منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى ورواد السوشيل ميديا يستحضرون أقوالاً وتصريحات لقادة وساسة عرب ممَن رحلوا تجاه القضية الفلسطينية، واختياراتهم كانت منتقاة بشكل يُظهر هؤلاء أنهم أصحاب رؤية ثاقبة تجاه هذه القضية ومعالجتها. لكن حقيقةً، هذا الأمر لا يتوقف على مَن رحلوا؛ بل سيرتبط يوماً بمن بقوا أيضاً على قيد الحياة.
والخيط المشترك بين هذه الأصوات التي رحلت هو عقلانية الرؤية وخضوعها للمنطق العقلي وواقعيته، الذي هو نفسه ما قامت عليه إسرائيل. وهنا قد نصل إلى نتيجة مفادها أن المجتمعات العربية قد تبدأ إعادة النظر في تخوينها حكامها، وكذلك مراجعة خطاب الصحوة الإسلامية الذي شغل أذهانها وارتكز منذ تأسيسه على قاعدتين، الأولى: عدم شرعية الأنظمة القائمة واستدعاء نموذج الخلافة، والثانية: لا اعتراف بأي علاقات مع إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية ما دامت القدس محتلة.
لقد كان خطاب الصحوة الذي حملته جماعات الإسلام السياسي مماثلاً لخطاب نظام ولاية الفقيه الذي تشكل بعد ثورة 1979 في إيران، والذي جعل معادلة العلاقات مع حكومات العالم العربي مبنية على أساس موقفها من الولايات المتحدة ومن دولة الاحتلال الإسرائيلي.
لكنها كانت معادلة انتقائية منذ بدايتها، فإن كانت إيران الإسلامية قد جعلت العالمَ العربي في أَسر خطابها تحت مفهوم الصحوة الإسلامية والعداء للولايات المتحدة وإسرائيل؛ لكنها مع دولة مجاورة لها مثل تركيا لم تكن تبني علاقتها معها على معادلة كهذه، رغم العلاقات القوية التي تجمع تركيا بإسرائيل!
بل حتى مع دول خليجية مجاورة لها مثل سلطنة عمان وقطر كانت علاقات إيران قوية معهما، رغم ما يجمع هذين البلدين من علاقات قوية مع الولايات المتحدة!
إذاً، الأصولية في السياسة الخارجية الإيرانية، هي الصورة التي أرادت إيران أن ترسمها في أذهاننا، وليست هي الصورة الحقيقية التي تمضي عليها إيران! وإلا ما وجدنا إيران اليوم تختلف عن إيران الأمس، وهذا يعني أن إيران، أياً كان مَن يحكمها، لا يمكنه تجاوز حسابات المنطق والقوة والمكسب والخسارة في العلاقات الدولية؛ لأنها حسابات تحكم مصير الأمم والشعوب لا إيران وحدها.
حسابات يحكمها المنطق!
وضعت عملية “طوفان الأقصى” الموقف الإيراني المحسوب بدقة في مصاف الحكومات العربية التي كانت تسخر منها بالأمس؛ فإيران لم تُسقط من ذهنها قاعدة “السقوط في الهواء” التي تعني القيام بخطوة غير محسوبة نتائجها وأبعادها؛ فإن كان ليس من السهل عليها خسارتها حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)؛ لكنها لم تدخل في حرب مباشرة مع إسرائيل، وهي تعرف أنها ستكون المعركة مع عدو أكبر يشمل قوى غربية على رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ولا ننسى أن العسكريين يقرأون التاريخ، وقادة إيران ليسوا بغافلين عن العدوان الثلاثي على مصر، الذي جمع ثلاث قوى على هدف مشترك يجمعهم.
ولذلك، فإن الضغط على الولايات المتحدة من خلال استهداف قواعدها العسكرية في المنطقة من قبل الفصائل الموالية لإيران يأتي في إطار التصعيد الحكيم والأهداف المزدوجة، فإخراج القوات الأميركية هدف لمصلحة إيران قبل أن يكون مساندةً لغزة.
