تمثل جماعة “أنصار الله”، المعروفة باسم الحوثيين، واحدة من أكبر المعضلات الأمنية بالنسبة إلى الغرب. كيف يمكن ضرب تنظيم عسكري لإجباره على الاستسلام في وقت لا يملك الكثير ليخسره بسبب الضربات؟ تباينت تحليلات المراقبين في اقتراح “الترياق” المناسب. يعتقد البعض أن الحلول العسكرية غير مفيدة، بينما يرفض آخرون رفع الراية العسكرية البيضاء.
تضامناً مع الفلسطينيين وسكان غزة بعد الغزو الإسرائيلي للقطاع، شن الحوثيون أكثر من مئتي هجوم بالصواريخ والطائرات بدون طيار ضد إسرائيل إنما من دون أضرار تُذكر. لكن في 19 تموز (يوليو) الماضي، أدت طائرة من دون طيار ضربت تل أبيب إلى مقتل شخص وجرح نحو 10 آخرين.
منذ نوفمبر (تشرين الثاني)، شن الحوثيون هجمات ضد نحو 70 سفينة تجارية مملوكة بمعظمها لإسرائيليين أو غربيين “يدعمون” تل أبيب بحسب بيانات الجماعة، مع أن سفناً أخرى بما فيها صينية وروسية لم تنجُ من نيرانها. أطلقت الإدارة الأميركية “تحالف حارس الازدهار” في ديسمبر (كانون الأول) 2023 لردع الحوثيين عن مهاجمة السفن وحماية الملاحة في البحر الأحمر.
اعتمدت الضربات الأميركية والبريطانية بشكل خاص على مهاجمة مراكز عسكرية للحوثيين من ضمنها منصات إطلاق صواريخ ورادارات. كان متوقعاً أن تكون فاعلية ضربات كهذه محدودة لأن الحوثيين ليسوا جيشاً كلاسيكياً يعتمد على مراكز ثقل واضحة يمكن استهدافها لخلخلة المنظومة ككل. والسياسة الأميركية التي أحاطت بالعمليات العسكرية لم تكن أفضل حالاً. مع إرسال إشارات مسبقة عن نوع أو محدودية الضربات، كما عن عدم رغبة واشنطن بإشعال حرب واسعة، كانت النتيجة معروفة سلفاً إلى حد كبير.
المعركة في مكان آخر
لفتت الباحثة في مؤسسة “راند” ألكسندرا ستارك إلى أن الحوثيين كانوا مستعدين لخسارة بعض القوة العسكرية لمصلحة كسب معركة الرأي العام والإعلام. بحسب ما كتبته ستارك في “فورين أفيرز”، قد تتمكن واشنطن من الفوز بالمعركة عبر نقلها إلى الميدان الإعلامي والتركيز على إخفاقات الحوثيين في الحكم وعلى إيذائهم عمالاً عاديين كانوا على متن السفن المستهدفة والتداعيات البيئية الناجمة عن ذلك، إضافة إلى احتجازهم موظفين أمميين. وتعتقد أيضاً أن وقفاً للحرب على غزة قد يوقف هجمات الحوثيين بالرغم من عدم وجود ضمانة لذلك بحسب رأيها.
إذا كانت واشنطن غير راغبة، أو بشكل مرجح، غير قادرة على دفع إسرائيل إلى طاولة التفاوض، لن يبقى أمامها الكثير من الخيارات لردع الحوثيين، إذا كان عليها الاستناد إلى مقترحات ستارك. فالدعاية الأميركية لن تكون قادرة على اختراق القاعدة الشعبية للحوثيين بشكل كبير، وهي القاعدة التي يستندون إليها في نهاية المطاف لتعبئة المزيد من المقاتلين.
ترتبط السياسة الأميركية تجاه الحوثيين بسياستها الأوسع تجاه إيران. ربما تمتنع أميركا عن فرض ثقل عسكري أكثر شمولية ضد الحوثيين – أي ما هو أوسع من “لعبة ضرب الخلد” التي انزلقت إليها أميركا – لعدم قطع قنوات التواصل مع إيران. بطبيعة الحال، ستستغل الأخيرة إشارات الضعف الصادرة عن واشنطن لمواصلة دعم الحوثيين. لهذا السبب، يشير البعض إلى ضرورة رفع سقف التحدي.
