تعب الموت من قتل الفلسطينيين فيما لم يتعب القتلة في إسرائيل من المجازر الجماعية، وتعبت المعتقلات من أسر الفلسطينيين، ومن نظام السجن الأكبر، المعروف كأكبر سجن مفتوح في التاريخ (بحسب عنوان كتاب للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه)، فيما لم يشبع السجان الإسرائيلي من ذلك، في واحد من أكثر الأنظمة الاحتلالية طغياناً ووحشية عرفها العالم (بحسب الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي).
في الواقع، لم يعرف التاريخ محتلاً يغيّب الشعب المستعمَر، أو يحاول نفيه من الوجود، أو يتخلص منه، أو يطالبه بضمان أمنه، لا في تجربة الاستعمار الاستيطاني الإلحاقي الفرنسي للجزائر، ولا في تجربة الاستعمار البريطاني للهند، ولا في تجربة الاستعمار الاستيطاني الهولندي لجنوب أفريقيا (طبعاً باستثناء تجارب ما قبل الاستعمار الحديث في القارة الأميركية وأستراليا).
الآن، أي حتى لحظة كتابة هذه المادة، وصل عدد الذين قتلتهم إسرائيل من الفلسطينيين إلى 11 ألفاً، ثلثهم أطفال، وثمة عشرات ألوف الجرحى، ودمرت أكثر من 60 في المئة من عمران غزة وبيوتها كلياً أو جزئياً، وتسببت بتشريد ثلثي سكانها، في توحش غير مسبوق، في حرب لا يبدو أنها ستنتهي قريباً، أو أن إسرائيل (بدعم أميركي) لا تريدها أن تنتهي، ربما حتى هدم آخر مستشفى، وآخر فرن، وآخر مدرسة، وآخر بيت، وآخر فلسطيني.
المعنى أن تلك الحرب باتت خارج السياسة، بواقع أن القتل المحض، والتدمير المحض، والتشريد المحض، التي تنتهجها إسرائيل، منذ شهر ونيف، باتت هدفاً لذاتها، بخاصة مع قطع كل أسباب الحياة (المياه، والكهرباء، والدواء، والغذاء، والبيت)، ما يؤكد أن إسرائيل تخوض، هذه الأيام، حرب إبادة ضد فلسطينيي غزة خاصة، وضد الفلسطينيين بين النهر والبحر عامةً، ما يضفي مشروعية على تشبيه سياسات إسرائيل إزاء الفلسطينيين، حتى قبل الحرب، بسياسات الجيش النازي في أوروبا، إبان الحرب العالمية الثانية (بحسب توصيف إبراهام بورغ رئيس الكنيست الأسبق).
في هذه الحرب تحاول إسرائيل استغلال حدث هجوم “حماس”، في السابع من الشهر الماضي، كفرصة سانحة لها لاستكمال ما عجزت عنه في النكبة الأولى (1948)، وهو الحدث الذي تأسست عليه إقامتها، على حساب الشعب الفلسطيني، قبل 75 عاماً، فالفلسطينيون لم ينسوا، وذاكرتهم انتقلت إلى أولادهم وأحفادهم الذين يأبون أن ينسوا، ومقاومتهم لم تتوقف، بهذا الشكل والمستوى أو ذاك، رغم كل الأثمان الباهظة، أي أن إسرائيل تريد توظيف هذه الحرب في اقتلاع جزء من الفلسطينيين من أرضهم، وكيّ وعيهم، ووأد مقاومتهم، بمختلف أشكالها، في عملية مهولة، وغير مسبوقة في توحشها.
التوظيف الآخر الذي تحاوله إسرائيل، يتمثل في محاولتها فرض سردية جديدة على العالم، تمكّنها من استعادة احتكارها مكانة الضحية، من خلال تظهير حدث هجوم “حماس”، كحدث مواز للهولوكست، أو كمواز للهجوم الإرهابي في 11 أيلول (سبتمبر) (2001) في الولايات المتحدة، كأن ذلك الهجوم ليس له ما قبله، أو كأن إسرائيل كانت بمثابة أم رؤوم للفلسطينيين منذ 75 سنة، أو منذ احتلالها الضفة والقطاع منذ 56 سنة، أو بمحاصرتها غزة منذ 16 عاماً.
