اغتالت #إسرائيل حسن #نصرالله وعدداً من قيادات “#حزب الله”. المشترك في ردود فعل اللبنانيين، أنصاراً وخصوماً، هو الوجوم.

فالرجل كاد يختصر بشخصه السياسة في لبنان: في كافة المراحل الأساسية، كان جميع اللبنانيين، رسميين ومواطنين عاديين، ينتظرون ما سيقرره ويقوله. فما سيقرره سيجري تنفيذه، ولو ترافق ذلك مع معارضات كلامية.

نصرالله كان الحاكم الفعلي للبنان، والبعض كان يفضّل تسميته بمرشد الجمهورية اللبنانية تيمناً بخامنئي، الذي هو مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية. والمرشد هو الذي يحدّد لك الوجهة التي عليك سلوكها.

عندما يغيب الحاكم شبه الأوحد للبلاد، لا بدّ من أن يسود الضياع والقلق. الضياع لأن المسؤولين لم يعتادوا على اتخاذ القرارات الأساسية، ومؤسّساتهم الدستورية شبه معطّلة. ومنذ انسحاب الجيش السوري من لبنان كان نصرالله مرجعيتهم كما أن الشعب بأحزابه وجمعياته فقد قدرته على التأثير.

أما القلق فهو قلق عام في البلاد على مسار الأمور وعلى المصير، في غياب القائد، الذي كان يحدّد بنفسه المسار والمصير، فضلاً عن أن الاغتيال جاء في عزّ حرب إسرائيل على لبنان، وفي ظلّ تشنجات بين الطوائف والمذاهب، لن تلغيها بالطبع موجة تعاطف معظم اللبنانيين مع النازحين من أهالي الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية.

وما كان يقال عن تبعية “حزب الله” لإيران، سيُصبح أكثر تأكيداً اليوم، بعد أن فَقَد الحزب قياداته الرئيسية، وبات بحكم الواقع يعوّل على إيران للملمة بنيانه المتصدّع. وللمفارقة المؤلمة، تأتي هذه الحاجة الملحة لإيران، في جوّ من عدم الثقة بالقيادة الإيرانية التي يردد اللبنانيون وبعض أنصار نصرالله بأنها “باعت” “حزب الله” لإسرائيل والغرب تأميناً لمصالحها. وربما كان اختيار هاشم صفي الدين كخليفة لنصرالله ـ إذا حصل ـ وهو ابن خالته وصهر قاسم سليماني، نوعاً من التسوية الرمزية في هذا الجو من تراجع الثقة بين إيران والحزب.

مثلي مثل بقية اللبنانيين تلقيت بحالة من الوجوم خبر اغتيال نصرالله؛ وجومٌ مشوب بالضياع والقلق.

لم تحل مواقفي السياسية المناقضة كلياً لمواقف نصرالله دون الشعور بالحزن أيضاً. الحزن على مقتل إنسان، لبناني، على يد عدو متوحّش، يمتلك أكثر أسلحة الدمار تطوراً. وهذا يتلاقى مع رفضي القاطع للاغتيال السياسي وللحرب بشكل عام، حتى ولو كان الشخص الذي تم اغتياله رجل حرب، يتهمه البعض باغتيالات سياسية. فلا يمكن لجريمة القتل أن تكون مقبولة هنا ومرفوضة هناك!

لطالما اعتبرت نصرالله خصماً على المستوى السياسي، لا بل الخصم الأكثر خطراً على قناعاتي السياسية، كعلماني، كلاعنفي، كديمقراطي متمسّك بالحريات العامة والشخصية، وكلبناني يحكمه دستور، في دولة من المفترض أن تكون مستقلّة في قراراتها عن البلدان الأخرى.

لطالما حاججت نصرالله، وتواصلت معه عبر الصحف، في مقالات توجّهت من خلالها إليه مباشرة، وبالاسم. وهذا ما لم أفعله مع أيّ شخصية سياسية أخرى، لأنني كنت اعتبره هو وحزبه المسؤول الأول عن الأوضاع التي نحن فيها وعن ضرورة تحسينها.

ربما لم يقرأ أياً من تلك المقالات، وربما لم أكن أتوقع أن يقرأها، إلا أنني كنت أشعر دائماً بضرورة إيصال صوتي ورأيي إلى الشخص الذي يتحكّم بمصيري من دون مشورتي، وهي طريقتي للتأكيد على حريتي وعلى رفضي السير بحسب مشيئة غيري، إلا بالطرق الديمقراطية.

