في المشهد المتشكل في الولايات المتحدة يظهر الرئيس الأميركي جو بايدن كشخص قديم في مكان يتغير، حمولته من الأفكار قديمة وأدواته قديمة، الكتب التي قرأها قديمة وذكرياته التي تظهر فيها غولدا مائير كشخصية ملهمة تبدو الآن خارج الزمن، الرجل الذي يتعثر في فقاعته يبدو، في أفضل أحواله، أسيراً ملتبساً لعباراته المأثورة التي لم يعد ممكناً صقلها، عبارات من نوع: “لو لم توجد إسرائيل لكان علينا أن نوجدها” بكل ما يحمل هذا التعبير من حسد واضح لبلفور، وزير الخارجية البريطاني صاحب الوعد الشهير الذي تسبب في كل هذه الفوضى والظلم وحقول القتل التي لم تتوقف منذ ما يزيد على عشرة عقود، أو عبارة “ليس من الضروري أن تكون يهودياً لكي تكون صهيونياً”، ما جعل رئيس وزراء إسرائيل السابق لابيد يمنحه في لحظة عاطفية صفة “الصهيوني القوي”. الإدارة الأميركية تستثمر كل شيء: صهيونية بايدن ويهودية بلينكن، الذي استثمر بدوره يهوديته لتبرير إبادة الفلسطينيين.
سيارة قديمة متهالكة على طريق سريع، هذا ما يبدو عليه أمر بايدن من حيزه الذي هو مزيج مركب من التقدم في السن وفوات الوقت، والرغبة الملحة في تجديد ولايته الرئاسية وشبح ترامب، واستطلاعات الرأي، والبحث عن الورقة اليهودية كمنقذ من الهاوية.
في الشارع خارج سياج البيت الأبيض لا تذهب الأمور في هذا الاتجاه، وفي تحول واضح يمكن ملاحظة الدور النشط والحيوي الذي تقدمه كتلة متماسكة من المجتمع اليهودي في أميركا، التي تقود احتجاجات ناجحة ضد سياسة الرئيس الصهيوني والوزير اليهودي، وهي ترفع شعارها الواضح “ليس باسمنا”، ليس من حقكم أن تفعلوا ذلك.
سترفع هذا الشعار في مبنى الكونغرس وفي تمثال الحرية، وعلى مرأى من سكان المكتب البيضوي في العاصمة واشنطن وفي محطة قطارات نيويورك.
لم يعد الاحتجاج اليهودي ضد سياسة الانحياز المطلق للاحتلال الإسرائيلي محصوراً في طائفة دينية أرثوذكسية (“أناطوري كارتا”)، التي دأب أعضاؤها وحاخاماتها على رفع الأعلام الفلسطينية في اعتراض عقائدي على الصهيونية، واحتجاجاً على وجود إسرائيل نفسها بصفتها خطيئة شرعية، ولكنه يضم الآن فئات من الشباب والديموقراطيين والمثقفين والأكاديميين ومؤسسات للمجتمع المدني الذين يصلون من مواقع ليبرالية، ومؤسسات الحقوق المدنية والدوائر الأكاديمية والثقافة العلمانية، أو من يساريين إسرائيليين غادروا إسرائيل في العقدين الأخيرين، وبالتأكيد بتأثير من الدأب الشجاع الطويل النفس الذي يواصله كتاب ومؤرخون مثل إيلان بابيه وجدعون ليفي وأميرة هس.
هذا ليس جديداً تماماً، لطالما كانت التيارات المعارضة للاحتلال الإسرائيلي موجودة في المجتمع اليهودي الأميركي وبدرجة أقل في المجتمعات الغربية، بخاصة في أوساط المثقفين، على شكل حلقات من الناشطين الداعمين للحقوق الفلسطينية والمعارضين للاحتلال، ولكنه يظهر الآن خلال الهجوم الإسرائيلي المتوحش على غزة وصيحات القتل والانتقام التي يطلقها مجلس الحرب تحت مظلة حملة “السيوف الحديدية”، أكثر وضوحاً وتماسكاً وتنظيماً ويترك تأثيره في الشارع في الولايات المتحدة. “ليس باسمنا” هي صيحة اليهود الذين خرجوا من “غيتو” الكراهية الذي حاولت حكومة نتنياهو وحكومات إسرائيل المتتابعة أن تحيطهم به وترتكب جرائمها باسمهم عبره.
الاحتجاج اليهودي مساهمة قوية في سحب الغطاء عن جرائم الاحتلال وعدم مشروعيته، وهو احتجاج شجاع يقدم أثراً مزدوجاً في حماية الاحتجاج الواسع الذي يواصل اتساعه في الشارع الأميركي ضد المجزرة من التهم الجاهزة بـ”معاداة السامية”، ويساعد في تبهيت موقف الإدارة الأميركية الشريك في الإبادة الجماعية المستمرة، ويعزز وجود الصوت اليهودي الديموقراطي بثقافته الإنسانية كشريك في مواجهة الفاشية الإسرائيلية المنفلتة، وسياسة الإبادة الجماعية ومنظومة الأبارتيد الحاكمة في إسرائيل.
“ليس باسمنا” استخدام ووعي عميقان لتاريخ الكارثة اليهودية، وعندما يُرفع في وجه منفذي الإبادة الجماعية في فلسطين يتحول إلى تفسير إنساني لعبارة “لن يتكرر”.