يحمل الكاتب والروائي السوري إسلام أبو شكير ثيمة الغرابة واللامعقولية التي تنسج تفاصيلها السردية الممتعة سعة الخيال، وإسقاطاتها الرمزية العديدة مفترضًا: “يلد طفلٌ بجناحين كما العصفور، ويثير الرعب والاستغراب لأهله وجيرانه، يطير ويحط على شجرة”، في روايته الصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع في دمشق (2022)، الموسومة بعنوان “العاوون”.
إنها “نوفيلا” في (124) صفحة من القطع المتوسط، تتكئ على صورة عجائبية لكسر صورة النمطية والسائد والمتعارف عليه – شكلًا وسلوكًا – اجتماعيًا وأخلاقيًا، وظاهرتي القمع والقهر المجتمعي لأفراده، في قالب لا يخلو من الطرافة والكوميديا السوداء التي تعرّي وتفضح هذه “المقدسات” في سبيل هامش أرحب للرغبة والحب والتفلّت.
يحيلنا أبو شكير إلى سؤال دائم وحارق حين يقول عن صراع الفرد في سبيل حريته قائلًا: “أية أجنحةٍ هذه التي تتربص بها المقصّات والمباضع والسكاكين والبنادق”، وطارحًا أسئلةً تبقى معلقة ـ تاركًا لقارئه حرية الإجابات. أفلا يستحق الجنون فرصةً للولادة والحياة؟ ألا يجب أن ينعم الحلم –حتى لو كان مستحيلًا- بلذة العيش بحرية؟
من هم “العاوون”؟
من خلال العنوان، تتجلى للقارئ فكرة الرفض من خلال صورة الطفل الذي خرج حديثًا من رحم والدته، ولكنه يحمل “جناحين”، ويبكي فيما يشبه “العواء” الذي قد يكون تمردًا على فكرة التجسد. ثم يطير ويحلق بعيدًا فارًا من يد القابلة التي تمثل “الحياة” ملوثة بأفكارها المسبقة والثابتة عن شكلنا وما يجب أن نبدو عليه. في مطاردة يشترك فيها جميع أبناء الحي ما بين شامت وساخر ومتعاطف والصياد الشرطي المصاب بالروماتيزم (أبو محارب) الذي نسمعه يؤنب الوالد الكسير قائلًا: “ابنك هذا ولدٌ لئيم وخبيث… حقير وكلب… لكننا سنغلبه. سنجعله يغادر هذا المكان الذي يتحصن فيه، ويهبط إلينا ذليلًا كأحط خلق الله”.
بينما يندب الأب (صبحي) الذي انتظر طويلًا ولده ذا الجناحين عاريًا على رأس شجرة حظه العاثر وصدمة الولادة غير المألوفة لولده الأول الذي أفقده لذة الشعور بالأبوة. وولادته غير طبيعية، فالطبيعي بالنسبة له أن نولد بلا جناحين وبلا حرية، محاولًا استعادة ولده بأي شكل كان!. مرددًا بيأس: “ستكون معجزةً لو نجا”.
العنوان وكركيزة أساسية لفهم النص وأبعاده الرمزية يستند إلى فكرة الرجز والمنع والرقابة الاجتماعية المتربصة بنا كأفراد. فالنهر والتأنيب يوازي لدى أبو شكير فعل “العواء” على قافلة “خصوصيتنا الفردية، وخياراتنا الشخصية”. وتحديدًا في مجتمعاتنا الشرقية التي تكبل أفرادها بسائر ضروب الترهيب والتخويف من أن يكون أحدنا ذاته، ونفسه المغايرة والمختلفة عن سواها.
ترهيب قد يصل حد القتل المادي والمعنوي يمنعك من أن تكون أنت. هؤلاء “العاوون” باسم الفضيلة والتديّن والأخلاق والتعريفات المتوارثة والمكرسة عن الفضيلة جيلًا فجيل تختصر اجتماعيًا مفهوم “الفرد الصالح”، أو تمارسه “أجهزة الدولة” ومؤسساتها ومحاكمها و”تعوي” باسم القانون مهما كان متعسفًا لتخلق بالإكراه أو الرضى الممزوج بالمهانة أيضًا “مواطنًا صالحًا”. ليكون الرمز هنا مغايرًا بين “عواء” الطفل المتمرد الرافض الذي يحاول فرض “فرديته” الذي يشبهه أبو شكير بـ”كسيخ من الحديد المحمى كان عواؤه يخترق الآذان. وعلى الرغم من شراسة الألم لم يتحركوا”.
و”عواء” المجتمع- المؤسسة دفاعًا وزجرًا له، وهو يرمي في حيلة ذكية ملابس والدته لاستثارته وتأنيبه: “لم يحط فوقها على مهل، كما يحط أي طائر، بل رمى بنفسه فوقها. رأوه، وهو يهوي كحجر مرتطمًا بها”، ليعود الصوت بكاءً فيما بعد كأي بكاء.
أرواح بلا أجنحة
“لطالما رأيا الجناحين عندما كان يدفع بهما من تحت القماط في محاولات يائسة للتحرر والانطلاق”. تتفاعل الأحداث فيما بعد بسردية يتوجها صراع الأبوين المكسورين، ومحاولة تقييد جناحي ولدهما البكر بالأقمطة. ثم الطلب إليه أسره داخل قفص. رفض الأب الفكرة كون ابنه “ليس حيوانًا”، فتلك الأجنحة بمثابة وصمة عار، تشوه يريدون إخفاءه عن الجميع. شعور يومي بالقلق والفقد. يتجلى ذلك في الكابوس الذي رأته الأم لطفلها الطائر تنهش جسده الصغير قطة، تترك بقايا أحشائه الممزقة متدلية على غصن شجرة.
