
ربما تكون أولى الصور التي تتوارد إلى أذهاننا عند سماع كلمتي «الجسد الغزّي» هي صورة الجسد المتناثر أشلاءً، المحمول على الأيدي، أو ذلك المدفون تحت الركام. وكأنَّ الجسد الغزي خُلِقَ هكذا، جسداً هامداً تسيل من على جنباته الدماء، دوماً، ودون توقف. لا مراء من أين أتت هذه الصورة القاتمة للجسد؛ رسمها الفعل الإسرائيلي وتغذَّت عليها أجهزة الإعلام لسنوات طوال. بيد أن قادم الحديث ليس قولاً سياسياً يُحلِّلُ ويُفسّر، بقدر ما هو دفقٌ لغوي على هيئة جسد غزّي منثور.
جسد بلا حكاية
في كل حرب يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، تظهر عبارة: «هؤلاء ليسوا أرقاماً». العبارة محقة في جوهرها، لا بل هي حقيقة بديهية، فلكُلّ رقم اسم وعمر وحكاية، وجسد. ولعلّ الأخير هو آخر ما يظهر من تلك الأرقام/ الضحايا. تحضرُ أجساد الضحايا الغزّيين كرسالة وداع أخيرة لكينونتهم، لكنها لا تحظى بهذه السكينة أبداً، فهي الموضوع الأول لكاميرات العالم منذ نهاية الثمانينيات. حينها كان للجسد الغزّي صورة مختلفة عمّا نراه اليوم. كان الجسد الغزي حيّاً، مُتحرِّكاً، وراقصاً أحياناً. وفي نظرة سريعة على أرشيف انتفاضة الحجارة نهاية الثمانينيات، يتمظهر الجسد الغزّي كجسد شاب قوي مُترَع بالحياة، لا سكون فيه، على العكس، اندفاعٌ دائمٌ وحركةٌ دؤوبة. رسمت المقاومة بالحجارة صورة حركية للجسد جعلته يظهر وكأنه في حال هجوم دائم، استنفار دائم، وثبات كبير؛ هكذا كان لمن يُقتَل في المواجهات حكاية كاملة، وقد تكون مُصوَّرة، وذلك ما قطعت أوصاله إسرائيل، وساعدها فيه ماكينات الإعلام على اختلاف توجهاتها. القتل الجماعي المُمنهَج سكَّنَ الجسدَ الغزّي في الصورة، قتل حركيَّته، والأخطر أنه، وبقتله الجنوني هذا، يسعى لمحو قصة هذا الجسد، وكأن أجساد الغزّيين أجسادُ دُمىً أتت من الفراغ، ولا حكايا لها. انظر إلى الفرق بين جسد محمد الدرة الذي تسجّى أمام أعين العالم، وغدت حكاية الجسد المُحتمي خلف أبيه المُتحوِّل من الحركة إلى السكون أيقونة، وبين أجساد إخوته التي امتدت ساكنة أمام أبيه بعد عشرين عاماً، لكن دون حكاية خاصة، فحالُها حالُ آلاف الأجساد الغزّية اليوم، التي لا يمنحها الموت السريع فرصة لتقديم حركتها/رقصتها الأخيرة في الحياة.
موجز تاريخ الأشلاء
في نظرة أنطولوجية على صورة الجسد الفلسطيني الساكن المقتول، تظهر مجازرُ صبرا وشاتيلا كأكبر وأول جهاز أَنتجَ عدداً هائلاً من صور الجسد الفلسطيني المقتول، الساكن، الُمَمثَّل به. لا يعني ذلك أنه لم يكن هناك صورة للجسد الفلسطيني القتيل قبل ذلك، بل تلك الصور موجودة منذ مجازر العصابات الصهيونية في دير ياسين والطنطورة وغيرها، لكن في صبرا وشاتيلا كانت للمرة الأولى تظهر بهذا الشكل وهذا الحجم. مئات الأجساد الساكنة مُقطَّعة الأوصال والمرمية في الطرقات، في مشهد هارب من أفلام نهاية العالم. بعد ذلك مرَّت مجازر كثيرة ارتكبتها إسرائيل، كانت صورتها الأساسية الأشلاء وليس الأجساد. من مجزرة قانا في لبنان إلى حروب غزة المختلفة ذابت وحدة جسد الضحايا، تفتَّتَ الجسد، حرفياً، واستحالَ أشلاءَ يجمعها المُثكَلون في أكياس ويجمعها المصورون بعدساتهم. ولأن إسرائيل بدأت تعيش على تمزيق ضحاياها، تراها اليوم بعدما قصفت مشفى المعمداني على رؤوس مرضاه والهاربين إليه، تقصف أكثف مكان في العالم، مُخيَّم جباليا، بأطنان المتفجرات، وبشدة مهووسة، لتحصيل أكبر قدر من الأشلاء.
