ليس خارج الحسابات الجيوسياسية أن تلتقي واشنطن وطهران على نفي أي دور إيراني في التخطيط لعملية “طوفان الاقصى “، والقول إنها فلسطينية تخطيطاً وتنفيذاً مئة في المئة، لكن ذلك لا يبدل شيئاً في الواقع، إذ يعلن نائب قائد الخرس الثوري علي فدوي أن بلاده “ملأت يد المقاومة بالسلاح”، وتتطلع الأنظار إلى دور إيران في مواجهة حرب غزة. فالصراع مع إسرائيل دخل منذ سنوات في “الحقبة الإيرانية” بعد “الحقبة العربية والفلسطينية”. وليس أمراً طبيعياً تحويل الصراع العربي – الإسرائيلي إلى صراع إسلامي – إسرائيلي ضمن قاموس ديني. فالصراع على الأرض له حلول في النهاية، أما “الصراع على السماء”، فإنه عصي على الحلول. إسرائيل التي قامت على أساطير وخرافات دينية يريحها الطابع الديني للصراع كونه نوعاً من صدام الحضارات بدل الصدام بين صاحب الأرض ومغتصبها. والسؤال هو: هل وصلت “الحقبة الإيرانية” التي بدأت بإمساك الورقة الفلسطينية منذ أيام الإمام الخميني تحت شعار “الموت لإسرائيل” والدخول في النسيج العربي إلى الذروة ودقت ساعة النزول؟ وما خيارات “الجمهورية الإسلامية” في حرب غزة بعيداً من التهويل بالمواجهة الشاملة بحسب تطورات الحرب البرية، واحتمال أن تصبح الأمور في المنطقة “خارج السيطرة” كما قال وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان؟
لا ألغاز في مواجهة تحديات عملية. طهران اعتبرت أن حرب غرة هي حرب “محور المقاومة” لا فقط ضد إسرائيل بل أيضاً ضد أميركا، مع الحرص على إبقاء الباب مفتوحاً أمام صفقة كبيرة مع “الشيطان الأكبر”. صفقة تتجاوز الملف النووي ورفع العقوبات الاقتصادية إلى قضايا إقليمية مرتبطة بالمشروع الإقليمي الإيراني. وهي أوحت أن الفصائل المرتبطة بها التي تركت لها مشاغلة إسرائيل عسكرياً عبر معظم الجبهات تتخذ قراراتها بأنفسها. لا بل لوحت بإرسال “متطوعين” من أفغانستان وباكستان والعراق واليمن إلى لبنان للوقوف خلف “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” في الحرب، لكنها أبقت مشاركتها المباشرة في الحرب خارج النقاش لكون ابتعادها من الانخراط المباشر قراراً استراتيجياً ثابتاً، بصرف النظر عن إدارتها الصراع ورفع شعار “إزالة إسرائيل”. وليس أمراً قليل الدلالات أن يدعو وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان ونظيره التركي حقان فيدان إلى “مؤتمر دولي لتجنب حرب إقليمية”. والهدف المباشر هو “إنقاذ حماس”. فالصراع على فلسطين عامل مهم في توسع المشروع الإيراني، في حين أن الحرب الشاملة انطلاقاً من فلسطين تؤذي المشروع. وحرب غزة في نظر طهران ليست خطراً وجودياً، وإن كانت خطراً جيوسياسياً واستراتيجياً. والواقع أن أولويات الملالي واضحة جداً: بقاء إيران ونظام ولاية الفقيه، وتقوية الأذرع الإيرانية المسلحة عسكرياً وأيديولوجياً في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة، وتحقيق مشروع الولاية في “غرب آسيا والعالم”. وهذه الأولويات تفرض أن تكون الخيارات الإيرانية غير واسعة. وفي مواجهة حرب غزة، فإن خصوم طهران يضعون أمامها خيارين: أولهما أن تخسر شيئاً في غزة لتحافظ على شيء أهم في لبنان. وثانيهما أن تندفع في مغامرة كبيرة على أمل أن تربح كل شيء، فتخسر كل شيء. والظاهر أنه لا أميركا ولا إسرائيل ولا روسيا ولا الصين ولا أوروبا ولا إيران تريد حرباً شاملة. أليس من اللافت أن يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن “خمس سكان إسرائيل من أصول روسية”، كأنه يقول لحليفه الإيراني: احذر وانتبه؟
هناك بالطبع رهان إيراني على الحد من الخسائر. وحتى على تراكم الأرباح في المستقبل عبر مفاجآت “حماس” في غزة للجيش الإسرائيلي بما يخرجه من القطاع المدمر خاسراً استراتيجياً لمصلحة “محور المقاومة”. وإذا قادت الخسارة الاستراتيجية إسرائيل إلى الخضوع للضغوط العربية والدولية الداعية إلى معاودة المفاوضات مع السلطة الوطنية الفلسطينية على “حل الدولتين”، فإن هذا ليس ما تعمل له إيران و”حماس” وبقية الممانعة. ولا أحد يعرف إن كانت “حماس” تعيد الاعتبار إلى مشروع قديم لها هو اقتراح “هدنة لمدة 20 عاماً مع إسرائيل” من دون الاعتراف بدولة الاحتلال، وسط حديث إسماعيل هنية (رئيس المكتب السياسي لحركة حماس) عن تقديم “حماس” تصوراً حول دولة فلسطينية مستقلة من دون تحديد جغرافيتها، لكن كثيرين يتصورون أن المسألة هي المشروع الإيراني، لا فلسطين. وتحديات “الحقبة الإيرانية” كبيرة. كذلك تحديات المنطقة وأميركا وأوروبا. والتحدي الأخطر هو الذي يواجه إسرائيل وبالذات قيادات التطرف اليميني.