم العلمي، ذلك أن معظم المؤلفات التي تصدر اليوم يغلب عليها نوع من التدريب الإنشائي الذي يغوص في قضايا السياسة والاجتماع، ويهمل كل ما له علاقة بالفن والثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي المركب.
إننا اليوم أمام معضلة معرفية تتحكم فيها المعاهد والجامعات، فهي لا تدعو إلى التجديد على مستوى الكتابة التاريخية بقدر ما تعيد المكرر من المعتق في جرار الكلام، بل يُدهش الباحث من كيفية الكتابة في مواضيع لم يعد أحد يريدها، ما الغاية في الكتابة عن مواضيع سبقت الكتابة عنها؟ كيف نهتدي إلى حداثة النص التاريخي ونحن لا نزال نتعامل مع مختلف الوثائق المكتوبة بطريقة تقديسية وكأنها حقائق ثابتة لا تقبل المناقشة والسؤال؟ إن الأمر له علاقة ببنية معرفية هشة لا تزال تمتد في الزمن المعاصر، بنية لم تستطع مظاهر الحداثة التي شهدها العالم العربي أن تجدد الممارسات المعرفية الخاصة بها، فتكريس التقليد بات يعتبر بمثابة سمة تطبع هذه الثقافة بكيفية متكررة.
هشاشة البحث
ففي وقت نرى الكتابة التاريخية الفرنسية أكثر انفتاحاً على تحولات مفهوم الوثيقة (الشاهدة) في الزمن المعاصر، وعلى مواضيع لم يكن أحد يفكر فيها مثل الصورة والجسد والمتخيل والسينما واللوحة بطريقة تتقاطع فيها مع علوم أخرى مثل الأنثروبولوجيا، بما يجعل الخطاب التاريخي يتفتح بقوة على الزمن المعاصر، نجد الخطاب التاريخي العربي متقوقعاً في مجمله حول السياسة وكأن التاريخ العربي على عظمته لم يعرف أية ممارسة أخرى باستثناء السياسة ومظاهر الحكم وسلالات الحكام والسلاطين، مع أن التاريخ العربي داخل مؤلفات غربية دائماً ما تقف عند مختلف الممارسات الثقافية والفنية التي طبعت تاريخ العرب، بل إن الدراسات المتينة حول تاريخ الفنون في الأندلس وغيرها كتبها باحثون من إسبانيا وفرنسا والبرتغال وليس من البلاد العربية.
إن كتابة التاريخ المعاصر عبارة عن خطاب معرفي يقترب في تفكيره وممارسته من الأنثروبولوجيا، بحيث ينتقل الخطاب التاريخي من كونه خطاباً يرنو إلى السرد والحكي إلى ممارسة تحليلية تقرأ الحدث التاريخي على ضوء المستقبل. بهذه الطريقة لم يعد المؤرخ ينظر إلى التاريخ على أنه عبارة عن أحداث وقعت في الماضي فقط، وإنما بوصفها أحداثاً تترك أثراً في المستقبل.
لكن بالنظر إلى هذه التحولات المعرفية التي طاولت الخطاب التاريخي المعاصر، لم تخرج الجامعات المغاربية من هذا البؤس المعرفي الذي لا يزيدها إلا تهميشاً وغرابة، على رغم بعض الأبحاث الأصيلة التي يكتبها باحثون جدد في قضايا تتصل بالمعمار والسينما وممارسات ثقافية أخرى على علاقة بالصناعة التقليدية وغيرها.
ويرجع السبب في هذه الهشاشة إلى أن غالبية الباحثين الذين يتم تعيينهم في شعب التاريخ والحضارة يظلون يسبحون في النهر نفسه ولا يعملون على تجديد ماء المعرفة الذي يمكنهم من الانفتاح على مواضيع أخرى من التاريخ المعاصر ذات علاقة بواقعهم وتفكيرهم وأجسادهم. وهذا الانفتاح هو الذي يسهم وبصورة تلقائية في وضعهم داخل المسار المعرفي الذي تقطعه صنعة المؤرخ في الزمن المعاصر.
السينما والتاريخ
حين نفكر في الوثائق البصرية وعلاقتها بالبحث التاريخي، أول ما ينطبع في الذهن هو “مدرسة الحوليات” بعمقها الفكري، فلقد ساعدت هذه المدرسة مع كل من لوسيان فيبر ومارك بلوك وفرناند بروديل على توسيع مفهوم الوثيقة التاريخية والانفتاح على شواهد أخرى وأسهمت بطريقة تلقائية في تجديد مفهوم الوثيقة التاريخية وقادت المؤرخ إلى تجديد صنعته والانفتاح على قضايا ومواضيع وإشكالات لم يكن يفكر فيها أحد من قبل. إنه تحول معرفي كبير يعتبر بمثابة اكتشاف مذهل في تاريخ العلوم الإنسانية.
