هكذا يرى الإعلام الإسرائيلي غزة، يعتّم ويخفي الحقيقة والمعلومات حول “الإبادة”، يمارس الكذب حتى على الإسرائيليين، وكأنهم يتحدثون مع أنفسهم بلغة القتل وكراهية الفلسطينيين، الذين لا تذكر المجازر التي ارتُكبت بحقهم ولا أعداد القتلى والجرحى
كتبت الصديقة نور على حسابها على منصة X: “الناس اللي بيوتها صغيرة وسقفها توتياء صارت تحمد الله على هالنعمة، عشان بيقدروا يطلعوا أهلهم من تحت الأنقاض بسرعة وبدون معدات حفر”.
هذا الواقع الكارثي في غزة التي أصبحت مقبرة جماعية للأطفال كما وصفتها صحيفة “واشنطن بوست”، فهناك نحو 2000 مفقود تحت أنقاض البيوت المدمرة جراء قصف الطائرات الحربية الإسرائيلية، وعدم قدرة فرق الإنقاذ والدفاع المدني على إسعاف المُصابين أو القتلى، أو الأحياء الذين تحت الركام، فعدم توافر الآليات والأجهزة الحديثة التي تحدّد مكان الضحايا، جعل “حياة” أحدهم تحت البناء المهدم موضع شكّ.
أثناء كتابة المقال في ساعات العصر من اليوم 31 للحرب، كانت حركة الطيران الحربي وطائرات الاستطلاع كثيفة في مخيم الشابورة برفح. توقع الناس أن يكون هناك قصف لاحقاً. وفعلاً، نحو الساعة العاشرة مساء، قصفت الطائرات الإسرائيليّة منزلاً يبعد عن مكان إقامتنا نحو 400 متر، وتطاير الركام والشظايا فوق البيت الذي نقيم فيه. بعد ساعة تقريباً، علمنا بتدمير منزل لعائلة الحمايدة بالكامل من دون أي إنذار، وقتل 5 من أفراد العائلة، امرأة وأولادها الأربعة، وأصيب العشرات منهم.
صباح الأحد بداية الأسبوع الخامس للحرب، عادت الاتصالات والإنترنت بعد توقف لساعات، استضافت وسائل الإعلام الإسرائيلية، بخاصة الرسمية، كل من هب ودب من المحللين، لا سيما الجنرالات العسكريين المتقاعدين والأكاديميين، لوضع التصورات والاقتراحات والخطط لما بعد تدمير “حماس”، ومحاولة الإجابة عن سؤال: “من الذي سيحكم غزة؟”.
غزة في وسائل الإعلام الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية ونشرات الأخبار، هي دمار وخراب، نشاهدها من صور جويّة تكشف حجم الدمار والهمجية الإسرائيلية. تصوّر غزّة كساحة حرب وقتال عبر فوهة المدفع، من دون بشر ومن دون أطفال قتلى. هكذا يرى الإعلام الإسرائيلي غزة، يعتّم ويخفي الحقيقة والمعلومات حول “الإبادة”، يمارس الكذب حتى على الإسرائيليين، وكأنهم يتحدثون مع أنفسهم بلغة القتل وكراهية الفلسطينيين، الذين لا تذكر المجازر التي ارتُكبت بحقهم ولا أعداد القتلى والجرحى.
“الناس اللي بيوتها صغيرة وسقفها توتياء صارت تحمد الله على هالنعمة، عشان بيقدروا يطلعوا أهلهم من تحت الأنقاض بسرعة وبدون معدات حفر”.
