هذا الكتاب الشعري الجديد “ذئب… يُحار في وداعته (ثنائية الصيّاد والذئب)” (2022) للشاعرة المصرية سهام محمد قاسم، صغير بحجم كف اليد؛ قليل جدًا في عدد نصوصه، يقترح مقاربة شعرية مختلفة تمامًا عما هو سائد في السوق الشعرية، بل هو يأتي من خارج هذه السوق سواء ببضاعتها الحديثة أو تلك الروبافيكيا، فشكّل إخراجه وطريقة تنضيد النصوص بداخله والتوزيع البصري لها على بياض الورقة والأسلوب البرقي الذي جاءت عليه هيئة النصوص؛ كل هذا يدعو للنظر في الصياغات الشعرية التي اطمأنت إليها الشاعرة وقدّمتها مقترحًا جماليًا ينضاف لتجربتها الشعرية والتشكيلية.
غير أن اللافت أكثر في هذه الإضمامة من النصوص أن مدار القول فيها انحسر على تيمة واحدة، تخالفت في زوايا النظر إليها وتشاكلت فإذا بظاهر الكتاب يبدو كما لو أنه موزاييك متآلف فيما بينه على درجة عالية من التناغم والانسجام غير أنه وبالتدقيق في مكوناته وتفاصيل عناصره يكشف التباين الصريح بينها؛ ليست اللقطة نفسها، وليست نفس ضربة الفرشاة، وليس نفس المعجم التشكيلي إزاء مقاربة نفس التيمة، أي مقاربة مسألة الذئب.
الذئب أحد العناصر الجوهرية المكونة للشعرية العربية منذ القدم، وقد ذكره العديد من الشعراء، من ذلك ما قاله طرفة بن العبد:
فتى ليس بابن العم كالذئب إن رأى
بصاحبه يومًا دمًا فهو آكله
وما قاله الحطيئة:
والذئب يطرقنا في كل منزلة
عدو القرينين في آثارنا خببا
وما قاله الفرزدق:
وكنت كذئب السوء لما رأى دما
بصاحبه يومًا أعان على الدم.
ولئن جاء استعمال الذئب في هذه الأشعار في مقام الاستعارة أو الحقيقة ما بين الإخبار عنه أو عن طريق الإنشاء أو التخييل فهو لم يخرج عن كونه ذلك الحيوان المتوحش الذي لا يمكن الاطمئنان إليه، ذلك الحيوان الجائع المفترس الذي يستحيل تدجينه.
كما أنه حظي بالكثير من الاهتمام في الآداب العالمية شعرًا ونثرًا، فبدا محتالًا في خرافات لافونتين؛ مفترسًا في قصة “حمرا حمرا”؛ بريًا عند هرمان هسه إلخ…
الشاعرة في كتابها الشعري الأخير خصّصت له مقامًا مغايرًا تمامًا في محاولة منها لإعادة النظر له من خلال نسف الموروث النمطي عنه.
تقول:
ذهبَ، وقالَ: “عِدُّوا لي”،
وتركَ صدى ضحكةٍ،
ونظرةً ماكرة،
وشمسًا يُدفِئها حضورُه،
وحديثًا لم يكتمل،
وطريقًا، وحنين.
ذهبَ، وقال: “عِدُّوا لي”،
صيَّادٌ يُوَزِّع الفِخاخَ حولَه،
ولا يكترث.
يُحدِّث الذئبُ نفسَه.
“تحوّل الذئب إلى عنصري جمال في الأدب، استطاعت الشاعرة أن ترتقي به من خلال هذه القصائد إلى درجة من الجمالية بما حقّق شعرية الذئبوية”
تستبطن الشاعرة العوالم الداخلية للذئب كما لو أنه كائن مفكر مدركًا لما يفكر، عارفًا بما يحدث حوله، عليمًا ببعض أسرار هذا الوجود وما قد يتعرّض له من مخاطر، وقد اكتشف كل حيل الصياد، بالرغم من أن مشكلته الحقيقية ليست في الصياد، فهو والصياد في آخر الأمر يبحثان عن نفس الفريسة، وكلاهما يبحث عما يسدّ رمقه، غير أن الصياد يوزّع فخاخه هنا وهناك، بينما الذئب يكتفي بحسّه وحدسه؛ والشاعرة لا تكتفي باستبطان داخل الذئب، بل تذهب نحو الأبعد وهي تشرح وجهة نظر الذئب في الصياد الذي أصبح ينازعه في قوت يومه. لذلك هي تردف في قصيدة أخرى مشحونة الشعرية قائلة:
“لا يعرفُ حِيلَ الصيَّادِ غيرُ ذئبٍ” كِدْتُ أخبره،
عندها
تفقدُ الغوايةُ سحرَها.
