هذه المرّة يشهد العرب والعالم النكبة الثانية للشعب الفلسطيني مباشرةً، بالصوت والصورة. النكبة الأولى، قبل خمسة وسبعين عاماً، حصلت عملياً تحت صمت إعلامي نسبي، أو بالتغطية المتأخّرة التي كانت متوافرة، لكنها أشعلت حرباً شاركت فيها آنذاك ست دول عربية ففشلت في تحقيق أهدافها، ومذّاك أصبحت هناك “قضية فلسطينية” لا تزال تبحث عن حلّ، عن تسوية، أو عن نهاية يقرّ الفلسطينيون والعرب بأنها “منصفة” ودائمة ومتّسقة مع القانون الدولي الذي يعترف بوجود “دولتَين”.
هذه المرّة، في 2023، سبق النكبة الثانية تغيير مهم في المقاربة العربية الرسمية لـ”القضية” وحتى لإسرائيل، لكن الأخيرة لم تلاقِ هذا التغيير بما يبرهن: أولاً، عن عزمها على إيجاد السبل للتعايش مع الفلسطينيين الذين وقّعت معهم على “اتفاقات سلام”، ولتمكينهم من العيش بأمانٍ وكرامة، بل إنها بحثت عن كل الأساليب التي تتيح لها اضطهادهم لإدامة احتلالها. وثانياً، عن عزمها على العيش “في المنطقة”، بما حصّلته من “اتفاقات تطبيع وتعاون” مع العديد من الحكومات العربية، بل أكّدت في مراحل عديدة وآخرها مع حكومة المتطرّفين أن “الدولة اليهودية” الخالصة هو الحلّ الوحيد الذي يناسبها، وأنها، على العكس، تريد العيش “ضد المنطقة”.
مشاهد المسنين والمسنّات والأطفال والنساء حاملات حديثي الولادة وهم يسيرون على الأقدام تاركين وراءهم بيوتهم وحياةً أمضوها بمعاناة مريرة، ومتوجّهين إلى حيث لا يدرون، إلى العيش مجدّداً تحت الخيام وقد اقترب الشتاء… تلك المشاهد انطبعت في أذهان أجيال فلسطينية جديدة وستنعكس حتماً على مستقبلهم، كما انطبعت في عقول الأجيال التي أنجبتهم. فأكثر ما كان ولا يزال يقلق إسرائيل في شأن غزّة أن معظم سكانها متحدّرون من لاجئي 1948 ويقطنون في مخيمات أصبحت لاحقاً مُدناً، ومبعث القلق أن هؤلاء نشأوا وتشرّبوا وترعرعوا على أنهم أبناء الظلم التاريخي الذي لم ينسوه، ولا إسرائيل نسيته على أي حال، ولذا فهي شنّت عليهم حرب اقتلاع بهدف طردهم وإبعادهم إلى الأراضي المصرية أو إلى أي مكان.
ما تغيّر في النكبة الثانية أن مجازر التهجير والتشريد لم تعتمد على عصابات الإرهاب (الهاغاناه والأرغون وشتيرن وغيرها) بل على السلاح الجوّي الذي تقصّد قتل المدنيين، ليس ثأراً للقتلى الإسرائيليين في هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) فحسب، بل للخلاص من بشر لا يزالون شهوداً على الجريمة المستمرّة منذ سبعة عقود ونيّف.
فيما كانت القمّة العربية – الإسلامية منعقدة في الرياض، يوم 11.11.2023، انطفأ ما تبقّى من تيار كهربائي في قسم الحاضنات في مستشفى الشفاء في غزّة، وراح الأطفال الخدّج يلفظون الروح الواحد تلو الآخر وهم لا يدرون شيئاً عما حلّ بهم ولا في أرض ولدوا وقضوا بهذه السرعة. في ذلك اليوم كانت المناطق القريبة من المستشفيات تحت ضغط ناري كثيف، وأرسل السكان نداءات استغاثة تقول إن في بيوتهم من قُتل ومن أصيب ونزف حتى الموت وجرحى يمكن إنقاذهم ولا تتوافر أي وسيلة لنقلهم. وُجد هؤلاء في أرض المعركة، وظنّ بعض منهم أن الخروج ورفع الرايات البيض وسيلة للنجاة لكنهم عادوا أدراجهم بعدما أطلق الإسرائيليون النار عليهم وسقط العديد منهم.
