يروي العميد الركن المتقاعد، جان ناصيف، في كتاب مذكراته، كيف ألقى الجيش اللبناني بداية الستينيات القبض على مجموعة فدائية فلسطينية مسلحة، قامت بنصب صواريخ كاتيوشا انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، وأطلقتها باتجاه الأراضي المحتلة في فلسطين. ولدى عودتهم إلى الداخل اللبناني وقعوا في قبضة الجيش الذي باشر تحقيقاً معهم. وقد تبين أن قائد المجموعة يدعى “الرقيب عبدالله”، لتكشف التحقيقات المركّزة أن الرقيب عبدالله لم يكن إلا القائد الفلسطيني ياسر عرفات “أبوعمار” نفسه، الذي خاض بعد ذلك، مع رئيس الشعبة الثانية آنذاك المقدم غابي لحود، نقاشاً طويلاً دفاعاً عن قناعاته بضرورة إطلاق العمل الفدائي المسلح، انطلاقاً من الدول العربية المحيطة بفلسطين، لتحريرها، ومنها بالطبع لبنان.

الأحداث التي جرت إثر ذلك، باتت معروفة ومتداولة في التاريخ اللبناني، حيث تطور الأمر إلى صدامات مع الجيش اللبناني في أكثر من واقعة، وصولاً إلى توقيع اتفاق القاهرة الشهير  في 3 تشرين الثاني 1969 من قبل قائد الجيش اللبناني رئيس الوفد المفاوض آنذاك، العماد إميل بستاني.

كان واضحاً وجلياً أن رغبة البستاني بالوصول إلى رئاسة الجمهورية، قد لعبت دوراً في موقفه المتراخي والمتساهل في التوصل إلى الاتفاق آنذاك، أمام المطالب الفلسطينية الحساسة الكثيرة، والضغوط العربية المتعددة بتشريع ما عرف بـ”حرية العمل الفلسطيني المسلح من لبنان”، أيام حكم الرئيس جمال عبد الناصر في مصر، وشارل حلو المتخفف والمتردد في لبنان.

كانت الدول العربية، بعد فشلها العسكري في مواجهة إسرائيل تريد أن تظهر أمام الرأي العام أنها تناصر القضية الفلسطينية وتدعم المقاومة المسلحة والفدائيين الفلسطينيين. لهذا تركز الضغط المعنوي والإعلامي على لبنان، لتلقف هذه المسؤولية والقيام بالواجب القومي.

في النهاية، منح اتفاق القاهرة المقاومة الفلسطينية ومنظماتها المتناسلة حرية العمل الفدائي المسلح انطلاقاً من لبنان، والتي سيطرت على منطقة قرى العرقوب، والتي عرفت بـ”فتح لاند”. وقد نالت منظمة التحرير الفلسطينية، تفرداً في إدارة هذا الملف في المخيمات. وهو ما مهد لقيام سلطتين داخل نطاق سيادة دولة واحدة، وقيام دولة المخيمات الفلسطينية داخل أراضي الدولة اللبنانية، بالتوازي مع سلطتها السياسية والعسكرية.

أقفلت الدول العربية حدودها أمام النشاط الفدائي، وامتنعت وتمنعت باقي دول الطوق عن منح المنظمات الفلسطينية هذه الحرية. بعدها كانت أحداث ومواجهات الأردن المعروفة بعد هزيمة 1967 وقد انتهت عام 1970 بإخراج السلاح الفلسطيني منه، وتراجع دور دول الطوق، في مقدمتها مصر، في ظل إقفال حدود سوريا بطبيعة الحال أمام العمل الفلسطيني المسلح.

تحول كل التركيز والضغط على لبنان، وانطلاقاً منه، لتحرير فلسطين السليبة. وتحولت دولة لبنان التي يفترض أنها دولة مساندة إلى الدولة الوحيدة المواجهة لأطماع وقوة وبطش إسرائيل المحتلة.

لم تسلم أغلب قرى الجنوب اللبناني من انعكاسات العمل الفلسطيني المسلح في إطلاق الصواريخ والعمليات الفدائية الفلسطينية، وتلقي رد الفعل الإسرائيلي الانتقامي.

حُمّل لبنان أكثر من قدرته وقدرة تركيبته المتنوعة المتعددة والهشة على الاحتمال، فانفجرت تحت ضغط المطالب والمواجهات الداخلية المتصلة بالعمل الفدائي المسلح انطلاقاً من أراضيه.

تدحرجت الأمور والتطورات الداخلية بأحداث معروفة، إلى حين انفجار الحرب الأهلية من شرارة عين الرمانة عام 1975.