“لا تستهِن بالصيّادين”… أستدْركُ في وداعةٍ
وعِتاب،
فأضمنُ طزاجةَ اللُّعْبةِ
وتشويقهَا،
وأعلمُ أنْ لا أمانَ
لذئبٍ لا يعوي عند اكتمالِ القمر،
أو لذئبٍ يصاحبُ صيَّادًا؛
لكنَّها الغوايةُ
لن تأخذَ بُعدًا آخرَ من النشوةِ
إلا باثنيْنِ
يصلحُ كلٌ منهما للآخرِ فريسة،
اثنان يمارسان الخِدَع
ويدبّران المكائدَ
الطيِّبة…
تبدأ هذه القصيدة بموجز إخباري يرد في شكل حكمة مضمونها أن لا أحد يعرف حيل الصياد الذي يوزّع فخاخه إلا الذئب غير أنه ليس أي ذئب. فالذئب يختلف أيضًا في طباعه ومنها أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، كما قال الفيلسوف هوبز، هكذا يفكر الذئب الحكيم لينجو من “المكائد الطيبة”. وتقوم هذه القصيدة على اتحاد المتنافرات: وداعة/ غواية؛ طزاجة اللعبة/ تشويق؛ أمان/ الذئب الذي لا يعوي عند اكتمال القمر؛ مكائد/ طيبة.
لقد أدى توظيف هذه المتضادات إلى تكثيف الدلالات بما يفسح المجال لتشكيل صور شعرية كانت هي العصب الرئيسي للإيقاع الشعري، ولولا ذلك لظلّت القصيدة في المستوى الصفر من صياغتها الإنشائية التي هي بالأساس مونولوغ الذئب، وهو يرى أن عدوه الأساسي هو أخوه الذئب الذي يتخذه الإنسان صاحبًا. ذلك أن أخطر الأعداء هم من كانوا من نفس الجنس ونفس الفصيلة؛ “إلهي قني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم”.
فأشد أعداء الذئب من غير البشر هي قطعان الذئاب المنافسة تلك التي إذا اشتد بها الجوع تلجأ لافتراس بعضها البعض، لذلك فما يميّز الذئب عن بقية الثدييات أنه لا ينام طويلًا، وإذا نام خلال النهار فينام بعين واحدة، هكذا تقول الشاعرة في إحدى شذراتها المستلّة من هذا الكتاب:
“تحسّبًا لمرورِها المفاجئ…
يُغمضُ عينًا
ويفتحُ الأخرى؛
هكذا ينامُ الذئبُ في الغابة”.
إنه قانون حياة الذئاب الذي يضمن لها الأمان وألا تكون فريسة سهلة لأي كان، وهو ما عملت الشاعرة على تجميع فصوله التي جاءت في شكل قصائد شعرية تراوحت في طولها متعدّدة الأصوات متكثفة الدلالات.
لم يكن الملازم دينبار في فيلم “الرقص مع الذئاب” يكتب يومياته كجندي متروك وحده في مواجهة المجهول وأهوال البراري بل كان في الحقيقة يدوّن تصرفات الذئب في أدق تفاصيلها إلى أن فهم حقيقة هذا الكائن البري وأنه ليس متوحشًا بالشكل الذي يصفه البشر، فتمثّل بدوره بعض صفات الذئب وتحوّل إلى كائن بري، أو بالأحرى إلى كائن حقيقي غير مزيف، وغيّر أسلوب حياته جذريًا بما يذكر بلامية الشنفري في نفوره من الحياة داخل القبيلة والأجواء إلى البرية متشبها بالذئب:
وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ
وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ
هُمُ الرَهطُ لا مُستَودَعُ السِرَّ ذائِعٌ
لَدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ.
وهذا ما أرادت تبليغه الشاعرة من خلال هذا الكتاب الشعري، ولكن بصياغة شعرية جاءت أغلبها برية أيضًا. لقد جاءت قصائد هذه المجموعة في شكل التماعات برقية خاطفة تتغيّا الإيجاز والتكثيف شديدة الاقتصاد في لغتها معوّلة على الإشارة والتلميح والإيحاء، وهو ما جعلها تأتي في شكل جمل مبتورة تخللتها وقفات مباغتة إضافة لاستثمار جميع أشكال الحوار مما أدى إلى تفاعل الأمشاج فيما بينها وتعدّد الأصوات؛ كل هذا دفع بالنص إلى الارتقاء بذراه الشعرية.
وكما تحوّل الذئب إلى عنصري جمال في الأدب، استطاعت الشاعرة أن ترتقي به من خلال هذه القصائد إلى درجة من الجمالية بما حقّق شعرية الذئبوية.
عنوان الكتاب: ذئب… يُحار في وداعته (ثنائية الصيّاد والذئب) المؤلف: سهام محمد قاسم