خلال الأسبوعين السابقَين تركزّ التوغّل الإسرائيلي في قطاع غزّة على طرد من تبقى من سكان في الجزء الشمالي. ظنّ هؤلاء أن سكناهم بالقرب من المستشفيات ربما تحميهم من قصف يتعمّد قتلهم، لكن الهجوم لم يوفّر المستشفيات نفسها وقد غدت مبانيها والساحات المحيطة بها ملاذاً لعشرات الآلاف من النازحين، وعلى رغم أن قوات الاحتلال تعرف منذ سنين كل شيء عن نشاط المراكز الطبّية، إلا أنها حكمت بالموت على الجرحى والمرضى والأطباء والممرضين لأنهم في نظرها ينتمون إلى “حماس”، وهي اتخذت قراراً بإبادة “حماس” ومن يناصرها.
ما تغيّر أيضاً، مع النكبة الثانية، أن دول الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي أطلقت من قمة الرياض دعوات إلى وقف فوري للحرب وكسر الحصار لتفعيل الإغاثة الإنسانية لأهل غزّة، ولم تكن هناك أي دعوات صريحة إلى مواجهة الحرب بالحرب، حتى من “دولة فلسطين”، آملةً بذلك أن يكون هناك في واشنطن مَن يسمع ويعي ويعمل على وقف الكارثة. لكن الأزمة والحرب والدعم الأميركي – الغربي المطلق لإسرائيل عزّزت توجّهاً غربياً إلى التحالف والتماهي مع التطرّف الإسرائيلي، وإلى تهميش غربي لدول “الاعتدال العربي” ورفض دعواتها السلمية كأنها غير موجودة أو كأنها مسؤولة عن التطرّف المتمثّل بـ”حماس”.
عشية القمة، كان آخر ما صدر عن الرئيس الأميركي ترحيباً بـ”هدنة أربع ساعات يومياً تتوقّف خلالها الأعمال القتالية” واستحساناً لـ”ممرّين إنسانيين يسمحان للسكان بالفرار”. نعم لم يجد رئيس الدولة الأقوى في العالم حرجاً في الحديث عن “الممرّين”، وعدا أنه “إهانة للإنسانية” (كما وصفه مسؤول فريق الطوارئ الطبي النروجي)، فإن الردّ الإسرائيلي لم يتأخر “لا هدنة ولا توقّف عن القتال” (وزير الدفاع). وبعد ساعات على انتهاء قمة الرياض ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي ليؤكد التصميم على مواصلة الحرب، وليكرّر ما صرّح به قبل أيام (ورفضته الإدارة الأميركية) بأن إسرائيل تعتزم البقاء في قطاع غزّة، أي إعادة احتلاله لتمارس فيه “المسؤولية الأمنية”، وبأنه يريد إقصاء “حماس” والسلطة الفلسطينية عن إدارة القطاع.
هذه إذاً دولة احتلال لا تمارس الحقّ في الدفاع عن نفسها (وفقاً للترخيص الأميركي)، بل “الحق” في الدفاع عن احتلال تمارسه باسم الدول الغربية التي هبّت لدعمه في جرائمه الجديدة، تماماً كما دعمت الجرائم السابقة لتمكين إسرائيل من أن تصبح دولة احتلال دائم، باعتبار أنها “سفيرتنا ورأس حربتنا ومصدر استخباراتنا في المنطقة، وإذا اختفت تسيطر روسيا والصين على هذه المنطقة” (بحسب روبرت كينيدي في شريط منتشر). مع إعادة الاحتلال هذه، وربطاً بما تشهده الضفة الغربية من جرائم سلطة الاحتلال وميليشيات المستوطنين في الهجمات على المدن والبلدات والقرى، تنفّذ إسرائيل خريطة طريق دموية للتهجير، وهذه المرّة بنيّة إفراغ الضفة والقطاع من الفلسطينيين، ليس بهدف إحداث نكبة جديدة وأخيرة فحسب، بل للانتهاء من شيء اسمه “حلّ الدولتين”، بل من شيء اسمه “القضية الفلسطينية”، إذ تعتبر أن مجرّد وجود شعب فلسطيني ولو على جزء من أرضه يمثّل “خطراً وجودياً” دائماً عليها. لكن التهجير لن يزيل هذا “الخطر”، بل سيظلّ يطاردها، والأهم أنه يعيد العرب إلى المربع الأول لـ”القضية”، فلا استقرار ممكناً في المنطقة مع فرض إسرائيل إرادتها الإجرامية بالقوة.