لا تريد الحكومة الإسرائيلية الراهنة أي نوع من السلام، إنها تعتقد أن العرب قد انبطحوا، ولن تقوم لهم قائمة في أي يوم منظور. ورغم غرورها وخفتها التاريخية والثقافية، فتلك هي الخلفية التي تعمل على أساسها هذه الحكومة.
حكومة نتنياهو لم تعد تحارب، بل إنها تبيد! وتغرق في مستنقع تطهير عرقي لا يؤخر ولا يقدم في مستقبل الصراع. فالحرب حرب إرادات. وكما كتبت سابقاً، خسرت حكومة إسرائيل الحرب، وتحاول تمويه خسارتها البائنة، بمزيد من الدم. فالفظاعة ليست ردعاً، بل هي فشل ذريع.
وهنا ينبغي القول إنه، رغم فظاعة ما قامت به “حماس” بالجملة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فإن ما يقوم به الجيش الإسرائيلي بالجملة أو بالتقسيط يبقى من الطبيعة ذاتها. فقتل الأبرياء لا يمكن أن يفضي لأي انتصار.
أما الولايات المتحدة فمصيبتها من نوع آخر!
كتبت سابقاً عن ذلك العجوز المتلعثم بايدن، لما ينجزه من صياغة ناعمة لاستراتيجية ما بعد انهيار عالم القطب الواحد. أما عند عقدة الشرق الأوسط، فقد أخفق النجار وانكسرت وسيلته. إنه لمشهد مهول أن نرى ذلك الربان العتيق يبحر، معصوب العينين، في طقس عاصف، وبوصلة خربة، من دون خريطة نحو بر الأمان. فرغم دقة الحساب والتنفيذ تتخبط الدبلوماسية الأميركية تخبطاً مزرياً. فيما يكيل نتنياهو الصفعات المتتالية لبايدن مرة تلو الأخرى ويسقيه الفشل تلو الآخر، بينما يبتسم بايدن ويدير خده الأيسر. ولا نحتاج للكثير لنثبت هذه الحقيقة المرعبة.
في بداية الأزمة، نزلت الدبلوماسية الأميركية بحبل نتنياهو، ودعمت طرحه حول التهجير القسري، وتم تكليف تشيكيا والنمسا عرض المشروع على الاتحاد الأوروبي بحيث تستوعب مصر فلسطينيي غزة، مقابل إلغاء 165 مليار دولار من ديونها الخارجية. لكن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، التي ذاقت الكثير من فشلها التاريخي في الإقليم، رفضت ذلك قطعاً. والأهم أنه لولا تمسك مصر والأردن بموقفيهما، لأفرغت إسرائيل غزة في اليوم التالي. وهكذا كُسر أنف بايدن، أمام حقائق الإقليم، ليتراجع بسرعة عن مشروعه الكارثي.
في بداية الأزمة أيضاً، أطلقت الدبلوماسية الأميركية يد نتنياهو “لاجتثاث حماس”. وهي تعلم أنه لن ينجز ذلك إلا على جثث عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء. وعندما طفح الكيل، تضافرت الإدارة واستنفرت حتى هاريس، كي تتوسل نتنياهو لتخفيف الإبادة الجماعية. ومرة أخرى، مرّغ نتنياهو أنفها بالتراب.
بل لم يتجرأ وليم كيربي حتى على انتقاد ما تفعله إسرائيل، مدعياً أنه لا يعلق على حوادث فردية! إنه أكذب من مسيلمة. فهل تهديد وزير عامل في حكومة نتنياهو بقصف غزة بقنبلة نووية حادث عابر؟ وهل قتل مئات الفلسطينيين في الضفة من دون وازع ولا مبرر هو حادث فردي؟ وهل؟ وهل؟.. بفشل أخلاقي كهذا، يمرّغ نتنياهو أنف الدبلوماسية الأميركية بتراب غزة.
ومنذ بداية الأزمة أيضاً وأيضاً، احتاجت إدارة بايدن دوراً للمنظمات الإنسانية الدولية، لكنها لم تكتف بإدارة ظهرها لصراخ هذه المنظمات المطالبة بالمساعدات، ووقف المذبحة، بل تقف مكتوفة الأيدي أمام مقتل المئات من عامليها. وفيما لم يبق على غوتيريش إلا أن يستقيل، تستمر ممثلة الولايات المتحدة في مجلس الأمن في كسر أنفها على جدار الشرعية الدولية، بحيث تقبع الدبلوماسية الأميركية معزولة في الزاوية كما لم تعهد في تاريخها قط. بل يروّج بايدن رواية نتنياهو حول قصف المشفى المعمداني، متسبباً بإلغاء مخز لقمّة عمان!
