وأذكر أيام الحمى ثم أنثني/ على كبدي من خشية أن تصدّعا.
ربما هذا البيت من قصيدة ابن دمينة أكثرها شهرة فيها، خاصة بعدما غنته فيروز ووديع الصافي، وصار يلامس شغاف قلوبنا، نحن الذين كبرنا على ثقافة شعبية تعلي من شأن الماضي، بل يكاد الماضي لا يغادرنا، مع كثير من العاطفة المتقدة عندما نتذكره، عاطفة يملأها الحنين، والحسرة على ماضينا “الجميل”. فالعودة إلى الماضي هي حالة مترعة بالحنين إليه، وإلى العادات والقيم القديمة، وكثيرًا ما تتردد تعبيرات مرفقة بحالة عاطفية مفعمة بالحسرة والتوق، من قبيل: “الأيام الخوالي”، أو “سقى الله أيام زمان”، في أحاديثنا. إنه الحنين.
الحنين
هو شعور بالحسرة على الأزمنة الماضية أو الأماكن التي اختفت أو أصبحت بعيدة، والتي يرتبط بها شعور “ممتع ومريح”، غالبًا بعد وقوع الحدث. وغالبًا ما ينتج هذا الشعور عن فقدان أو تذكّر أحد ملامح أو شواغل تلك الأزمنة أو الأماكن، إنما أكثرها شيوعًا هما البعد المكاني، والشيخوخة التي تمثل بعدًا زمنيًّا. أخيرًا، يمكن أن يشير هذا الشعور إلى ندم، أو حسرة تجاه رغبة غير مشبعة. هذا الشعور “الممتع والمريح” المرافق للحنين، تناولته نظريات ودراسات حديثة خلصت إلى أن الحنين، عندما لا يكون طاغيًا جدًّا، هو رافد إيجابي للنفس، يمنح الحياة معنى في مواجهة الموت المحتوم، وأنه في هذا السياق يمتلك، أو يمكن أن يمتلك، وظيفة وجودية.
يُعرّف قاموس لاروس الحنين بأنه “حالة من الضعف ناتجة عن البعد عن الوطن”. ويعرفه موقع CNRTL (المركز الوطني للموارد النصية والمعجمية) بأنه “حسرة حزينة على شيء، أو حالة، أو وجود”، مع تحديد حدثين مهمين لتأهيل موضوع الحسرة، وهما: “الذي كان لديك أو عرفته”، ما يعني وجود رغبة في العودة إلى الماضي؛ “الذي لم يكن لديك أو لم تعرفه”، وهذا يعني وجود رغبة غير مُشبَعة. وفي المعاجم العربية، نرى من بين تعريفات الحنين أنه كآبة تحدثها الحسرةُ على ما فات وابتعد.
فيروز: صوت يحمل الحنين ويعلي من شأن الماضي في قلوبنا (Getty)
من الملاحظ، في الواقع، أن شعور الحنين يميل في العادة إلى الازدياد مع التقدم في السن، على الرغم من أن هذا الشعور قد يظهر منذ فترة المراهقة التي تعدّ فترة ازدهار العاطفة والمشاعر الذاتية. لقد قدر العديد من المؤلفين أن الحنين ما دام أنه ليس مفرطًا بشكل مرضي، يمكن أن يسهم في الراحة النفسية للشخص المسن، كأحد “موارد الهوية”، وكافة العناصر المتعلقة بتقدير الذات والإيجابية الذاتية، بالإضافة إلى كونه آلية ذاتية، وكل هذه العناصر يمكن أن تكون مصدرًا للرفاهية “النفسية”، والمهارات الشخصية، وتسهيل الروابط الاجتماعية، والدعم المعنوي والاجتماعي، والنمو النفسي، وربما المعنى في الحياة في مواجهة القلق الوجودي. هناك مقولة رائجة في مجتمعاتنا تفيد بأن المرء عندما يكبر يصير كثير الحديث عن الماضي.