تكرار الأخطاء في أفغانستان
أشار نائب رئيس “معهد يورك تاون” شاي ختيري إلى أن ضرب قدرات الحوثيين لن ينفع وحده من دون قطع الإمدادات عنهم. بينما يذكّر بفشل أميركا في أفغانستان بعدما ظلت باكستان تدعم “طالبان” سراً، دعا ختيري في “وول ستريت جورنال” إلى إغراق السفن الإيرانية المحملة بالسلاح للحوثيين. لم يخشَ الكاتب من رد تصعيدي لأن إيران تراجعت عن الانتقام سنتي 1988 و2020 عندما تعرضت لهجمات قاسية مماثلة.
من الآمن توقع ألا تلجأ إدارة بايدن إلى نهج كهذا. استراتيجية بايدن الدفاعية لا الهجومية تبدو أقرب إلى أن تكون راسخة في “الحمض النووي” للإدارة؛ وربما على نقيض “الحمض النووي” للحوثيين. حتى السفينة التجسسية التي وضعتها إيران في خدمة الحوثيين لمساعدتهم على ضرب أعدائهم لم تخضع لتهديد أميركي بالاستهداف.
هل هذه نقطة الضعف؟
بعد نحو 24 ساعة من استهداف تل أبيب، ردت إسرائيل بقصف كبير لميناء الحديدة. ضرب الإسرائيليون رافعات وأرصفة وخزانات نفطية مما تسبب بحرائق استمرت أياماً. اللافت أنه منذ 19 تموز ولغاية إعداد التقرير، لم يرد الحوثيون على الضربة الإسرائيلية بالرغم من البيانات التي هددت بالانتقام وبمقابلة “التصعيد بالتصعيد”. حتى أول تحرك عسكري في البحر الأحمر يعلن عنه الحوثيون – إسقاط مسيّرة أميركية – جاء بعد نحو أسبوعين من الهجوم على الحديدة. فهل تسببت الضربة الإسرائيلية بإيذاء الحوثيين؟
(غارة إسرائيلية على الحديدة – أ ف ب)
يعتقد “معهد الدراسات السياسية الدولية” التابع لجامعة ميلان، أن الضربة الإسرائيلية تختلف عن الضربات الأميركية السابقة بأنها استهدفت البنية التحتية لميناء الحوثيين الأساسي. قلص ذلك القدرة الاستيعابية لمنشآت الحوثيين من 150 ألف طن من الوقود إلى 50 ألفاً.
وبحسب تقرير المعهد نفسه، كان هدف الهجوم الإسرائيلي إضعاف الأصول الاقتصادية والاستراتيجية للحوثيين لإنهاك قدراتهم الهجومية وشريانهم المالي، حيث يمثل ميناء الحديدة أكثر من 40 في المئة من وارداتهم الجمركية.
ماذا بعد؟
تشكك مجلة “إيكونوميست” في أن تكون إسرائيل قادرة على تحويل رحلات جوية على مسافة 2000 كيلومتر إلى أمر روتيني من أجل قصف الحوثيين. بالمقابل، لم يستطع الحوثيون فرض نقص في السلع أو تضخم على الاقتصاد الإسرائيلي، لأن إصاباتهم أتت عن طريق “الصدفة”. لكن المجلة تشير إلى أن الاقتصاد اليمني لا يزال في حال من الفوضى بسبب الحوثيين.
ربما كانت نقطة ضعف الحوثيين، أو إحداها على الأقل، البنية التحتية المدنية لا العسكرية. الثابت لغاية اليوم أن أميركا والحلفاء لن يستهدفوا البنى المدنية خشية من أن يعظموا المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لليمنيين. لكن استمرارهم في نهج “الوخزات”، على حد تعبير النائب الأول لـ “مجلس السياسة الخارجية الأميركية” إيلان بيرمان، لن يجدي نفعاً. بذلك، قد يواصل الحوثيون فرض معضلة على الغرب في المستقبل القريب، وإن طغى مؤخراً الاهتمام بالتصعيد بين إسرائيل من جهة، وإيران و”حزب الله” من جهة أخرى.