وحتى “حزب الله” اللبناني ما زال محكوماً بالقرار الإيراني ولم يتجاوز مربع الجنوب، والفصيل الحوثي الذي دخل من اليمن على خط حرب غزة، يمثل الجبهة التي لا تخشى من خسارة شيء، بالإضافة إلى أن موقعه الجغرافي يعزز من استراتيجية شد الأطراف التي تتبعها إيران وورقة الضغط التي تمارسها على المجتمع الدولي القلق من التهديدات التي تطال تجارته وطاقته عبر البحر الأحمر وباب المندب.
وبالنظر إلى خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني، حسن نصر الله، السبت الماضي، فقد برهن أن الحسابات الإيرانية ما زالت يحكمها المنطق، فقد أعاد في خطابه الحسبة المنطقية التي تعلنها إيران، بأن المعركة مع الولايات المتحدة وليست مع إسرائيل، وأن الضغط الذي تمارسه على أعصاب البيت الأبيض باستهداف قواعد أميركا ومصالحها هو السبيل الأنجح لإيقاف هذه الحرب.
كان نصر الله يكرر في خطابه عرض الاستراتيجية العقلانية التي كشفتها إيران أخيراً بعد سنوات مَن رسمها صورة حماسية وأسطورية في أذهان أنصارها، بأنها ستقود معركة نهاية العالم ضد إسرائيل؛ وكأن نصر الله يريد أن يقول إن الحرب ليست قدراً محتوماً، بل إن هناك طرقاً أخرى بعيدة من الحرب المباشرة، ما لم تُفرض علينا.
الداخل يفرض طبيعة الخطاب!
حتى في داخل إيران، فإن الخطاب الإعلامي الرسمي لم يوجه أي رسائل تجاه حرب غزة بما يعارض الاستراتيجية التي وضعها المرشد الأعلى علي خامنئي، التي تقوم على تجنب الحرب المباشرة أو اتساعها إلى صراع إقليمي؛ بل ركز على أن عملية طوفان الأقصى تمثل آلام ولادة للمنطقة، مثلما كتبت صحيفة “كيهان” المقربة من معسكر المرشد الإيراني، السبت 11 تشرين الثاني (نوفمبر).
ولذلك نجد المعتدلين داخل إيران يُثنون على السياسة التي يتبعها النظام الإيراني بالنأي بإيران عن الحرب المباشرة مع إسرائيل، بخاصة أن بلدهم يعاني العقوبات الغربية ويواجه صعوبات ومشكلات اقتصادية تهدد سلامة وحدته الداخلية. إذاً، الداخل يفرض ويشكل طبيعة الخطاب الخارجي لإيران، فإن داخلها اليوم ليس هو نفسه الذي واجه الحرب مع العراق عام 1980.
وعلى سبيل المثال، فقد دافع وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف في جلسة نقاش استضافتها نقابة المحامين الإيرانيين في طهران، تحت عنوان: القضية الفلسطينية من وجهة نظر حقوقية، الأربعاء 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، عن السياسة الحكيمة التي يتبعها النظام تجاه أزمة غزة (وإن كان دفاعه لم يسلم من انتقادات رجال النظام بوصفه رجلاً سياسياً معتدلاً وخطابه يضر بصورة النظام الثورية). فقد كشف ظريف أن الداخل الإيراني لم يعد يتقبل أن يكون الإيرانيون أكثر فلسطينية من الفلسطينيين أنفسهم، وأن الدفاع عن المظلومين وفقاً للدستور الإيراني لا يعني القتال بدلاً منهم. كما حذر من جر إيران إلى مستنقع الحرب؛ لأن الضحية ستكون أطفال إيران لا حكامها!
ومثل هذا الخطاب لم يكن لأن جواد ظريف خارج السلطة الآن ويزايد على النظام الحاكم؛ فالرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، المرشح حالياً لعضوية مجلس الخبراء (مناط به اختيار المرشد الأعلى وتقييمه)، قد حذر خلال اجتماعه مع اللجنة المركزية لحزب “نداء الإيرانيين” (نداى إيرانيان)، يوم الإثنين 6 تشرين الثاني (نوفمبر)، من اندلاع حرب لا يمكن إخمادها، مشيراً إلى أن الداخل الإيراني يعاني انقساماً حول أزمة غزة بسبب الفجوة الاجتماعية والثقافية.
