منير أديب
فشلت معظم الجهود الدولية في وقف إطلاق النار في غزة، ولكن ما تمخّضت عنه حتى الآن هدنة إنسانية تكتيكية مدتها 4 ساعات فقط يومياً، قد تنبّه إليها إسرائيل قبل تنفيذها بـ3 ساعات، ما يعني عدم وجود وقت محدّد لها في اليوم، فضلاً عن أنّ مُبررات الهدنة هي إعطاء فرصة لنزوح أهالي غزة من الشمال إلى الجنوب ودخول بعض المساعدات الإنسانية.
إذاً، الهدنة التي وافقت عليها إسرائيل رغم أنّها سُمّيت “إنسانية” إلاّ أنّ الهدف المعلن يحمل في طياته خروقات تتعلّق بتنفيذ تهجير اجباري قسري للفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها، بما يُخالف القوانين الدولية، فضلاً عن كونها هُدنة تكتيكية بخلاف ما يُفترض أن تكون عليه، إنسانية لا عسكرية!
هدنة إنسانية لأيام تمُهّد لوقف إطلاق النار ومن ثم حماية المدنيين الفلسطينيين من القصف الإسرائيلي المتواصل، بات أمل المجتمع الدولي، بعد إقناع إسرائيل بهدنة مدتها 4 ساعات في اليوم، بعد قرابة 36 يوماً من القصف المتواصل راح ضحيته أكثر من 11 ألفاً من المدنيين نصفهم وأكثر من الأطفال والنساء.
الحقيقة أنّ إسرائيل تبحث عن أي انتصار في معركة لم تُحقّق فيها أي شيء، حتى بعد انتهاء الأسبوع الأول من الشهر الثاني من بدايتها، غير قصف المدنيين؛ ويبدو هنا خلو بنك الأهداف الإسرائيلي، بمعنى أنّها لم تنجح في استهداف قيادات الصف الأول من “حماس” أو تقليل رشقاتها الصاروخية ضدّ إسرائيل ومستوطناتها، ويُضاف لهذه الخسائر التي مُنيت بها في الأرواح والعتاد العسكرية بعد بداية عملياتها البرية في غزة.
وربما يكون ذلك الدافع الحقيقي وراء استمرار إسرائيل في معركة لن تُحقّق فيها أكثر مما حقّقته خلال شهر ونيف؛ وهذا ربما يكون أحد الأسباب التي دفعتها وما زالت لقصف المستشفيات الفلسطينية واحداً تلو الآخر، فضلاً عن عدم إدخال الوقود إلى المحاصرين في غزة.
إسرائيل باتت مؤمنة بضرورة انتهاء الحرب، وأنّ استمرارها لن يحقّق شيئاً، ولكنها في الوقت نفسه تبحث عن أي انتصار قد يُرضي الرأي العام الداخلي أو يُعيد الثقة في جيشها من جديد؛ وهي الآن ما بين ضغوط الداخل التي ترقب الفشل في تحقيق الأهداف العليا، مثل القضاء على “حماس” أو حتى إضعافها أو تحرير الرهائن، وما بين الضغوط الدولية التي تبحث عن مخرج لإسرائيل من غير استخدام القوة أو الرهان عليها.
إسرائيل أُجبرت على الموافقة على هدنة تكتيكية بعد الضغوط الأميركية عليها بهدف الإفراج عن رهائن إسرائيل من غير العسكريين، والتي تضع “حماس” شرطاً “إذا ما سمحت الظروف” للإفراج عنهم أي وقف القصف؛ إذ ترى واشنطن أنّ إسرائيل لم تنجح في حقيقة الأمر في تحقيق أي انتصار حقيقي على “حماس”، وأنّها لن تستطيع تحرير الرهائن حتى ولو قصفت المدنيين سبعين عاماً أخرى.
لا يوجد أمام إسرائيل في المستقبل غير الموافقة على وقف إطلاق النّار شريطة ألاّ تكون “حماس” موجودة في حكم غزة، وهنا سوف ينخفض سقف مطالب إسرائيل من القضاء على “حماس” بشكل كامل إلى عدم وجودها في حكم غزة، وهو فشل عسكري آخر؛ ولكن السؤال المطروح، هل يمكن وصف الهدنة الحالية بأنّها هدنة سلام؟ وأي سلام هذا الذي يمكن أن يُشاهده أهالي غزة من فوهة البندقية التي لا تزال بوصلتها في اتجاه القطاع وأهله شمالاً وجنوباً؟
إنّها هُدن الحرب التي لا تُريد إسرائيل أن تُوقفها، كما أنّها لا تملك ذلك؛ فأزمة الأخيرة في ما أحدثته اعتداءات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لقد أسقطت هذه الاعتداءات فكرة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وإسرائيل لمن لا يفهمها، هي فكرة قائمة على الأمن؛ تُريد أن تُحافظ على ما نجحت في تسويقه من أنّها القوة التي لا تُقهر في الشرق الأوسط، وهذا ربما يدفعها في البحث عن مستقبل غزة بعد الحرب قبل انتهاء الحرب نفسها!
أزمة إسرائيل مركّبة بين حرب دخلتها ولم تستطع أن تخرج منها منتصرة، على الأقل حتى الآن، وما بين موازين القوى التي اختلّت بينها وبين حركات المقاومة في فلسطين، وما بين هيبة الجيش الإسرائيلي التي سقطت ولا توجد آلية لعودتها على الأقل في المدى القريب.
لا شك في أنّ “حماس” لن تكون تلك التي كانت قبل الحرب، ولا شك في أنّ هذه الحرب سوف تؤثر على قوتها، وربما لن تكون نافذة في القطاع كما كانت من قبل.
وما كانت تُماطل فيه إسرائيل وترفضة لا بدّ من أن تقبله اليوم، إن كانت تُريد سلاماً… سلامٌ من واقع القراءة الاستراتيجية الدقيقة لما آلت إليه موازين القوى على الساحة الفلسطينية، لا بدّ من قراءة تصحيحية للواقع؛ خيار القوة الوحيد الذي تُحاول أن تفرضه إسرائيل لن يُجدي ولن يذهب بها إلاّ في الطريق نفسه.
لا بدّ من هُدن سلام حقيقية وليست هُدن حرب ترتدي ثوب السلام، لا بدّ من عقل رشيد يأخذ إسرائيل للطريق الصحيح، إنّ أرادت، استمرار الصراع بهذه الصورة لن يُفيدها ولن يذهب بها إلاّ إلى مزيدٍ من التفكّك والانهزام، لا بدّ من أن تُدرك إسرائيل أنّ التفكير الاستراتيجي يُحتّم عليها القبول بخيارات الأمر الواقع.