ما جرى في بيروت من أحداث دراماتيكية في الأيام الماضية، على رأسها اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله والضربات القاسية التي تلقاها الحزب، ليس من شأنه أن يحقق انتصاراً ناجزاً لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو طالما بقي مقاتلٌ واحدٌ قادرٌ على إطلاق صاروخ كل يوم، وفق الكاتب والصحافي توماس فريدمان الذي قدم في حوار مع “النهار” و”النهار العربي” قراءة شاملة عن تأثير هذه الأحداث على مشهد الشرق الأوسط.

الكاتب في “نيويورك تايمز” الحائز على 3 جوائز “بوليتزر” يبدي يقيناً بنظرية الاختراق البشري للنظام الايراني ولـ”حزب الله”، الأمر الذي سهّل عملية الانقضاض التي حصلت. ويرى أن طهران مرتبكة وتشهد انقساماً بشأن سيناريو الرد المحتمل.

*كيف ترى تأثير اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” على منطقة الشرق الأوسط من منظور جيوبوليتيكي؟
النظرة إلى مجرى الأمور تحكمها رؤيتان للمنطقة، الأولى التحالف الذي أسميه Coalition of inclusion، وهو بقيادة الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الناتو، وفي الشرق الأوسط، بقيادة دول اتفاقات إبراهام والسعودية. وهذا التحالف يرى أن مستقبل العالم سيكون أفضل مع المزيد من الانفتاح والتكامل.

ويمتد هذا التحالف من اليابان وكوريا، عبر الهند، مروراً بالشرق الأوسط، على أمل الوصول حتى أوروبا. هذا كان التحالف الأول. في السادس من تشرين الأول (أكتوبر)، كانت أوكرانيا تحاول الانضمام إلى هذا التحالف من جهتها.

وفي الشرق الأوسط، كانت إسرائيل والسعودية تحاولان الانضمام إلى التحالف في المنطقة. إذاً، كانت أوكرانيا تحاول الانضمام إلى الغرب، وإسرائيل كانت تحاول الانضمام إلى الشرق من خلال صفقة مع السلطة الفلسطينية، السعودية، والولايات المتحدة. في الأساس، ما حدث في السابع من أكتوبر هو أن روسيا، بالعودة إلى غزوها لأوكرانيا، حاولت منع أوكرانيا من الانضمام إلى الغرب، بينما حاولت “حماس” وإيران و”حزب الله” منع إسرائيل من الانضمام إلى الشرق. بذلك، شكلت روسيا، إيران، حزب الله، كوريا الشمالية، وأحياناً الصين تحالفاً كبيراً يُسمى “تحالف المقاومة”، كما سمّاه حسن نصرالله، في مقابل هذا التحالف العالمي الكبير. هذا هو الصراع القائم الآن. عليك أن ترى هذه الحرب على أنها صراع بين تلك القوى وقوى المقاومة في الشرق الأوسط، تمامًا كما هو الحال في أوكرانيا. إذا نجحت أوكرانيا في أوروبا، ستصبح أوروبا موحدة وحرة، وستكون روسيا معزولة تماماً. وإذا نجحت قوى “تحالف الشمولية” في الشرق الأوسط في التوحد، سنشهد أكبر توسع للشرق الأوسط الشمولي منذ كامب ديفيد، وستصبح إيران و”حزب الله” والحوثيون وتحالف المقاومة معزولين تماماً. هذا هو الصراع القائم حالياً. الآن، مع اغتيال إسرائيل لحسن نصر الله وإضعافها الكبير لـ”حزب الله” في لبنان، ضعُف تحالف المقاومة بأكمله. ولكنها لن تتمكن من هزيمته بالكامل إلا إذا استطاع نتنياهو هزيمة “حزب الله” بالفعل. الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تحويل هزيمة “حزب الله” العسكرية في لبنان إلى هزيمة سياسية هي إذا استطاع نتنياهو الآن مواجهة “حزب الله” في إسرائيل (حركات المستوطنين اليهود اليمينية المتطرفة) وتكوين هذا التحالف بين الفلسطينيين والسعودية والولايات المتحدة. حينها سنشهد عالماً مختلفاً تماماً. هذا هو تقييمي للوضع.

*كيف تقيّم قدرة اسرائيل على استهداف قادة “حزب الله” بهذه السهولة على الصعيد الاستخباري؟
هل شاهدتم من قبل سلسلة آبل المسماة “طهران”؟ إنها سلسلة خيالية على منصات البث تتحدث عن عملاء إسرائيليين في طهران. ما تراه في تلك السلسلة هو أن الاستخبارات الإسرائيلية جيدة جداً. نعلم أنهم حققوا نجاحات في الماضي، لكنهم ليسوا بذلك القدر من الكفاءة. هل تعرفون كيف اخترقوا “حزب الله”؟ لأن العديد من الأشخاص داخل “حزب الله” بدأوا ينقلبون على القيادة. هكذا اخترقوا إيران، وهكذا يخترقون “حزب الله”. لأن هناك الكثير من الأشخاص في المجتمع الشيعي، سواء داخل إيران أو داخل لبنان، غير راضين على الإطلاق عن الاتجاه الذي أخذ الحزب لبنان إليه، أو ما تحاول إيران فعله في الشرق الأوسط. إسرائيل جيدة (استخبارياً)، لكن لولا أن هناك أشخاصاً من الداخل مستعدون بالفعل للانقلاب على هذه التنظيمات، لما كانت قادرة على اختراقهم بعمق وسرعة ودقة بهذا الشكل.