ويحذر روحاني من اندلاع حرب لا يمكن التحكم فيها وعيناه على المتشددين الذين يمكن أن يورطوا النظام الإيراني؛ حتى لا يخسروا قواعدهم وحواضنهم الاجتماعية، ولذلك يقول إن “أي خطأ أو قرار خاطئ أو عمل غير دقيق قد يجذب نار الحرب تجاهنا”. وهنا يؤكد روحاني عقلانية الحسابات؛ لأن اندلاع حرب لا يعني أن إيران ستواجه إسرائيل وحدها.
لا خطوة للوراء!
أيضاً، كانت مشاركة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وطبيعة الخطاب الذي قدمه خلال القمة العربية والإسلامية التي استضافتها العاصمة السعودية، الرياض السبت الماضي، بمثابة إقرار بالعقلانية؛ فلا رجوع إلى الوراء خطوة، بأن تخسر إيران مصالحتها مع العالم العربي، بتقديمها خطاباً تخوينياً، بل إنها تستثمر في هذه الأزمة بما يدعم مصالحها مع العالم العربي، فعلى سبيل المثال، اجتمع الرئيس الإيراني مع الرئيس المصري على هامش هذه القمة بما يمثل لحظة مهمة في تاريخ العلاقات الإيرانية – المصرية.
أيضاً لن تتحمل إيران وحدها عبء القضية الفلسطينية، وآنياً فإن المطلب الأول هو وقف العدوان على غزة، وهذا أمر موكول للدول الإسلامية والعربية كافة وليس لإيران وحدها.
بل حتى التصريحات النارية التي أطلقها الرئيس الإيراني قبيل توجهه إلى الرياض، بأنه “قد حان وقت العمل بدلاً من الكلام”، كانت ترجمتها العمل بجانب الدول العربية والإسلامية لدعم إعلان الدولة الفلسطينية، وإن اختلفت إيران على حدود هذه الدولة. وهذه ستمثل مرحلة أكثر تقدمية إن تعاونت إيران مع الدول العربية على دعم هذا المشروع.
بل حتى قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي الذي يمثل جهازه عماد حماية النظام الإيراني، كان خطابه الثوري الذي توعد فيه الولايات المتحدة وإسرائيل بالهزيمة في غزة، والذي قال فيه: “كابوس الدمار لن يخرج من أذهان الأميركيين والإسرائيليين”، كان خطابه يأتي في إطار كلمة قدمها حول الاستجابة للاستراتيجية الاقتصادية والأمنية التي أعلنها المرشد الأعلى، علي خامنئي، بشأن التنمية التي تتمحور حول البحار، وخاصة تنمية الموانئ والمدن الجنوبية وتأمين سواحلها ومياهها عسكرياً.
ولذلك، قال سلامي صراحة في ما يعبر عن أن إيران أولاً: “لا نسعى وراء المواجهة مع الدول العدوانية، فهم ليسوا أعداءنا، ولن نخوض حرباً مع الجيران حتى في خيالنا، لكننا نخطط لعرقلة القوى غير الإقليمية”. أي أن إيران تريد تعزيز هيكل قوتها العسكرية في خدمة مصالحها الاقتصادية في البحار على غرار ما تفعله الولايات المتحدة لتأمين ممراتها التجارية والطاقوية، وليس لمجرد فتح النار على أعداء مثل إسرائيل.
والمحصلة أن الشارع العربي والإسلامي كان ينتظر من الرئيس الإيراني خلال كلمته في الرياض ومن الأمين العام لـ”حزب الله” في لبنان خطاباً ثورياً يعلن الزحف المقدس تجاه القدس؛ لكنه هكذا صُور لهم، فإن خطابهم كانت تحكمه حقائق واقعية وحسابات عقلانية للتوازنات الدولية والإقليمية وسيناريوات سوداء ماثلة أمام إيران، تخشى منها أن تعيدها للوراء!