الكابوس الذي أصبح خطابًا أبويًا يحث به ولده على عدم العصيان والطيران مستخدمًا تأنيب الضمير وتحميله عبء الحب الثقيل قائلًا لولده: “الطيران خطير جدًا… البشر يمشون عل الأرض فقط”. أو تعداد مخاطر طيرانه من ريح شديدة، أو صياد أهوج، أو مفترس آخر. قبل أن يستسلما لفكرة قص جناحيه، الفكرة القاتلة التي تراجع عنها الأب وفقًا لنصيحة (أبو محارب) الذي طلب إليه تشذيب وقص الريش فحسب. ليكتفي الولد بطيراناته السرية التي توازي الخيال الجامح، التحليق خارج عالم المثل الاجتماعية المغلقة التي تقوم على المسموح والممنوع، الحلال والحرام وسواها من القيود. ومخاوف عالم صوره له والداه عن الافتراس والموت. وأن الأمان المنشود يكمن في الاتباع والإصغاء والرضوخ لا بالتحليق، “وغسيل العقول الحرة، وتشكيل فطرتنا السليمة وفقًا لضروب الأسس التربوية الاجتماعية”.
“جرّب هذا الطيران عدّة مرّات، ولم يشعر في لحظةٍ بقدرٍ من اللذّة، والدهشة، والفرح، والانتشاء كهذا الذي يغمر كيانه الآن شعورٌ جديد لم يعهده، وقد فاجأه أنّه لم يترافق – كما جرت العادة- بذلك الإحساس الثقيل بالذنب الذي من شأنه أن يضع حدًّا لتوهّجه وطغيانه. بدا له – كما لم يحدث من قبل- أنّه يمارس حقًّا من حقوقه البسيطة، كالمشي، أو الطعام أو الشراب. إنّهما جناحاه، جزءٌ منه، وليسا عاهةً تعيقه عن ممارسة حياته، لا يختلفان عن ساقيه اللّتين لم يمنعه أحدٌ عن المشي بهما، أو الجري، أو ركل الكرة“!
ورمزية “القص” هنا، تتماهى مع البرمجة المجتمعية لوعينا كأفراد، وتهذيب وتشذيب سلوكه فلا شيء يوجد خارج إطار الجماعة المستبدة أيًا كان شكلها التي تجعل من الفقر والاستغلال سلاحًا لكبح جماح الأرواح الحرة، ثم خجلًا من طيرانه- حريته ليقول له أبو محارب ساخرًا: “لم يعد بين الناس من يمتلك الوقت لينظر إلى الأعلى بحثًا عن شخصٍ طائر. رؤوسهم جميعًا إلى الأسفل فقط. يبحثون عن لقمة طعام”. فإن “قطعة خبزٍ يابس في كومة قمامة هي ثروة أيها الصغير”.
الجاذبية القاتلة
يكشف أبو شكير النقاب عن خبايا قصته العجائبية، وبأسلوب سردي ماتع يعتمد التكثيف واللغة التي تنسكب في مونولوج يطرح وجهي القصة: الطفل الطائر الذي غدا شابًا والعجوز أبو محارب الذي أنهكه المشي والتشبث بالأرض، وأعياه الروماتيزم. فليس العجوز إلا صورة أخرى للطفل الذي استجاب واستسلم ورضخ لـ”يمتص جسده” جناحيه حتى نسي “حريته”. أمام ذلك الفعل المكرر – الانحناء- تتبخر الروح، ويبلى وجه الحياة، وتصبح موازية للعدم. “لم أكن أعلم أن الأجنحة تختفي من تلقاء نفسها، كنت أظن أنها تستأصل فقط، تقتلع بالسكاكين والمقصات والسواطير فقط، أو بمبضع طبيب غبي في أحسن الأحوال”.
“عندما مددوني على الأرض، حشا أحدهم فمي بقطعة قماش التقطها من الأرض، حاولت أن ألفظها، لكنه دفعها بعنف إلى الداخل، إلى درجة أنه حطم أحد أسناني الأمامية، فعلوا ذلك كي لا أتمكن من الصراخ”. ولم يتبق منه، إلا صرخة عميقة مدفونة في أعماق الروح، صرخة بكماء ابتلعها جسد أبو محارب منذ أن تم تخليصه قهرًا من جناحيه بمقص مستعمل يوازي العادات والأفكار البالية وبقايا دم ينز يحفر ألمًا في الروح، و”ألسنة مقطوعة”، وندبة لا تمحى.
العجوز في بنيان النص يظهر بأوجه متعددة، مرة ساخرًا من الغباء ومرة محفزًا للمنظومة المجتمعية بفعل ما يجب رغم عجزها وجمودها. وأخيرًا، بالضحية التي سلبت منها أجنحة حريتها بفعل جاذبية قاتلة. يظهر فيها أبو شكير أمينًا لفنتازيا خاصة، تستمد من فعل “العواء” رمزيتها العميقة بين حالمٍ بـ”حريةٍ مستحيلة”، و”عاوون” لا يكفون عن ممارسة استبدادهم الأزلي.