إن محاولة تفجير الجسد وتحويله إلى أشلاء هي فكرة مُتقاربة مع حرق الجثث للتخلّص من الموجود الفيزيائي نهائياً. إزالة أي أثر للجثة، وإذابة كل اللحم الصرف الذي يتكون منه الجسد. إن تغييب الجثث، هو تغييب الدليل القانوني والسياسي لفعل القتل. لا جثة أي أنه لا قتيل، لا جريمة، لا دليل ولا قاتل. حرقَ النظام السوري جثث المعتقلين في صيدنايا، وأذاب مسؤولون سعوديون خاشقجي بالأسيد بعد أن قطّعوه. إسرائيل لا تحرق جثث ضحاياها، لأنهم ليسوا بأيديها، لذلك تُشظِّيهم، تفتت وحدة اللحم وتنسف ارتباطه بالمكان وتُحيل الأجساد إلى أشلاء تتلاشى في اللامكان.
أعضاء مُباحة وجسد مَشاع
الأعضاء واضحة، أعضاء أجساد الضحايا بيّنة، من منا لم يرَ كل أعضائنا؟! يدٌ هنا، قدمٌ هناك، أمعاء منسلّة كحبل، وجمجمة مهروسة، وعين تتدحرج فوق كومة لحم، لا نعرف لمن هي. كل أعضائنا غدت مَشاعاً للعالم. الجسد المَشاع هو الجسد الذي لا رأي له في صورته، الجميع يراه، هو متاحٌ أمام كل العيون ومَشاع أمام ملايين المشاهدين. لم تقتصر صورة الجسد المَشاع على الجسد الغزّي أو الفلسطيني. فالجسدُ المقتول، المُفتَّت، حاضرٌ على الشاشات، منذ صور معركة حلبجة وأطفال الكيماوي الذي استخدمه النظام العراقي، أو أجساد العراقيين إبّان الغزو الأميركي، وصولاً إلى الجسد السوري المُمزَّق على الشاشات منذ عقد. في المذبحة السورية، استُنسخت صورة الجسد المباح، أشلاء البشر المتناثرة، الدم المسفوك المُراق في كل مكان، وأنصافُ الأطفال وأدمغتهم المتفجّرة، الأجساد المطمورة في الركام، والأعضاء المُتطايرة، كلها أصبحت صورة نمطية للضحية السورية. اليمن كان لها الصور ذاتها أيضاً، وتناثرت أعضاء اليمنيين وأجزاء أطفالهم على زجاج الكاميرات.
تكمن الخطورة هنا في عبارة «أصبحت صورة نمطية». أي تنميط صورة الجسد القتيل، وجعلها، لفرط حدوثها، وفرط عرضها، صورةً مألوفة. خلطُ الرمل بالحجر بالبشر، صورةٌ مألوفة. الأطفال بما هم كومة لحم مُنكمشة من الخوف، صورةٌ مألوفة. أيدي الأطفال وقد كتبوا أسماءهم عليها، صورةٌ مألوفة. إن ألفة صور مثل هذه هي ما تنزع أي قدسية، أو حُرمة، للجسد، وتجعل منه موضوع الصورة الإخبارية. يراه من يراه، ويستخدم الصورة من يريد، ولأي غاية، ويغدو الجسد، الفلسطيني والسوري والعراقي واليمني، جسداً مُباحاً، ومَشاعاً، يحق لمن يريد استخدامه بما يخدم سرديته السياسية والإعلامية بغضّ النظر عن صاحب الجسد وحكايته التي أنهاها القتل. لذلك، إن نشر صور الأجساد، بما قد يكون وراءه من نوايا داعمة وطيبة، هو محاولة دائمة لهدم حدود الجسد، وهدم حضوره في ظهوره الأخير قبل أن يُوارَى سريرَ المشفى أو الثرى.
جسدٌ خاضعٌ حدَّ الموت
ليست الأجساد الميتة وحدها المُباحة، الآن مثلاً، في الضفة الغربية حكاية أخرى للجسد الفلسطيني. فهناك يتم العمل على ترويض الجسد المُنتفِض وجعله جسداً مُكبَّلاً خاضعاً. وربما أكثر ما يُثير الرعب في صورة الجسد المغلول أنه حيّ، ولكنه يحمل استعدادَ الموت، فقد يستحيل جسداً هامداً مُمداً على الأرض في الأقبية الباردة، ومَرقوماً على صدره في مُحاكاة لأجساد مغلولة ومقتولة أخرى أَفزعتنا صورها في سوريا والعراق.
هذا الحضور الخاضع للجسد، وعملية ترويضه، ظهرت يوم 7 أكتوبر كتمظهُر للجسد الإسرائيلي للمرة الأولى بعد حضورها في صور أسرى حرب أكتوبر 73. بيد أن الفارق في الصورتين، والتشرينين، هو تصوير عملية إخضاع الجسد الإسرائيلي وتكبيله بالأغلال، وجره بعنف إلى معتقله، في مشهد يقلب جذرياً تمثُّلَ الأجساد المكرَّس على الشاشة. فالجسد الفلسطيني هنا هو الفاعل المُسيطر، والجسد الإسرائيلي هو الخاضع المُقيَّد، الحامل معه أيضاً احتمالات الموت تحت الأرض. .
