أحمد نظيف
وسط المطالبات بتدخل العرب والعالم والمجتمع الدولي ودول الجوار جميعاً، لوقف الإبادة المستمرة في غزة منذ أكثر من شهر، يقف المرء مشدوهاً أمام الغياب اللافت للرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، باستثناء اللقاءات، الفارغة المضمون، مع رؤساء ووزراء غربيين، لا يقف الرجل في الصف الأول بوصفه رئيساً لفلسطين. في مسارٍ موازٍ يخوض جزء من الشعب الفلسطيني حرباً – ربما تكون مفصليةً في تاريخ الصراع مع الاحتلال – لكن الرئيس يراقب من بعيد وكأنه رئيس لدولة بعيدة. لكن هل يُجدي التحليل الشائع لوضع “السلطة الوطنية الفلسطينية” والرئيس محمود عباس، من زاوية شديدة الضيق وهي ثنائية “العمالة والمقاومة”؟ لا يبدو ذلك لي مجدياً على الأقل، في سبيل فهم كيف يفكر الرجل؟ وماذا يريد، وهل يملك وصفةً للخروج من مأزق الوضع الراهن؟
أولاً أبو مازن ليس شخصاً طارئاً على الثورة الفلسطينية، فقد التحق بـ”فتح” باكراً، وإن لم يكن منذ البداية داخل النواة الصلبة للتنظيم، بسبب وجوده في سوريا. هذا المعطى التاريخي، ليس حجة للرجل، بقدر ما هو حجة عليه، في ما وصلت إليه إدارته للمنظمة والسلطة معاً منذ نحو عشرين عاماً. فهو يجرّ خلفه تاريخاً أثقله وأثقل جيله بفكرة أصبحت تحكم سلوكه السياسي وهي الأمر الواقع الإسرائيلي، الذي ليس منه مفرّ.
ثانياً، وهذا هو الأهم، يعيش أبو مازن خارج العالم، أقصد عالمه، سواء من حيث طبيعة المرحلة أم طبيعة النظام الدولي السائد. دائماً ما يبدو لي أبو مازن، كالقائد الوطني الجزائري مصالي الحاج، الرجل الذي قاد حزب الشعب ذا الأيديولوجيا الثورية، والذي عول كثيراً على التناقضات بين الإمبرياليات المتصارعة خلال النصف الأول من القرن العشرين، ووصل في النهاية إلى استحالة فكرة الثورة والكفاح المسلح، لأنه ببساطة كان يعيش خارج العالم، خارج عالمه الشخصي، الذي انتهى بنهاية الحرب العالمية الثانية.
صحيح أنه كان يعيش جسدياً في عالم ما بعد 1945، لكن تفكيره وآليات فعله السياسي كانت تنتمي إلى عالم ما قبل الحرب، ووفقاً لتوازنات القوى ما قبل الحرب، لذلك لم يفهم اللحظة، حتى تجاوزته الأحداث، عندما أعلن خمسة شباب، انشقوا من حزبه، الثورة المسلحة، انطلاقاً من فهمهم لتحولات ما بعد الحرب. ونجحوا أخيراً في تحقيق هدف التحرير. لم يكن مصالي الحاج عميلاً، لكنه كان خارج العالم.
عاصر محمود عباس كل تعرجات منظمة التحرير، بداية من أزمة “أيلول الأسود” وصولاً إلى رحيل أبو عمار. وقد شرع منذ الثمانينات، تحديداً بعد الخروج من بيروت، في التعبير عن آراء متقدمة حول التفاوض والتسوية، منطلقاً من تشخيص محدد للنظام الدولي، ومن معرفة محددة لطبيعة الكيان المحتل داخلياً، حيث كان بحكم التكوين الأكاديمي، ربما أكثر رفاقه اطلاعاً وأكثرهم كرهاً للكفاح المسلح. لذلك كان أكثرهم تحمساً لأوسلو، كونه نتيجة تلاقي ثلاث لحظات أساسية: تحول جذري في النظام الدولي (سقوط الاتحاد السوفياتي) مع تبلور جناح داخل حزب العمل الإسرائيلي يريد التخلص من عِبء الضفة والقطاع (رابين) وثالثاً فشل الانتفاضة الأولى بسبب حرب الخليج وموقف منظمة التحرير الملتبس من الحرب. ربما كان أبو مازن في ذلك الوقت مصيباً في التحليل، من ناحية نظرية، إذ كانت لحظة أوسلو في باحة البيت الأبيض، لحظة انتصار معنوي للآراء التي عبرّ عنها (وأصدرها لاحقاً في كتب منشورة).  لكن التجربة أثبتت أن ذلك لم يكن كافياً لبلورة فكرة حلّ الدولتين، التي دافع عنها وما زال. ومع ذلك مكث في مكانه من دون حراك فكري، معتبراً أن وجود خروق من الجانب الفلسطيني، كالعمليات التي نفذتها “حماس” في التسعينات، وعسكرة الانتفاضة الثانية بدعم من عرفات، هي التي أدت، إلى جانب تراجع تيار رابين وصعود الليكود، إلى فشل أوسلو، وأن إعادة إحياء أوسلو، يكمن أولاً في تفكيك أي إرادة ولو كانت بسيطة لعمل مسلح فلسطيني ضد الاحتلال (لدرجة التنسيق الأمني)، وثانياً السعي إلى إيجاد محاور معتدل في إسرائيل، وكل ذلك تحت ما يسمى “الشرعية الدولية” والوسيط الأميركي. فمن أوهام الرئيس التي ترسخت في بعض كتبه هي اعتقاده أن جزءاً من مشكل فلسطين كان سببه الحرب الباردة.
كانت هذه الأفكار التي تسيطر على الرجل، دافعاً أساسياً للولايات المتحدة وإسرائيل لدعمه بديلاً من أبو عمار. فرغم قبول الأخير بأوسلو، إلا أنه كان دائماً يترك خط الرجعة مفتوحاً نحو أي صدام محتمل مع الاحتلال، وهو ما فعله في أعقاب فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، إذ لعب دوراً في دعم الانتفاضة وتسليحها. في المقابل، فرض أبو مازن على منظمة التحرير، شكلاً واحداً لوجود المنظمة، وهو الشكل الذي أراده الأميركيون والإسرائيليون: رديفاً لسلطة محلية أهلية دورها الوحيد حل المشكل الإسرائيلي في إدارة الضفة. لكن ذلك كله لم يكن سوى عرض للمشكل الجذري، الذي يعانيه الرئيس الفلسطيني، وهو العيش خارج العالم، فقد بقي أسير لحظة أوسلو، مفكراً بأدوات التسعينات في واقع متحول على نحو سريع ودائم. يعيش الرجل خارج العالم، في عالمه الذي تعوده، وفي كل فرصة أو خطاب يتكلم لغة ذلك العالم القديم، من دون أن يدرك أن ذلك العالم قد مات منذ وقت طويل. مات أوسلو، ومات لاعبوه الرئيسيون، ومات زمانه، ولكن الرئيس أبو مازن ما زال مصراً على العيش على الذكرى.