بيد أن تلك الرواية لم تنطل على أحد، بعد كل المجازر المهينة لإنسانية البشر في العالم، إذ حتى في أوساط إسرائيل، واليهود في العالم، ظهرت احتجاجات على عمليات الإبادة، والقتل الجماعي للفلسطينيين. فهذه جوديث بتلر (فيلسوفة أميركية/يهودية)، مع نقدها لعملية “حماس”، إلا أنها رفضت الخضوع للابتزاز الإسرائيلي، مؤكدة أنه لا يمكن النظر إلى عملية “حماس” بوصفها حدثاً منعزلاً عما قبله، أو من دون صلة بالسياسات التي تنتهجها إسرائيل ضد الفلسطينيين. تقول بتلر: “لنكن واضحين، إنَّ العنف الإسرائيليَّ ضدَّ الفلسطينيِّين طاغٍ وساحق: قصفٌ بلا هوادة، وقتلٌ للناس من مختلف الأعمار داخل منازلهم وفي الشوارع، وتعذيب في السجون، وأساليب تجويع مختلفة في غزَّة، وسلبٌ للمنازل. وكلُّ هذا العنف… ممارسٌ ضدَّ شعبٍ يرزح تحت قوانين الفصل العنصريّ، والحكم الاستعماريّ، وانعدام الجنسيَّة… إنَّني أدين العنف، دونما قيدٍ أو شرطٍ، وفي الوقت نفسه أريد، على غرار كثيرين آخرين، أن أكون جزءاً من التخيُّل والكفاح من أجل تحقيق المساواة والعدالة الحقيقيَّتين في المنطقة؛ على النحو الذي يفضي إلى إرغام جماعاتٍ مثل “حماس” على الاختفاء، وإنهاء الاحتلال، وازدهار أشكال جديدةٍ من الحريّة السياسيَّة والعدالة. من دون تحقيق المساواة والعدالة، ومن دون إنهاء عنف الدولة الذي تمارسه إسرائيل التي تأسَّست هي نفسها على العنف، فإنَّه لا يمكن تصوُّر أيّ مستقبل، بما في ذلك مستقبل لسلامٍ حقيقيّ”.(20/10/2023).
هذا ما أكده، أيضاً، المحلل الإسرائيلي يوسي كلاين، فبرأيه أن “الهجوم الذي حدث السبت لم يحدث من فراغ. الفظائع كانت فصلاً آخر في قصة استمرت 57 سنة… الجميع وصفوا وضعنا كمن يجلسون على “فوهة بركان يوشك على الانفجار” أو على “برميل متفجرات”. عندما ينفجر البركان يخترعون حقيقة لتبرير التجاهل الغبي… لا نملك الشجاعة لمواجهة القضية الفلسطينية التي أنزلت علينا أحداث 7 تشرين الأول… بسبب القومية المتطرفة والتحريض والكراهية والغطرسة والعنصرية”. (“هآرتس”، 2/11/2023) .
وكان المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه أكثر جرأة، في تعبيره عن رأيه بقوله: “البوصلة الأخلاقية هي التي دفعتني، ودفعت غيري في مجتمعنا، إلى الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني… هذا ما يسمح لنا، في الوقت ذاته، بالإعجاب بشجاعة المقاتلين الفلسطينيين الذين استولوا على اثنتي عشرة قاعدة عسكرية، وتغلبهم على أقوى جيش في الشرق الأوسط…. وإثارة تساؤلات عديدة حول القيمة الأخلاقية أو الاستراتيجية لبعض الإجراءات التي رافقت هذه العملية… تساورني شكوك عن إدراك من قرروا تزيين مبنى البرلمان في لندن وبرج إيفل في باريس بألوان العلم الإسرائيلي… كتفويض لمواصلة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل الآن ضد سكان غزة…” (مجلة كرونيكل فلسطين، 10/10/2023).
باختصار، فإن إسرائيل في كل هذه الحقد على غزة لا تحاول أن تثأر للضربة التي قوّضت صورة ما تعتبره قدس أقداسها فقط، أي الجيش الإسرائيلي، الذي طالما ادعت أنه لا يُقهر، بل إنها في هذه الحرب تحاول استغلال سرديتها، عن مظلومية تعرضت لها قبل قرن في أوروبا، لمطالبة الغرب، في هذا العصاب المرضي الذي تعيشه، بتعويضها، بدعم توحشها ضد الفلسطينيين، وفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، للقوة الغاشمة، وللسردية الإسرائيلية التي تعني موت الفلسطيني، أو اغترابه عن الزمان والمكان، وحتى عن ذاته، بحيث يتحول إلى كائن فاقد للمعنى، أو كائن خفي، خلف الأسوار العازلة، في البلاد وخارجها، بلا تاريخ ولا هوية ولا ثقافة، ولا سردية.
أما حصة غزة عند إسرائيل فهي محاولة تحويلها إلى مقبرة، بعدما كانت سجناً، ضمن أكبر سجن مفتوح في التاريخ، لفلسطينيين من النهر إلى البحر ليس لهم حقوق، بحسب تعبير للكاتب الإسرائيلي إيلان بابيه، بعدما استعصت عن الغرق في البحر، بحسب ما تمنى يوماً بعض قادة إسرائيل الذين أعجزتهم هذه البقعة من فلسطين التي اسمها غزة وهي شريط ضيق مساحته 365 كلم2، فقط.