قطع “حزب الله” سلسلة “الهدهد” المُعدّة سلفاً، والتي كان من المفترض أن تتمحور حلقتها الثالثة حول طبريا وصفد، ليبثّ أمس “حلقة خاصة” عاجلة يستعرض فيها تفاصيل دقيقة في قاعدة “رمات ديفيد” الجوية في حيفا، ربما تكون أخطر ما كشف عنه حتى الآن، ما أثار تساؤلات عن سبب هذا التبديل الذي طرأ على برنامج المواد الإعلامية الصادرة عن التنظيم، وارتباط ما نُشر بالتطورات السياسيّة – العسكريّة المرافقة للحرب متعددة الجبهات، خاصة زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة، والتصعيد المستمرّ بين الحوثيين وإسرائيل.
ما المهم في “الهدهد 3″؟
وقبل الخوض في الرسائل التي سعى “حزب الله” لتوجيهها في المقطع المصوّر الذي تبلغ مدته نحو 8 دقائق، لا بدّ من ملاحظة ثلاثة أمور بالغة الأهمية.
بداية، هذه المرّة الأولى في تاريخ إسرائيل لقيام طائرة، أو طائرات ربّما، باختراق المجال الجوي لقاعدة جويّة أساسية دون كشفها واعتراضها.
وتبعد “رمات ديفيد” 46 كيلومتراً من الحدود اللبنانية، وهي تحوي قاعدة “عايزر وايزمان”، القاعدة الجوية الوحيدة في الشمال، وواحدة من أهم ثلاث قواعد جوية رئيسية في الدولة العبرية. وهي تضمّ مجموعة من الاختصاصات الجوية، تتوزّع بين مقاتلات حربية، مروحيات قتالية، ومروحيات النقل والإنقاذ، ومروحيات استطلاع بحري، ومنظومات حرب إلكترونية هجومية.
الأمر الآخر المُلاحظ هو كشف التنظيم اللبناني عن هويّة قائد القاعدة العقيد أساف إيشد، وهذا من الأسرار العسكرية الكبيرة في إسرائيل، إذ أنّ المعلومات عن الضباط الموكلين بهكذا مهام لا يتم الإفصاح عنها أبداً، ويتمّ الاكتفاء بالإشارة إلى الشخص المعني باسم مستعار من حرف واحد فقط، مثل “العقيد أ”.
ووفقاً لوسائل إعلام عبرية، فإنّ الكشف الصريح عن هويّة إيشد يُعدّ “تهديداً واضحاً له”.
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ الملاحظة الثالثة هي تمكّن التنظيم اللبناني من تحديد أدق التفاصيل في القواعد العسكرية والمرافق الاقتصادية التي يقوم بتصويرها، فصور طائرات التجسس وحدها لا تكفي لأداء هذه المهمة، إذ لا بدّ من مساعدة يتلقاها “حزب الله”، إن كانت ميدانية من داخل إسرائيل، أو من أجهزة استخبارات تتيح له تحقيق هذا الخرق المعلوماتي.
ومن المعلومات الدقيقة التي تضمّنها الفيديو عن “رمات ديفيد”، التشكيلات العضوية الشاغلة للقاعدة: ثلاثة أسراب قتالية، وهي “الوادي 109″، “المعركة الأولى 101″، “العقرب 105″، إلى جانب سرب الاستخبارات “صيادو الليل 160″، سرب الاستطلاع البحري “حماة الغرب 193″، سرب الحرب الإلكترونية 157، و4 أسراب أركانية لمهام خدمات الدعم والصيانة والإدارة.
وأظهرت مشاهد الاستطلاع بدقة، خزانات وقود الطائرات، قيادات الأسراب، منصّات القبة الحديدية، مدرجات وباحات عسكرية، مرائب، الأقسام التقنية للأسراب، مساكن الضباط، مراكز القيادة والسيطرة، قسم صيانة المحركات، كلية الطيران، وغيرها من النقاط العسكرية.