كثّفت من هذه المقالات بعد قرار “حزب الله” المباشرة بـ”حرب الإسناد”، من دون الرجوع إلى المؤسسات الدستورية. ومسألة الحرب فيها حياة أو موت لشعب ولوطن، وبالتالي ليس مسموحاً التسليم بها.

عارضت قرار “حزب الله” في مقالات عديدة، ومنذ اليوم الأول من انخراطه في “حرب الإسناد”، وقدّمت حججي الدستورية والوطنية والإنسانية والاستراتيجية. وكنت في جميع هذه المقالات أحاول أن أقنع فئة من شعبي بمخاطر هذه الحرب على الشعب والوطن، كمن كان يحاول يائساً تفادي ما وصلنا إليه.

بعد اغتيال نصرالله راجعت مقالاتي الأخيرة، ولفتني أربعة منها.

الأول، فيه خوف شديد على مصير نصرالله وحزبه، فسألت: هل انتقل نصرالله من شعار “لبيك يا حسين” إلى التماهي مع فجيعة الإمام الحسين؟ ألا يشبه ما يحصل اليوم فجيعة الإمام الحسين، خاصة إذا صحّت الاتهامات لإيران بأنها خانت “حزب الله” وتركته يحارب وحيداً، تماماً كما فعل أنصار الحسين؟

الثاني، فيه محاولة لمساعدة “حزب الله” على الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه؛ فسألت: هل يستعين “حزب الله” بثلاثية “الشعب، الجيش، المقاومة” لتفادي تدمير لبنان؟ مطالباً “حزب الله” بالاستناد إلى رفض معظم الشعب للحرب، وإلى جهوزية الجيش للانتشار على الحدود، لإيجاد مخرج من ورطة الحرب.

الثالث، الذي كتبته بعد تفجير هواتف “بيجر” بأفراد “حزب الله”، فتوجّهت إلى نصرالله مباشرة ناصحاً بأن “تفجير التواصل بين أفراد حزبك لا يعوّضه إلا استعادة التواصل مع باقي اللبنانيين يا سيد نصرالله”، ناصحاً إيّاه بالعودة إلى المؤسسات الدستورية والالتزام بإرادة الشعب في موضوع رفض الحرب.

أما الرابع والأخير، فجاء نتيجة النزوح الكثيف من الضاحية والجنوب والبقاع، جراء القصف الإسرائيلي، وكان بعنوان: “هل يمكنك أن تتعاطف مع المظلوم ولا تغضب على الظالم؟”. وما فاجأني، أنني أنهيت مقالي الذي كتبته قبل يومين من اغتيال نصرالله، بهذه الجملة القاسية: “ولا شكّ أن قيادة “حزب الله” أخطأت اليوم خطأ استراتيجياً مميتاً، من خلال مباشرتها الحرب مع إسرائيل وربطها بحرب غزة أي بإرادة نتنياهو. وهذا الخطأ المميت ارتكبته بحقها وحق شعبها وبلادها”. وكأنني كنت أتوجّس من نهاية غير سعيدة لنصرالله، من دون أن أدري أن هذا الخطأ المميت بحق القيادة سيكون اغتيالاً له.

في المقالات الأربعة خصومة سياسية لكن في الوقت نفسه حرص واضح على الحزب، بموازاة حرصي على شعبي وبلادي. فالحزب كان وسيبقى جزءاً من شعبي، وإن كنت اختلف معه في الثقافة والعقيدة والسياستين الداخلية والخارجية.

بعد اغتيال نصرالله والمترافق مع اغتيال القيادات الأساسية في الحزب وتدمير قدراته العسكرية، والعجز المتفاقم الذي يظهره في مجال ردع الاعتداءات الاسرائيلية، أجدني في حالة تطوير لرؤيتي السياسية بعد توقّع تراجع تأثير خصمي السياسي الأول، ولكون هذا التراجع سببه اعتداءات العدو الإسرائيلي، وليس تراجع التمثيل الشعبي.

سؤالان متكاملان يلحان عليّ كأولويتين وطنيتين: الأول كيفية عودة الضاحية إلى بيروت، و”حزب الله” إلى لبنان ومؤسساته الدستورية؟ والثاني كيفية حماية لبنان من العدو الإسرائيلي في ظل التراجع الدراماتيكي للتعويل على المقاومة العسكرية بوجه التفوق العسكري والتكنولوجي الفاضح للعدو؟