مرد هذا الكلام الاستعادي اليوم، هو عودة قرى الجنوب اللبناني مسرحاً لحرية العمل الفلسطيني المسلح، انطلاقاً من قرى الجنوب باتجاه إسرائيل، تحت يافطة وشعار “وحدة الساحات” التي رفعتها القوى والمنظمات المسلحة المتصلة بإيران، دعماً وتسليحاً، وبات لا تكاد تمضي بضعة أيام، في حرب المشاغلة الدائرة بالتوازي مع حرب غزة، إلا وتعلن كتائب القسام التابعة لحماس عن عملية ما انطلاقاً من لبنان. وقد انضمت مؤخراً قوات الفجر التابعة للجماعة الإسلامية إلى هذا النطاق المتصاعد والمستجد.

ما من شك أن هذه التطورات الجديدة، أي اتساع نطاق العمل المسلح في مواجهة اسرائيل انطلاقاً من لبنان، يتم باشراف وتنسيق حزب الله، قائد القوى المسلحة المنتشرة في الساحات الموحدة التي تتولى المقاومة.

للتذكير، فإن لبنان وأهالي الجنوب، كانوا قد دفعوا ثمن هذه السياسة وهذه الوضعية، التي كانت مسيطرة عليه، أثماناً باهظة من استقراره الداخلي ووحدة شعبه وعلاقة أطرافه وقواه بعضها ببعض. وبسبب هذه المقاربة المُقاومة، لم تترك الشعوب اللبنانية الأبية، شجرة أو رصيفاً أو زاوية أو ركنا، إلا وتقاتلت عليها ومن أجلها، وسطرت ملاحم بطولية فارغة في النزاع وسفك الدماء.

تحت هذه اليافطة الفارغة والجائرة، أبقي الجيش اللبناني بحجة أو بأخرى أكثر من 30 سنة خارج أرض الجنوب. وقد بنى كثر، على سبيل المثال الرئيس “المكاوم” إميل لحود، أمجادهم على نظرية إحباط “مؤامرة” إرسال الجيش إلى الجنوب. وقد اتُهم رفيق الحريري بالعمالة والتآمر على سوريا ولبنان وخط المقاومة، لأنه كان يفكر بإرسال الجيش إلى الجنوب!

اليوم ونحن في خضم حرب الاستنزاف لمساندة المقاومة في غزة، نفقد كل يوم مساحة أو مربعا صغيراً من سلطة الدولة وسيادتها وهيبتها المتهالكة المتآكلة أصلاً، و من استقرار لبنان وأمن جنوبه لمصلحة الانفلات والتفلت وعودة أشباح الماضي البغيض، وتدمير أسس القرار 1701 الذي نشر مظلة أمان نسبية وقوية ومعترف بها دولياً منذ 2006 حتى اليوم.

ليس سهلاً ولا عابراً ولا قليلاً الجهد الكبير والاستثنائي الذي يقدمه حزب الله في الجنوب في مساندة المقاومة الفلسطينية في غزة، لكن قيادة حزب الله وقادة محور المقاومة المصونة، مطالبون بإدارة غير متساهلة مع عودة العمل الفلسطيني واللبناني المسلح انطلاقاً من الجنوب، والذي لم يعد له من داع بعد العام 2000 حيث حرر الجنوب بيد اللبنانيين ونفذ القرار 425.

مما لا شك فيه أن إسرائيل، وحاميتها أميركا، إذا قررت الاعتداء والهجوم على لبنان ليست بحاجة لكي تجد أو تختلق الحجة التي تريد وساعة تريد، لتدمير لبنان وإلحاقه بغزة. لكن هذا لا يعني في المقابل تسهيل الأمور عليها بتسليمها أوراق اعتماد واتهام سهلة من قبيل وحدة الساحات المزعومة، وحرية العمل الفلسطيني واللبناني المسلح لساحات ليست واحدة ولا ضرورة أن تكون واحدة.

لبنان قادر، حسب إمكانياته وقدراته، على مساندة القضية الفلسطينية في غزة وكل فلسطين بالإعلام والدبلوماسية والتواصل مع العالم.

ما من تغطية أو مصلحة وطنية لبنانية لعمل هذه المنظمات المستجدة المسلحة، لبنانية كانت أم فلسطينية، تحت أي عنوان كان.

لقد بات لبنان بسبب تراكم أزماته المتكدسة على أبواب التلاشي والاندثار، تحت مسؤولية وإدارة قوى التسلط والاستحكام والاستكبار المقاوم والمريض.

وبماذا ستستفيد قضية فلسطين إذا ما دمر لبنان الآن غير زيادة وتوسيع الشقاء والبؤس للبائسين؟

وإذا كان لبنان قد دخل سابقاً نفق الأهوال والانقسامات نتيجة الخلاف على العمل الفلسطيني المسلح، وجرى ما جرى نتيجة ذلك. فما هو المبرر الآن وفي هذا الظرف الصعب، لإعادة إيقاظ تلك الخلافات والانقسامات مرة جديدة، بعد أن نامت واستراحت في قبور أبوابها مفتوحة.