يبدأ الجنوب اللبناني جغرافيا، من مدخل مدينة صيدا، التي تسمّى بوابة الجنوب، ويتصل بالحدود مع إسرائيل، ويشمل محافظتي الجنوب والنبطية، ويقسمه نهر الليطاني إلى ما يشبه جزيرتين، تتصل ضفتاها عبر جسور رئيسة وفرعية، أهمها جسور القاسمية وطيرفلسيه والقاعقعية والخردلي.
وتعرف المنطقة التي تقع قبل الجسور باتجاه بيروت باسم منطقة شمال النهر. أما المنطقة باتجاه الحدود مع إسرائيل فتسمى منطقة جنوب النهر، وكانت إسرائيل احتلتها بعد “عملية الليطاني” عام 1978، وانسحبت منها عام 2000، وكانت تخضع لشبه إدارة ذاتية بقيادة “جيش لبنان الجنوبي”، الذي تشكّل من جنوبيين موالين لإسرائيل. وتنتشر فيها قوات حفظ السلام (اليونيفيل) التابعة للأمم المتحدة، للمساعدة على حفظ الأمن بالتعاون مع الجيش اللبناني.
وتقسم منطقة جنوب النهر إلى ثلاثة قطاعات: الغربي في محافظة الجنوب، والأوسط والشرقي في محافظة النبطية، وتتألف من قرى أمامية تشكل اليوم حدود “قواعد الاشتباك”، وخلفية آمنة مؤقتا، وهي بمثابة ثكنة عسكرية لـ”حزب الله”، منذ انسحاب إسرائيل، بالرغم من أنها من المفترض أن تكون مناطق منزوعة السلاح، عملا بموجبات القرار 1701 الصادر عن الأمم المتحدة عقب حرب العام 2006، والقاضي بوقف العمليات العكسرية بين لبنان وإسرائيل.
ويُعتبر القطاع الأوسط خزان “حزب الله” البشري ومركز ثقله العسكري، لكونه يحوي أعلى كثافة سكانية شيعية حدودية موالية له، في مواجهة سهل مفتوح من المستعمرات والثكنات العسكرية. ويضم هذا القطاع مدينة بنت جبيل وشريطا من القرى الشيعية الصافية، مثل: عيناتا وعيترون وعيتا ويارون ومارون الراس. والأخيرة تعد أهم نقطة استراتيجية في القطاع، لتمركزها على تلة عالية، تكشف مساحة واسعة وعميقة من مستعمرات الجليل الأعلى، وتقع مستعمرة أفيفيم، التي أقيمت على أنقاض بلدة صلحا، في مجال نيرانها.
ويضم الأوسط أيضا، شريطا حدوديا من القرى المسيحية المارونية، المنفصلة سياسيا وثقافيا عن المحيط الحزبي الشيعي، وموالية في غالبيتها لحزب “القوات اللبنانية”، مثل رميش وهي أكبر رعيّة مارونية في المنطقة ودبل وعين إبل والقوزح. وكل قرية منها يفصلها أقل من ثلاثة كيلومترات عن الحدود، ولها ارتباط ثقافي تاريخي بالناصرة الفلسطينية. وكانت إسرائيل قد أطلقت عليها زمن الاحتلال تسمية “الجدار الطيب”، وهي سياسة احتواء إسرائيلية، استهدفت القرى المسيحية في الجنوب اللبناني، مع توسع باتجاه القرى الشيعية والسنية. وقامت تلك السياسة على أساس تقديم الخدمات لتعويض التقصير الحكومي، وسرعان ما تطورت باتجاهات مختلفة بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.
يضم القطاع الشرقي قرى متنوعة ومختلطة طائفيا، وأخرى ذات لون طائفي واحد، وتحوي قراه المنتشرة على مساحة قضاء مرجعيون وقضاء حاصبيا، أكبر كثافة سكانية على الحدود
يحتوي القطاع الشرقي على نقاط استراتيجية مهمة، وتعد قراه التي تُشرف على مواقع مراقبة ونقاط عسكرية إسرائيلية متقدمة، مركزا ومنطلقا للعمليات العسكرية التي ينفّذها “حزب الله”. ويضم قرى متنوعة ومختلطة طائفيا، وأخرى ذات لون طائفي واحد، وتحوي قراه المنتشرة على مساحة قضاء مرجعيون وقضاء حاصبيا، أكبر كثافة سكانية على الحدود، مقابل كثافة استيطانية من جهة إسرائيل.
القرى الأمامية التي يتشكل منها القطاع الشرقي تبدأ من بليدا، صعودا باتجاه ميس الجبل، وحولا، ومركبا، وعديسة، وهبوطا باتجاه كفر كلا، وكلها قرى شيعية خالصة. وتطل حولا التي ارتكبت فيها إسرائيل مجزرة في عام النكبة راح ضحيتها 80 شخصا، على مستعمرة مرغيليوت، هونين سابقا. وتطل عديسة على مستعمرات مسكاف عام، وكفر جلعاد، والمنارة، وتُجاور أقرب نقطة مراقبة للجيش الإسرائيلي، وفيها حدثت “حرب الشجرة” عام 2010، بعدما حاولت جرّافة إسرائيلية اقتلاع شجرة لنصب كاميرا مراقبة، متجاوزة السياج التقني، وراح ضحيتها جنود من الجيش اللبناني والصحافي عساف بورحال. وتتداخل أراضي كفر كلا مع الأراضي الإسرائيلية، بحيث ينتصب الجدار الفاصل الذي بنته إسرائيل، في منتصف ساحتها، كما تشتهر بـ”بوابة فاطمة”، المعبر الذي كان يقود قبل الانسحاب إلى داخل إسرائيل، ثم تحول لاحقا إلى مزار لمن يرغب في إلقاء نظرة عليها، وكثيرا ما التقى عنده فلسطينيون من الداخل مع أقاربهم في المخيمات اللبنانية بعد سنوات من الانسلاخ. بعدها ينعطف القطاع الشرقي باتجاه بلدة الخيام المختلطة، من غالبية شيعية وأقلية مسيحية مكونة من أربع كنائس، وينفتح سهلها على مستعمرة المطلة، بمسافة تقل عن كيلومتر واحد، ثم يغوص عميقا باتجاه الشرق في خطين.