جاءت المدرسة كرد فعل على مدرسة أخرى هي “المدرسة الوضعية أو المنهجية” مع كل من لانغوا وسينيوبوس التي كثيراً ما عملت على تقديس الوثيقة المادية واعتبرتها الخلاص المنهجي الوحيد لكتابة التاريخ، بل إن معظم البحوث التي انضوت تحت لواء هذه المدرسة قدمت أبحاثاً مغايرة بالنظر إلى ما كان يكتب في السابق.
ودعت “الحوليات” إلى تجاوز النظرة التضييقية إلى الوثيقة وضرورة توسيعها لتشمل مختلف المصادر الأخرى مثل الكتابات المنقوشة والمسكوكات أو النميات (علم النقود) ومحاكم التفتيش والأدب التاريخي وغيرها من المصادر التي لم يكن المؤرخ يتعامل بها على مستوى الكتابة التاريخية، سواء داخل أوروبا أو خارجها.
بل نكتشف في العالم العربي كيف أن هذا الانفتاح قاد مؤرخين عرباً إلى اكتشاف أمور مذهلة ظلت في حكم المنسية داخل الثقافة العربية المعاصرة، وأشير هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى كتابات المؤرخ أحمد بوشرب الذي استند في مصادره إلى محاكم التفتيش الإسبانية والبرتغالية، وكيف قاده ذلك إلى كتابة تاريخ جديد في علاقة المغاربة بالبرتغال خلال القرن الـ16 أثناء الغزو الإيبيري للسواحل. فكتاباته استطاعت اختراق مكبوت البحث التاريخي وفتحته على تخوم غير مفكر فيها، إذ كلما جدد المؤرخ وثيقته يجد نفسه داخل أراضٍ لم يحلم بها من قبل.
علاقة متشابكة
إضافة إلى ذلك هناك كتابات أخرى مثل مؤلفات المؤرخ الفرنسي مارك فيرو الذي قاده شغفه بالسينما إلى كتابة أعمال مهمة تقرأ نماذج من التاريخ العالمي على ضوء السينما وتحولاتها، وأصبح صاحب كتاب “السينما والتاريخ” أحد الوجوه البارزة في هذا النوع المعرفي الذي ينظر إلى الفيلم على أنها وثيقة تاريخية قادرة على توثيق وتأريخ الحدث، إذ يعتبر مارك فيرو أن الفيلم السينمائي أحد أبرز المصادر البصرية المنسية من اشتغالات المؤرخ المعاصر، وعلى رغم نجاعته من الناحية التأريخية فإن هناك تهميشاً كبيراً من طرف المؤرخين الذين كثيراً ما اعتبروا أن السينما تدخل في باب الصناعة التخييلية. ويقول، “السينما لم تولد عندما أخذ التاريخ عاداته وأتقن منهجه وتوقف عن السرد من أجل التفسير”.
لكن المؤرخين على رغم انفتاحهم على مصادر جديدة لكتابة التاريخ، فإنهم تجاهلوا الفيلم ولم يعتبروه وثيقة، بل كان في نظرهم لغة تشبه الأحلام، على رغم ثبوت فشل الوثيقة المكتوبة في حفظ التاريخ في كثير من الأحيان.
شخصياً، أتفق مع مارك فيرو في طريقة نظره إلى مفهوم العلاقة بين المؤرخ والسينمائي على مستوى المنهجية وتجديد الوثائق، لكني أختلف معه في كون السينما تقوم بدور تأريخي لأن السينمائي مهما بلغت عظمته وقدرته على الصناعة السينمائية، فهو غير معني بالجانب المعرفي التأريخي للأحداث لأنه يسعى دائماً وراء عنصر التخييل أكثر من التوثيق، وإن السينمائي لا يضطلع بدور المؤرخ، فلكل شخص دوافعه وهواجسه ووجهته، لذلك يبقى السينمائي منجذباً إلى مطاردة الأثر الجمالي للصورة، وإلى تبطين التاريخ وليس تأريخه، بمعنى أن السينما بإمكانها أن تكون سنداً لتخييل التاريخ وليس تأريخه.
وعلى رغم اختلاف الباحثين وتضارب رواياتهم بين قابلية السينما لأن تصبح وثيقة تاريخية من عدمها، تبقى هذه النظرية قابلة للتصديق حين يتعلق الأمر بالفيلم الوثائقي التسجيلي التقليدي الذي ربما يتبرم قليلاً من الهواجس التخييلية، لكن بغض النظر عن ذلك فحين نشاهد فيلماً تاريخياً نكون أمام ملامح وشذرات ونتف من الذاكرة، غير أن هوس المخرج بالتخييل يجعله يدخل في عملية تأملية مع هذا الموروث التاريخي، يفككه ثم يعيد تخييله بطريقته الخاصة ووفق فهمه الخاص.