الحنين بوصفه شكلًا من أشكال الوعي الجمعي
إن بنية شعور الحنين يمكن عدها شكلًا من أشكال الوعي الجماعي الذي يتجلى من خلال المجال العاطفي، ويمكن أن يؤثر على الثقافة والمؤسسات والممارسات الاجتماعية والتصورات الرمزية لفترة معينة، ما يعزز العلاقة بين الذاكرة والتأصيل الاجتماعي للحنين إلى الماضي التاريخي، ما أدى إلى أن يطلق عليها الدارسون والباحثون، ظاهرة “الأوستالجيا die Ostalgie”، وهي كلمة ألمانية مشكلة من جزأين: Ost (شرق) و(Nostalgie) الحنين، وهي كلمة جديدة تشير إلى الحنين إلى ألمانيا الشرقية القديمة (جمهورية ألمانيا الديمقراطية). وقد تم استخدام هذا المصطلح بعد ذلك لدول أخرى في أوروبا الشرقية، مما أضاف معنى موسعًا لـ “حنين إلى النظام الشيوعي”.
“الحنين عندما لا يكون طاغيًا جدًا، هو رافد إيجابي للنفس، يمنح الحياة معنى في مواجهة الموت المحتوم، ويمكن أن يمتلك وظيفة وجودية”
فما هي دوافع هذه الظاهرة وتناميها؟
مع فتح الستار الحديدي وإعادة توحيد ألمانيا، اختفت الحياة التي كانت مضبوطة بشكل صارم من قبل الدولة الشيوعية والتي كان فيها جميع العاملين موظفين، بالإضافة إلى المنتجات الاستهلاكية الألمانية الشرقية “الرخيصة” التي كانت متوافرة للجميع، لصالح سوق تنافسية ومجتمع ليبرالي حيث الوظائف تخضع لتقلبات اقتصاد السوق، بينما تقلل المنتجات الغربية الألمانية أو المستوردة، التي هي أكثر وفرة ولكن أغلى، من القوة الشرائية، من دون أن ننسى مشكلات السكن، وارتفاع إيجاراته، بينما كانت الأمور متاحة للجميع في النظام الشيوعي، عدا الناحية الثقافية التي تعد جزءًا مهمًّا من الهوية، إذ جرى طمس جوانب عديدة منها. فجأة يتحول النظام الأبوي الألماني الشرقي إلى الرأسمالية والمسؤولية الفردية، ليجد جزء من السكان من ألمانيا الشرقية، الذين تكيفوا مع 45 سنة من النظام الشيوعي، أنفسهم وقد وُضِعوا بين عشية وضحاها أمام اقتصاد السوق من دون مرحلة انتقالية تقريبًا.
هذا الحنين إلى الفترة الشيوعية في أوروبا الشرقية، “الأوستالجيا”، يثير في الفضاءات العامة لهذه البلدان مواقف متناقضة وأسئلة حول طبيعته. فهل يمكن أن يكون تعبيرًا عن قبول أو تأييد للفكر الاستبدادي؟ أم هو رفض للديمقراطية؟ أم، على العكس، إشارة حتمية إلى ماضٍ متجذر في التاريخ الشخصي؟ لقد تمت دراسة هذه الظاهرة، وما زال الاهتمام بدراستها إلى الآن، على نطاق واسع من قبل المؤرخين، ولكن أقل من قبل علماء الاجتماع، إنما لم تحظَ بالاهتمام والدراسة الكافيين من قبل علماء النفس.
الذاكرة والتمثلات الاجتماعية
ربما، من خلال هذه الدراسات، وبالاعتماد على مخرجاتها، يمكننا فهم الحالة السورية الحالية، وتحليل الأسباب التي فاقمت خطاب الكراهية والانقسام المجتمعي، وموقف مكونات الشعب السوري من التحولات القائمة وأداء السلطة الجديدة، وموقف هذه المكونات بعضها تجاه بعض.