أسهل اتهام يُوظفه الإسرائيليون هو “معاداة الساميّة”، فالخطاب السائد الآن هو أن إسرائيل تحارب حفاظاً على وجودها ومستقبلها، ولا يتم الحديث عن الحقوق الفلسطينية. كما يقال إن التظاهرات حول العالم هي ضد إسرائيل، لا لوقف الحرب والمجازر. يرافق هذا الاتهام خطاب الكراهية والعنصرية الموجّه ضد كل من يعبر عن أي موقف إنساني مع غزّة، بغض النظر عن العرق والجنس والدين، فالتعاطف مع الضحايا والدعوة الى إيقاف “جريمة الابادة” ومقتل نحو 4000 طفل فلسطيني، مدعاة للانتقاد وحملات الشتم الإسرائيليّة. هذه الحملات التي توازيها أخرى، تتهم سكان غزّة بأنهم “المجرمون” في حرب غير متكافئة! ناهيك بغياب أي معيار أخلاقي أو قانوني، وتفصيل القانون الدولي الإنساني حسب وجهة نظر إسرائيل ومصالحها، لكن الأخطر هو خطاب الفوقية اليهودية والتفوق العرقي الذي يردد علناً من دون خوف أو تفكير.
نلاحظ في الإعلام الإسرائيليّ، محاولة التذاكي وتصدير “خطاب كراهية” ضد العرب والمسلمين بشكل عنصري، ترافقه دعوات الانتقام من كل الفلسطينيين، ونفي صفة الإنسانية عنهم، وتبرير كل الجرائم تحت بند “الحق بالدفاع عن النفس”، لكن أليس التعتيم الإعلامي ونقل رواية واحدة وموجّهة من الجيش وإخفاء الحقيقة، انتهاكاً لحق الإسرائيليين بالحصول على المعلومات؟
الأخطر هو الضغط على وسائل الإعلام الغربية وابتزازها، وتوفير الغطاء السياسي والدبلوماسي للانتهاكات التي يرتكبها الجيش الإسرائيليّ، وكأن وسائل الإعلام الغربية يتم توجيهها نحو خطاب محدد، على رغم تبعيّتها للدول، ويحصل الكثير منها على ميزانيته من أموال دافعي الضرائب.
ماذا يحدث في شوارع أوروبا وأميركا؟
مساء السبت الماضي، أجرت هيئة البث الرسمية “كان” مقابلة مع تسيبي هوتوفلي، سفيرة إسرائيل في بريطانيا، وكان الحديث عن التظاهرات التي نُظمت خلال الأسابيع الماضية في العاصمة لندن ضد الحرب على غزة. تساءل المذيع باستغراب، كيف تسمح السلطات البريطانية لهؤلاء “المعادين للساميّة من المسلمين واليساريين بالتظاهر “، وكيف لم تتخذ إجراءات حاسمة بمنعهم أو اعتقالهم، قائلةً إنه يجب على السلطات الضرب بيد من حديد ضدهم!.
صباح الأحد أيضاً، أجرت “كان” مقابلة مع سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة الأميركية مايكل أورن، الذي قال إن “الوضع الآن ليس لصالحنا، التظاهرات تعم شوارع العالم في أوروبا والولايات المتحدة، والجميع يحتج ضد قتل الأطفال الفلسطينيين في غزة”. وأضاف أن معاداة الساميّة تتعاظم في أميركا و الاحتجاجات تعم كل مكان، ليس فقط في ولايات الجنوب الأميركية التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي، بل في كل الولايات الأميركية، فـ”كراهية اليهود ومعاداة الساميّة تزدادان في العالم، وحياة اليهود في خطر وكأن العالم نسي ما حصل في 7تشرين الأول/ أكتوبر” .
لا يتطرق الإعلام الإسرائيلي الى الكارثة الإنسانية وعدم توافر الوقود، ويتبجح الإعلام والمسؤولون الإسرائيليون العاديون بإصرارهم على عدم السماح بدخول الوقود والمساعدات الإنسانية، وعدم حاجة الفلسطينيين إليهما في غزة، فـ”هم جزء من حماس”.
إنهم يخفون حقيقة ما يحصل !