الخط الأول نزولا نحو منطقة الوزاني، حيث تظهر إلى اليمين مستعمرة كريات شمونة وكيبوتسات دان ودفنا وهيغوشريم، بمواجهة بلدات الوزاني وسردا والعمرة وعين عرب والعباسية ذات الغالبية السنية، عند مثلث الجليل الأعلى على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية– السورية، أسفل هضبة الجولان وعلى بعد رمية حجر من سهل الحولة في إسرائيل. وتسبّبت الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة على تلك القرى، منذ أواخر الستينات إلى اليوم، في تهجير سكانها، على مراحل، وصولا إلى الإخلاء التام. وقد عاد إليها، عدد من عائلات المزارعين ورعاة الماشية، على مراحل أيضا، بينما استوطنت غالبيتهم في مشاعات منطقتي النبطية وصور.
والخط الثاني صعودا نحو منطقة العرقوب، التي تمتلك خطا حدوديا ساخنا على مدار الأعوام والأحداث. ويتألف هذا الخط من قرى كفر شوبا وشبعا والهبارية ومزرعة بسطرا، والأخيرة تقع في أعالي المنطقة، وهي المزرعة الوحيدة غير المحتلة، من أصل 14 مزرعة محتلة، والتي تعرف بمزارع شبعا.
استقبلت قرى منطقة العرقوب، أولى طلائع اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة، وشكلت مهدا لعمليات الفدائيين الأوائل، ضد عصابات المستوطنين، وتحوّلت بعد “اتفاق القاهرة” عام 1969، إلى منطلق لعمليات المنظمات الفلسطينية، ضمن ما عرف بـ”فتح لاند”، وتحمّلت العبء الأكبر من ضريبة المقاومة، التي كانت حينها، ذات طابع قومي، وطني، يساري، ودفعت في سبيلها، أثمانا باهظة قتلا ودمارا وتهجيرا، وما زالت.
ويصل هذا الخط إلى حلتا والماري والمجيدية في حاصبيا، القرى ذات الغالبية الدرزية، التي تقع في منطقة حدودية ضيقة وعلى تماس مباشر مع إسرائيل.
يحوي القطاع الغربي تنوعا طائفيا شيعيا، سنيا، مسيحيا، والبلدات المتاخمة للحدود هي في غالبيتها ذات طابع سني، وهي بلدات مهمّشة وفقيرة
تبدأ حدود القطاع الغربي من شواطئ البحر المتوسط، وتحديدا من بلدة الناقورة، التي تبعد ثلاثة كيلومترات عن إسرائيل، ويصل بمسير حدودي طولاني إلى بلدة راميا، لكن الناقورة خارج نطاق عمليات “حزب الله” العسكرية، بسبب وجود المركز الرئيس لقيادة “اليونيفيل” فيها.
ويحوي القطاع الغربي تنوعا طائفيا شيعيا، سنيا، مسيحيا، والبلدات المتاخمة للحدود هي في غالبيتها ذات طابع سني، مثل: الظهيرة والبستان ومروحين ويارين، وهي بلدات مهمّشة، فقيرة، تعاني حرمانا حقيقيا من قبل الدولة، ويعتاش أهلها من الزراعة ورعي الماشية، ولولا اتّباع “اليونيفيل” سياسة العناية بشؤون المجتمعات المحلية، وتقديم المشاريع الإنمائية، لتحولت إلى خرائب خالية من الحياة، خصوصا أنها شهدت عدة مجازر إسرائيلية. هذا الواقع المأساوي يتبدل في علما الشعب، البلدة المسيحية الوحيدة في هذا المحيط المسلم، حيث تُعنى بشؤونها الأحزاب المسيحية والكنيسة، وصولا إلى راميا وهي قرية شيعية صغيرة الحجم قليلة السكان وشبه مهجورة منذ الاحتلال. ومقابل القطاع الغربي تنتشر مستعمرات نهاريا وزرعيت وغيرها.
دورية لـ”اليونيفيل” في بلدة كفركلا الحدودية في 10 أكتوبر
والقطاع الغربي هو المنطقة الوحيدة جنوب النهر، التي تحوي مخيمات فلسطينية، أكبرها وأكثرها كثافة مخيم الرشيدية قرب صور، وهو أقرب نقطة فلسطينية إلى الحدود، ثم مخيما البص، وبرج الشمالي، إضافة إلى تجمعات فلسطينية صغيرة منتشرة على حواف بساتين الموز والحمضيات.
كل مناطق جنوب النهر محظورة على غير اللبنانيين، عربا وأجانب من كل الجنسيات، ويحتاج الدخول إليها إلى إذن عبور من قيادة المنطقة في الجيش اللبناني، لكن هذه القاعدة لا تُطبّق في القطاع الغربي، ذلك أن المخيمات الفلسطينية مقامة على أراضي ما بعد جسر القاسمية أي جنوب النهر، منذ أوائل أيام النكبة.
هذا الوضع يستغلّه “حزب الله” جيدا، الآن وفي كل آن، فهو يجنبه تهمة خرق “قواعد الاشتباك”، حين تستخدم التنظيمات الإسلامية الفلسطينية، سهل القليلة الذي يقع خلف علما الشعب، كمنصة لإطلاق الصواريخ.