فيما يستمر نتنياهو في إبادته الجماعية، تحاول الإدارة الأميركية تخفيف عزلتها وفشلها، إذ لا مخرج لها من بئر نتنياهو إلا بالعمل والتعاون مع الدول العربية والسلطة الفلسطينية. لكنها تكتشف متأخرة كالعادة، أن العرب والسلطة الفلسطينية، لم ينبطحوا، وأنهم لن ينصاعوا تحت ضغط فظائع نتنياهو، ويديروا ظهرهم للفلسطينيين.
وكما أحبط العرب مشروع التهجير، فإنهم لن يقبلوا بأي حل يحوّلهم شهود زور على التنكيل اليومي للقوات الإسرائيلية. فما لم ترفع إسرائيل يدها عن غزة نهائياً، لن يسير العرب في حل يعزز الإبادة المتواصلة للفلسطينيين.
يتضح حالياً مدى التوتر بين الإدارة الأميركية وحكومة نتنياهو. ولكن ما يتضح أيضاً مدى ضعف الإدارة في الضغط عليه. يناقش بلينكن إنشاء إدارة فلسطينية محلية في غزة، لا علاقة لها بمقاتلي “حماس”. لكن نتنياهو يقاطعه سلفاً بقوله إن اقتراحه هو “البديل الأكثر خطورة” لأنه يفتح آفاقاً “تؤدي لإقامة دولة فلسطينية”.
ورداً على إعلان الخارجية الأميركية أنه لا يمكن لإسرائيل أن تبقى لا في غزة ولا في الضفة الغربية بعد الحرب، وأنهما جزء من كيان واحد هو الدولة الفلسطينية في إطار حل الدولتين. يرد نتنياهو بالرفض ويقول إنه “سيبقى يحتل غزة “، بالطبع سيبقى ويقتل أهلها.
النتيجة أن الفشل الأميركي أكبر بكثير من مجرد غزة.
في كلمته الأخيرة، حدد بايدن خصوم الديموقراطية والليبرالية، في محور يمتد من “حماس” إلى طهران إلى موسكو. لكن في حقيقة الأمر لم يخدم هذا المحور أحد، مثلما خدمه تفكك سياسة إدارة بايدن في الشرق الأوسط.
هذا التفكك هو الذي يتيح لإيران وروسيا عزل السياسة الأميركية، ويجعل المنطقة ثمرة سهلة القطاف لمحور خامنئي.
وكما فعل الاتحاد السوفياتي زمن عبد الناصر، تستثمر روسيا وإيران في ورطة السياسة الأميركية. فنيران نتنياهو وفشل بايدن، يغنيان بوتين وخامنئي حتى عن النفخ في النار.
منذ بداية الحرب، عمل خامنئي وبوتين على أساس أن كعب أخيل، ونقطة ضعف الولايات المتحدة هي سياستها تجاه حكومة إسرائيل. فبحسب الأسطورة العقائدية السوفياتية، بل الإمبراطورية الروسية، يعتقد بوتين أن إسرائيل لا تزال تحكم واشنطن بالمطلق، وتتحكم في سلوك الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ليصبح نتنياهو في هذا السياق اختراقاً بارعاً للموقف الأميركي.
لكن في نهاية الأمر، لم يعد بخور بايدن يكفي لطمس جرائم نتنياهو. وأمام الدبلوماسية الأميركية خيار واضح بين نموذجين للإقليم:
نموذج ينتصر فيه المتطرفون، ويسود فيه خامنئي وبوتين وصاحبه نتنياهو. وتكون فيه إسرائيل قلعة عنصرية متطرفة مهددة دوماً، مدججة بالسلاح، وتدير ظهرها لاستحقاقات السلام.
النموذج الثاني أن تدير الولايات المتحدة ظهرها بأسرع ما يمكن للحكومة الساقطة في إسرائيل، وتعيد التوازن لدورها الإقليم، على أساس السير نحو منظومة مستقرة ذاتياً للأمن والسلام، تحاصر ألغام خامنئي وبوتين، وتفتح الطريق لتعافٍ سلمي للشرق الأوسط بأسره، على أساس حل الدولتين.