بنك الجلود الفلسطينية
تُجرّم المادة 15 من اتفاقية جنيف الرابعة احتجاز جثامين القتلى أو أخذ أعضاء من الجثمان إلا بعد موافقة أهل القتيل، سواء في المعارك أو داخل السجون، وعدم استخدام جلد أو دماء القتيل ولو بدافع إنساني. بعكس ذلك، أصدرَ «الكابينيت الإسرائيلي» عام 2020 قراراً يقضي باحتجاز جثمان كل فلسطيني بصرف النظر عن انتمائه السياسي. أي أن الجسد، جسد الفلسطيني، ورقة سياسية قد يتم استخدامها كورقة مساومة في أي عملية تبادل مع المقاومة الفلسطينية. إلى هنا يبدو الكلام مُكرَّراً عن فرار إسرائيل مما يسمى اصطلاحاً «العدالة الدولية»، لكن حينما نجد أن إسرائيل لديها أكبر بنك للجلد الإنساني في العالم! هنا ندخل إلى مصائر تلك الجثامين المتحفَّظ عليها.
يحتوي «بنك الجلد الإسرائيلي» على 170 متراً مربعاً من الجلد البشري، مُتقدماً بذلك على بنك الجلد الأميركي الذي تأسَّسَ قبله بعقود، فضلاً عن الفرق الهائل لتعداد السكان في بين أميركا وإسرائيل. لم يكن الأمر يحتاج تحقيقات تلفزيونية وتحصيل اعترافات من العاملين في البنك عن مصدر الجلد. هو جلدٌ مسلوخٌ من الجثامين الفلسطينية، ليس في غمار العنف والنار، بل بطريقة مُحوكمة ومُقنَّنة، يغدو فيها الجلد الفلسطيني مادة علمية وطبية قد تُستخدم لترقيع جلود القتلة. أما العظم، فلربما تظهر علينا اسرائيل بعد عقود بمعرض لجماجم المقاومين الفلسطينيين، في متحف الإنسان، على غرار جماجم المقاومين الجزائريين المحفوظة في مخازن فرنسا.
تلفزيون الواقع المُرّ
أي واقعية تلك التي شهدتها حادثة قتل عائلة مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح. على الهواء مباشرة، المراسل الذي ينقل أحداث الحرب، نُقِلَ إليه خبر وفاة عائلته، زوجته وأطفاله. مشهدٌ مغرق في حقيقيته، وفي ألمه. الدحدوح، الذي بنى معه المشاهدون علاقة عبر التواصل الحيّ واليومي في حالة الحرب، تحوَّلَ من مراسل حربي إلى بطل تراجيدي، شخصية درامية دفعت ثمناً مباشراً لأفعالها بنقل الحدث كما هو. بطل تراجيدي يردد صرخته: «بينتقموا منا بالولاد، معلش، هاي دموع إنسانية مو دموع خوف». صور وائل مع عائلته وأبنائه الراحلين كانت حلقة من تلفزيون واقع، قاسٍ جداً، مرّ، لا يصنعه الفلسطينيون ترفاً، أو فناً، بل يُفرَض عليهم، فيتماهون معه ويعيشون الواقع، ويبقى لهم، كما كان لوائل، صورة أخرى غير صورة الموت تلك، صورته وهو بين أفراد عائلته يغنون ويَسمرون، ويَحيَون.
وجوه وابتسامات
الوجوه حكاية أخرى، تفاصيلها وصورتها. تَبايُنها بين صورة شيخ ورجل، طفل وامرأة، أو شباب وشابات برغبة واضحة للعيش، لا للموت. حتى وجوه أولئك الخارجين من العدم، المُغَطِيْنَ بالغبار، تبتسم في أول لحظة حياة لها. تبتسم رغم وجه الوجود العابس. وهذا دون نسيان صور تلك الوجوه، الأطفال تحديداً، التي أَترعها الخوف وحجّرَ حَدَقتيها، فتلك صعبة، وقاسية، تكسر القلب، ولا يمكن الكتابة عنها.
أصبح الابتسام وقت الاعتقال علامة فلسطينية. انظُر الابتسامات على وجوه الموقوفين في المظاهرات الداعمة لفلسطين في ألمانيا مثلاً، هي ذاتها ابتسامات الأطفال المُعتقلين في أحداث الشيخ جراح وقبل ذلك في الانتفاضات الفلسطينية. وكأنَّ فعل الابتسام هو الفعل الوحيد الذي لا يتنازل عنه أبناء الحكاية الفلسطينية، مهما عاملهم العدو، والمحيط الإقليمي، والعالم، على أنهم فائضٌ بشري لا يمكن التخلّص منه.