كان متوقعاً أن يكون افتتاح أولمبياد باريس 2024، حفلاً غير مألوف، وهذا ما شاهدناه، احتفاء بالتنوع والتعددية، وانتقاد للتاريخ الذكوري البطولي عبر لوحات فنية فكاهية تسخر من الكليشهات.
قبل انطلاق حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024، كان متوقعاً أن يكون البرنامج الاحتفالي غير مألوف، ليس لأن عاصمة الأنوار تستضيف هذا الحدث للمرة الأولى منذ 100 عام، ولكن أيضا لإرث فرنسا التاريخي والثقافي والسياسي، الذي يفرض مسؤولية مضاعفة على اللجنة المنظمة لتصدير هذه الجوانب.
المدير الفني لحفل الافتتاح توماس جولي، أشار في 19 تموز/يوليو الحالي إلى تطلعه للاحتفاء “بالتنوع والتعددية”، عدد آخر من منظمي الحفل، كالمؤرخ باتريك بوشرون والروائية ليلى سليماني، وعدوا قبل أيام بحفل افتتاح “يتناقض مع التاريخ الذكوري البطولي” وبلوحات فنية فكاهية “تسخر من الكليشهات”.
هذا الجانب من حفل الافتتاح، هو ما أثار حفيظة اليمين المتطرف الفرنسي والأوساط المحافظة، لتتحول الألعاب الأولمبية إلى محطة للتصويب الداخلي ولتسجيل نقاط سياسية.
في أحد المقاطع المصورة التي جرى بثها، ظهر ثلاثة أشخاص في وضعية غرامية، صحيح أن حفل الافتتاح انطوى على عدة رسائل مساندة لمجتمع الميم وللأقليات الجنسية، لكن هذا المشهد حاز على نصيب الأسد من الجدل والاستنكار على خلفية “محاباته للإباحية”.
استعادة للمقصلة !
الإشكال الثاني تسببت به الملكة الراحلة ماري أنطوانيت، خلال الحفل اتجهت الأنظار إلى قصر Conciergerie الواقع على ضفاف نهر السين، ليتابع الجمهور والمشاهدين لوحة فنية ظهرت خلالها سيدة مقطوعة الرأس، ترمز بمظهرها الخارجي للملكة ماري أنطوانيت وهي تغني إحدى أشهر أغنيات الثورة الفرنسية؛ على سبيل التوضيح قصر Conciergerie هو المكان الذي سجنت فيه ماري أنطوانيت قبل اقتيادها إلى المقصلة.
الأصوات المعترضة استهجنت التطرق إلى الثورة الفرنسية من هذا الباب، أي من خلال “نفس يساري يمجد القتل ويحرض على العنف”، علاوة على ذلك، ووفقاً للمعترضين على اللوحة، حَملُ ماري أنطوانيت لرأسها وتأدية أغنية ثورية من المكان الذي باتت فيه ليلتها الأخيرة، أشبه ما يكون بعملية تسخيف لمبدأ التصفية الجسدية للخصم السياسي وتصالح معه، آخرون هاجموا ازدواجية المعايير في أوساط اليساريين، الذين ذرفوا الدموع، مطلع العام الجاري، بعد رحيل وزير العدل السابق روبير بادنتير، الذي قاد مشروع إلغاء عقوبة الإعدام قبل 43 عاماً.
إشكالية العشاء الأخير و”الأقلية اليساريّة”
العشاء الأخير الذي ترأسه المسيح، أثار بدوره جدلاً، بعدما قام المنظمون باستحضاره على نحو كاريكاتوري من خلال مجموعة من “دراغ كوين”، مما دفع بالنائبة الأوروبية ماريون مارشال ابنة شقيقة مارين لوبان، للتغريد معتذرة من مسيحيي العالم على هذه الإهانة “التي لا تمثل فرنسا” والصادرة عن “أقلية يسارية حاضرة دوماً للاستفزاز”.