حين ينسد الأفق، كما هي الحال في مخيمات اللاجئين السوريين، تصبح الذاكرة ملاذًا لرسم المستقبل المنشود (Getty)
بل يمكن القول إن بعض شرائح الشعب السوري كانت بدأت تعبّر عن حسرتها وحنينها إلى ما قبل عام 2011، منذ أن بدأت معالم انهيار الدولة والمجتمع تحت تأثير الحرب والعنف والتدخلات الخارجية، وما نجم عنها من انهيار مستوى الحياة بكل مجالاتها.
مما لا شك فيه، أن الحالة المعيشية ومستوى الحياة الفردية والجمعية في سورية هي اليوم في أدنى مستوياتها، بعد أربعة عشر عامًا من الحروب والاقتتال والتهجير وتغوّل السلاح والتجييش الطائفي أو القومي، وبعد سقوط النظام القمعي بستة أشهر، ما زالت العقوبات عمليًّا تجثم على صدر الاقتصاد السوري والشعب السوري، ما جعل العيش في أضيق صوره، بالإضافة إلى تفاقم الكراهية والعصبية الدينية والقومية، وانعدام الأمن بشكل عام، واستهداف شرائح من الشعب أكثر من غيرها بما يهدد حياتها ويشكّل خوفًا وجوديًّا لديها. هذا وغيره من الظواهر الاجتماعية الواقعة فعلًا يجعلنا نفكر بأن الحنين إلى فترة تاريخية هو ثمرة الذاكرة الجمعية لأي جماعة، تمثل الذاكرة الجمعية التي تقوم باختيار المعرفة المتعلقة بالأحداث والحقائق من الماضي، شكلًا من أشكال التفكير الاجتماعي.
“التفكير الرمزي” في الذاكرة الاجتماعية يعتمد على محتوى يتأثر بشكل كبير بالانتماء إلى مجموعة، وتساهم كل من التمثيلات الاجتماعية والذاكرة الاجتماعية في البناء الاجتماعي والرمزي للواقع وتشكيل الهوية للجماعات، وعليه فإنه بالنسبة إلى الحالة السورية الراهنة، وكل الفوضى وعدم الاستقرار الاجتماعي التي تمور بها حياة الشعب السوري بغالبية شرائحه ومكوناته، يمكن تشبيهها بحالة الشعوب التي كانت ملحقة بالمعسكر الشيوعي، حيث الحنين إلى الماضي السوفياتي كنتاج للذاكرة الاجتماعية، من الممكن أن يكون نتيجة لعملية تمثيلية تهدف إلى الفترة السابقة للتحولات الديمقراطية في أوروبا الشرقية. إذ يلعب الحنين دورًا كبيرًا ومهمًّا بما أنه انتقائي بشكل أساسي، ويخصص سمات إيجابية لواقع بالغ التعقيد، ويقوم باستحضار الماضي عبر صور مريحة ومطَمئِنة، مع شعور مؤلم بفقدان لا رجعة فيه للواقع الذي تمثله.
“كلما أظلم الأفق في وجه المجموعات البشرية، ازداد الماضي حضورًا في لا وعيها الجمعي، ويثير الحنين رؤية للماضي غير موضوعية”
بعد عقد ونصف العقد تقريبًا من الحروب والعنف والتهجير وانهيار الدولة والمجتمع، وتقسيم سورية في الواقع إلى مناطق نفوذ عديدة، وتوزع الشعب بين داخل وخارج سورية، وغير ذلك من مظاهر الانقسام والتباين من حيث الظروف المعيشية والواقع الحياتي، ونواظم العيش المشترك ضمن كل منطقة وتحت ظل سلطات أمر واقع، فإنه يمكن القول إن الحنين إلى فترات تاريخية سابقة أمر وارد، إنما يختلف من بيئة مستجدة إلى أخرى، فذاكرة الطفولة والشباب لدى السوريين في مخيمات اللجوء تختلف عن تلك التي تخص الشريحة التي لجأت إلى دول تدعم اللاجئين وتمنحهم حياة أكثر كرمًا. كذلك بالنسبة إلى السوريين في مخيمات النزوح الداخلي، وبالنسبة إلى السوريين في مناطق سيطرة النظام السابق، وفي مناطق سيطرة المعارضة بكل أطرافها.