لا يتحدث الإعلام الإسرائيليّ عن ندرة المياه والطعام والدواء لجميع المرضى، بخاصة مرضى السرطان الذين يحتاجون الى علاج في الخارج، وكذلك أصحاب الأمراض المزمنة الذين نفدت أدويتهم مثل مرضى السكر والقلب والضغط، والذين أصبحوا يتناولون أدوية بديلة أو مشابهة لأدويتهم، وغيرهم من مرضى الكلى والمصابين بأمراض نادرة.
الأوضاع تتعقد وتزداد كارثية، وثمة نفاد شبه كامل للمواد الغذائية الأساسية، حتى البن بدأ ينفد من المحال التجارية. وهذا بدا واضحاً على الناس المنهكين الذين يحاولون الحفاظ على صمودهم بالصبر، لكن قدراتهم المنهكة تؤثر على قدرتهم على الاحتمال.
في ظل ندرة الطحين وتعطّل بعض المخابر، أصبح سعر كيس طحين وزنه 25 كيلوغراماً (إن وُجد) 120 شيكلاً، أي نحو 30 دولاراً، بعدما كان يباع قبل الحرب بـ27 شيكلاً، ترافق ذلك مع عدم قدرة المخابر على توفير الحد الأدنى من الإنتاج والحاجة الكبيرة إلى الخبر الذي يعتمد عليه الفلسطينيون في وجباتهم الثلاث اليومية الرئيسية.
الوجبات في ظل الأزمات الخانقة التي تعصف بغزّة، تتكون عادة من رغيفين فقط، وفلفل أحمر مخروط أو الدقة الغزاوية (بصم الدال)، وهي ماركة مسجلة باسم غزة، مصنوعة من القمح المحمص والسماق والفلفل الشطة والملح، تطحن هذه المكونات حتى تصبح كالطحين، أو رغيف وزعتر، لكن من دون زيت الزيتون الذي ضاع موسمه مطلع شهر تشرين الأول، إذ بقي الزيتون على الشجر ولم يقطفه أحد. هذه الوصفات كانت تشكل وجبة دسمة للصغار والكبار.
لكن كل ما سبق غير متوافر في مراكز الإيواء التي تقلصت كميات الخبر فيها، وأصبحت حصة الفرد رغيفاً واحداً فقط. ومن مشاهدتي للناس في مراكز الإيواء، بدأت تظهر ملامح الجوع والهزال على النازحين، فالأخبار عن وصول المساعدات الإنسانية القليلة جداً، كذب فوقه كذب، إذ تخضع لتفتيش دقيق وقيود صارمة، وما زالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين “أونروا” والمؤسسات الدولية مثل برنامج الغذاء العالمي ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية، عاجزة عن توفير الاحتياجات الأساسية للنازحين، بسبب منع إسرائيل دخول المساعدات، سواء إلى مراكز الإيواء أو إلى الذين نزحوا عند أقاربهم وأصدقائهم.
ضمن كل التعتيم والكذب، تخرج بعض الجمل من بعض الصحافيين التي تحاول تشتيت غمامة الكراهية والانتقام، ففي لقاء مع الجنرال جيورا آيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، وأحد واضعي خطة الانفصال عن غزة، يقول إن “حماس لم تنكسر وهي مستمرة في القتال والقيادة والسيطرة، والجيش البري لا يتقدم كثيراً، والوضع صعب”، فعلق المذيع بالقول: “ليس لدينا الكثير من الوقت، الانتصار البارز كان في حرب الأيام الستة، وكان هذا حدث لمرة واحدة، أما باقي الحروب فلم ننتصر فيها”.
في منشور على “فيسبوك”، قال المحلل العسكري المشهور في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل: “التأكيدات حول تدمير حماس هي تصريحات عامة، وهذا ما تم توضيحه ومن الصعب ترجمته الى أفعال، لقد قلت سابقاً إن معظم ما قاله الجيش هو دعاية، الهدف منها استغفال الجمهور الإسرائيلي. كتبت في منتصف الشهر الماضي، من الصعب تدمير حماس من دون تدمير كل غزة”.