وبطبيعة الحال، من يسعى إلى تصدير الحضارة الفرنسية، لا يمكنه تجاهل اللغة الفرنسية، وما تمثله من وهج ثقافي وسياسي، وعليه جرى تخصيص لوحة فنية من أمام مبنى الأكاديمية الفرنسية، لوحة أدتها المغنية آيا ناكاسومورا التي توصف بالمطربة الفرنكوفونية الأكثر شهرة في العالم، وبرفقة فرقة موسيقية تابعة للحرس الجمهوري، الرسالة التي حملتها هذه اللوحة، هي مرونة اللغة الفرنسية وتحررها من أية قيود وتقاليد، مما يسمح لها بتحدي الزمن ويمنحها الديمومة اللازمة، لكن جوليان أودول المتحدث الرسمي باسم حزب “التجمع الوطني أبرز أحزاب اليمين المتطرف الفرنسي، رأى فيها إهانة للثقافة الفرنسية، الإهانة التي قصدها أودول، وعبر عنها العديد من المغردين، هو “تكريم اللغة الفرنسية” من خلال مطربة تحتوي أغنياتها على كلمات لا وجود لها في المعجم الفرنسي، كما قامت بأدائها مصحوبة بالحرس الجمهوري، الذي أهين عناصره بعدما طلب منهم التراقص، فيما يجب أن يكونوا رمزاً للانضباط.
طوال حفل الافتتاح، كانت ماريون مارشال الشخصية اليمينية المتطرفة، الأكثر نشاطاً على وسائل التواصل الاجتماعي، فاعتبرت أن بلادها اختارت الاحتفال بالقيم الرياضية والفرنسية من خلال دعاية تستند إلى أيديولوجية “الووك”، مضيفة أنه يصعب الاستمتاع باللوحات الفنية الناجحة وسط “ماري أنطوانيت مقطوعة الرأس” و”الدراغ كوين” و”إهانة الحرس الجمهوري”، تغريدة مارشال وأقرانها من اليمينيين المتطرفين قوبلت بالسخرية من قبل شخصيات عامة يسارية، ليعتبروا كلامهم دليلاً على نجاح حفل الافتتاح.
دوامة مستحيلة
كل الجدل المثار حيال ما ذكر أعلاه، أشبه ما يكون بدوامة يستحيل الخروج منها، إذ تتداخل السياسة بالتاريخ، بالقيم الاجتماعية وبالفلسفة الفنية، لكل منا نظرته الذاتية ومعاييره الخاصة وأولوياته، تدفعه إما إلى قبول تلك اللوحات الفنية وإما نبذها.
وسط هذه المعمعة يمكن استخلاص أمرين اثنين: على اعتبار أن اليسار الفرنسي متهم دوماً ب”الميوعة الاجتماعية والثقافية والسياسية”، وبسعيه الدائم إلى هدم كل ما يمت بصلة إلى النظام والانضباط، تحولت الألعاب الأولمبية إلى فرصة للتصويب على اليساريين من قبل اليمين المتطرف، لا سيما بعد تصدر تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” الانتخابات النيابية الأخيرة، ومحاولة فرض مرشحته لتشكيل الحكومة المقبلة، هذا التصويب يؤكد أن الداخل الفرنسي سيشهد مزيداً من التصعيد والتراشق الكلامي بعد انتهاء الحدث الرياضي.
الخلاصة الثانية تتمثل بتنشيط الذاكرة والتنبه إلى أن برنامج اليمين المتطرف الفرنسي، لا ينحصر في جوانبه السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، بل يحمل كذلك نظرة اجتماعية محافظة، مما يعني أن وصوله يوماً ما إلى موقع القرار الفرنسي، سيؤدي إلى صدام مع شرائح من المجتمع الفرنسي.
الجزائر تكرّم ضحاياها
أخيراً، لا بد من التوقف عند مقطع مصور حمل بدوره إشكالية سياسية، لكن لاعتبارات مختلفة، فقد انتشر مقطع مصور لأعضاء في الفريق الأولمبي الجزائري وهم يرمون الورود في نهر السين، تخليداً لذكرى ضحايا مجزرة 17 أكتوبر 1961 التي وقعت عقب تنظيم مظاهرة تحدت حظر التجول، الذي فُرض على الجزائريين المقيمين في فرنسا إبان حرب التحرير الجزائرية، المظاهرة قوبلت بقمع الشرطة، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى، جرى التخلص من جثث بعضهم من خلال رميها في نهر السين، مقطع مصور أعاد فتح هذا الجرح غير المندمل بين باريس والجزائر.