توقيت ورسائل
مصدر مسؤول في “حزب الله” يؤكّد لـ”النهار العربي” أنّ توقيت نشر المقطع الذي صُوّر “قبل يوم واحد فقط” من الإعلان عنه “مرتبط بشكل أساسي بتوقيت زيارة نتنياهو لواشنطن وإلقائه خطابه أمام الكونغرس”، وفيه مواقفه بشأن غزة ولبنان وسائر جبهات الإسناد.
وعلى ما يبدو فإنّ “حزب الله” أراد توجيه تحذير واضح مرّة أخرى لنتنياهو بعدم الإقدام على خطوة توسيع الحرب في لبنان، فبعد رسالة “الدبابات” الصادرة عن أمينه العام السيد حسن نصرالله في عاشوراء، اختار هذه المرّة أن يكون سلاح الجو الذي يضمن لإسرائيل تفوّقها في أيّ حرب عادة، هدف الرسالة الجديدة.
فرغم استبعاد مصادر وقيادات التنظيم حرباً مفتوحة مع إسرائيل، إلا أنّه احتمال أساسي يبقى قائماً في حساباته في ظلّ انسداد أفق الحلّ بما يخص حرب غزّة، وتزايد وتيرة التهديدات الإسرائيلية.
يضيف المصدر أنّ “الرسالة التي أرادت أن توصلها المشاهد أنّ المقاومة أظهرت قدرتها على الوصول إلى أي نقطة تريدها… وما تصوّره قادرة على ضربه”.
كذلك، يلفت إلى أنّ الفيديو صُوّر “بعد قيام العدو بقصف ميناء الحديدة في اليمن وفي ذروة الاستنفار الإسرائيلي المرتبط بالواقع الميداني على مستوى جبهات الإسناد كافة”، إذ كانت إسرائيل تتوقّع قيام الحوثيين بقصف مواقع هامة، وبالتالي وضعت منصات الاعتراض وأجهزة الرصد في جهوزية تامة. رغم ذلك “استطاع حزب الله إدخال الطائرة دون أن يلحظها العدو وأن تعود بسلام، وهذا سيكون مورد نقاشات وتساؤلات داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والجبهة الداخلية”.
“للتصوير فقط”
ورجّح تقرير لـ”فايننشال تايمز” عن الموضوع، أن تكون “دقة هذه الطائرات بدون طيار لا تتأثر بالتشويش الإسرائيلي على إشارة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) التجارية، والتي تغطي معظم شمال البلاد وجنوب لبنان. ووسعت إسرائيل نطاق هذه الخدمة منذ هجوم الحوثيين الأسبوع الماضي، حيث قامت بتشويش إشارة نظام تحديد المواقع العالمي حتى جنوب تل أبيب”.
ونسبت الصحيفة إلى أحد مسؤولي المخابرات الإسرائيلية إنّ إسرائيل “سمحت لبعض طائرات المراقبة بدون طيار بالتحليق فوق مجالها الجوي لتدريب مشغلي الرادار والخوارزميات على أنماط حركتهم، وهي عملية يمكن أن تستغرق عدة أسابيع”.
وأضاف أن أي طائرات من دون طيار تُعتبر “قاتلة” يتم إسقاطها على الفور. لكن الصحيفة أشارت إلى مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين على الأقل إصابة العشرات في هجمات بطائرات بدون طيار خلال الأشهر الأخيرة، بما في ذلك هجوم كبير في 30 حزيران (يونيو) على قاعدة عسكرية صغيرة في بيت هليل شمال إسرائيل.
كذلك، قلّل الجيش الإسرائيلي من أهمية اللقطات، قائلاً إنّ الفيديو “صُوّر بواسطة طائرة بدون طيار لأغراض الاستطلاع فقط ولم تتأثر عمليات القاعدة”.
بيان الجيش دفع صحيفة “معاريف” العبرية إلى القول: “لمن يهمّه الأمر، إذا كانت التفاصيل الواردة في الفيديو صحيحة فمن الصعب أن نبقى غير مبالين”.
وتجاوب ناشطون إسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي بسخرية مع البيان، وقال أحدهم: “إذا كان الأمر يتعلق فقط بالتصوير الفوتوغرافي، فلا يوجد ما يدعو للإثارة، من المؤكد أنّ حزب الله يريد الصور فقط ليحتفظ بها في ألبوم القواعد السرية”.