اليوم تمر سورية في مرحلة انتقالية بالغة الحساسية في ظل تركة هذه الحرب التي فاقمت إرث قرون وليس عقود فحسب، من القضايا الخلافية التي بقيت الأبواب عليها مواربة في كل المراحل، من دون أن يصل المجتمع إلى حلها أو التصالح مع ماضٍ تركتُه ثقيلة، ويشكل تبجيل الماضي جزءًا مهمًّا من هذه التركة، نحن شعوب تقدس الماضي، ويكويها الحنين إلى أمجاده والتوق إلى إحيائها، من دون أي موقف نقدي منها، وبالتالي فإن هذه الشروخ الموجودة في مجتمعاتنا، تزداد عمقًا مع الزمن، ويزداد معها الخوف من المستقبل، فتلجأ كل جماعة إلى تشكيل المستقبل من خلال ذاكرتها الجمعية وصور الماضي في هذه الذاكرة. هذا يجعلنا نتخيل ماضيًا سعيدًا لم يكن موجودًا أبدًا، ولكن يمكن دائمًا تجميله في الماضي، وإعادة تجربته في المستقبل: إنه مفرح وإيجابي وينعكس إبداعيًّا. وهناك وجهة نظر سوسيولوجية تفيد بأنه يمكن أن يصبح تركيز بعض المجتمعات على ماضيها واضحًا بشكل خاص عندما تصبح الإشارات إلى عصر ذهبي سابق أكثر تكرارًا. العصر الذهبي هو رؤية لماضٍ سعيد، بعيد ويبتعد أكثر فأكثر مع مرور الزمن، لكن، لكل فئة من فئات شعبنا السوري، ماضٍ يعدّ بالنسبة لها، وفي موروثها الثقافي التاريخي، عصرًا ذهبيًّا، زاد في بريقه وإلحاح الحاجة إلى إحيائه والعودة إليه، الكم الكبير من العنف والتجييش الطائفي، وسردية المظلومية تاريخيًّا، وخلال السنوات الماضية.
كلما أظلم الأفق في وجه المجموعات البشرية، ازداد الماضي حضورًا في لا وعيها الجمعي، على مستوى الأفراد والجماعة، إذ يثير الحنين، كلما اتقد، رؤية للماضي تكون غالبًا غير موضوعية إلى حد كبير وتستند دائمًا إلى شعور يدّعي أن الماضي كان دائمًا أفضل أو أكثر رحمة، أو أهنأ عيشًا من الوضع الحالي ويتغاضى عن العناصر السلبية في الماضي.
ربما، من المفيد تفهم الظواهر التي تبدو على المجتمع السوري، والتي، في كثير منها يمكن تصنيفها على أنها مقلقة ولا تبشر بمستقبل حيوي أو قابل للحياة، خاصة من قبل النخب الثقافية، ودراستها من قبل المتخصصين، وإنصاف المجموعات البشرية التي تشكل هذا الشعب الذي عانى مجتمعًا من هذه الحرب الشرسة، والتي لم توفر جانبًا من جوانب الحياة إلا وتغولت فيه. علّ انفتاح الأفق المظلم في وجه الشعب يوفر فرصة لرؤية الماضي بطريقة أخرى، والتصالح معه، بعيدًا عن الحنين والذاكرة التي تعيق رسم مستقبل حيوي في كثير من الأحيان.