*وهنا دعنا نتذكر الفشل الاستخباراتي لإسرائيل في 7 أكتوبر. لذلك، عندما نقارن بين الوضعين اليوم، تبدو الأمور مختلفة تماماً.

كان ذلك فشلاً استخباراتياً كبيراً، وكانت اسرائيل تعتقد أن “حماس” قد تم ردعها. لقد غفلوا عن مراقبتها فعلياً. كانوا يعتقدون أن “حماس” تم شراؤها بالأموال القطرية وأنها قد تم ردعها. لذلك لم يخصصوا الكثير من الأصول والموارد الاستخباراتية لاختراقها. بدلاً من ذلك، اعتقدوا أن العدو الحقيقي هو “حزب الله”. وهكذا ركزوا جميع مواردهم الاستخباراتية عليه. ترى النتيجة الآن، وكان ذلك لأنهم، من وجهة نظرهم، كانوا مخطئين، بل يمكن القول إن إسرائيل بسذاجة صدقت دعايتها الخاصة بأنهم قد ردعوا “حماس”. لذا ركزوا على “حزب الله”.

* حين تقتل شخصاً، فإنك لا تقتل الفكرة. هذا ما يعتقده أنصار “حزب الله”، فكيف ترى انعكاس الاغتيال على وضعه الداخلي؟
أعتقد أن هذه نقطة جيدة جداً. لا يمكنك قتل فكرة. فكرة “حزب الله” يغذيها مصدران من الطاقة. الأول داخلي في لبنان، حيث بدأ التنظيم كوسيلة لمنح الشيعة في لبنان تمثيلاً أقوى، أقوى مما تمكنت حركة “أمل” من تقديمه. لذلك، هناك ديناميكية داخلية تدفع “حزب الله” وتمنح الشيعة في لبنان قوة أكبر في المعادلة اللبنانية. ثم هناك عامل خارجي، والعامل الخارجي كان يتغذى من الصراع الفلسطيني. فقد برر الحزب استيراد كل هذه الأسلحة وإنشاء جيش خارج الجيش اللبناني بالقول: نحن ندافع عن لبنان من إسرائيل. تعلمون مقولة “ثورة حتى النصر”. ولكن عندما انسحبت إسرائيل في عام 2000، أصبحت تلك الحجة ضعيفة. “حزب الله” الداخلي، “حزب الله” الخارجي، لا يمكن هزيمته إلا إذا واجه الإسرائيليون “حزب الله” الخاص بهم، أي حركات المستوطنين اليهود اليمينية المتطرفة، وشكلوا شراكة مع الفلسطينيين وعملوا على حل الدولتين. هذه هي الطريقة الوحيدة لهزيمة “حزب الله”.

*لنَتَذَكَّر أنه بعد اغتيال اسماعيل هنية، تم تعيين يحيى السنوار. من وجهة نظرك، أي دلالات لهوية الأمين العام المقبل لـ”حزب الله”؟
من هو القائد الآن؟ هذا هو السؤال الأول. السؤال الثاني هو أن هذا القائد سيتعين عليه أن يذهب إلى النوم كل يوم ويضع رأسه على الوسادة دون أن يعرف من يستطيع أن يثق به. الشخص الذي بجانبه، أو الشخص الذي يعمل تحته، لأن إسرائيل اخترقت صفوفه بشكل كبير. لذا، سيتعين على هذا القائد أن يقضي الكثير من الوقت فقط لحماية نفسه قبل أن يفكر في الخطوة التالية، حسب رأيي.
الأمر الآخر الذي سيلاحظه هذا القائد هو أن راعيه الإقليمي، إيران، كانت هادئة جداً، هادئة للغاية. كما تعلم، إيران سعيدة بالقتال حتى آخر لبناني، حتى آخر يمني، وحتى آخر فلسطيني.

وأعتقد أن ما فعلته إسرائيل قد أخاف المرشد الأعلى في إيران. فقد هرب إلى مكان سري فوراً، وإذا استمعت إلى ما قاله بعد ذلك، ليس في اليوم التالي مباشرة، بل بعده، بخصوص مقتل نصر الله، قال إن هذا شأن يجب على “حزب الله” التعامل معه، وليس نحن. لذا، أعتقد أن الإيرانيين الآن هم أنفسهم في حالة ردع أكبر، وهم خائفون من تدمير “حزب الله” تماماً، لأن “حزب الله” كان سلاح الردع الخاص بهم ضد إسرائيل، وإذا تم تدميره، فسيتم تدمير قوة الردع الخاصة بإيران كذلك. حينها، ستواجه إيران مشكلة حقيقية.

أعتقد أن إيران تواجه مشكلة حقيقية هذا الصباح. وهناك صراع داخل طهران بشأن ما يجب فعله بعد ذلك.

*ماذا خسرت طهران؟ ولماذا لم تتمكن من توفير حتى الحماية الأساسية لقادة “حزب الله”؟
نعم، لقد فقدوا الكثير من المصداقية. ومرة أخرى، إذا توقفت وفكرت في الأمر، وإذا توقفوا هم وفكروا في الأمر، فهذا يعني أنهم مخترقون بشكل كبير. هناك العديد من الأشخاص داخل النظام الإيراني الذين يريدون العمل ضد النظام لدرجة أنهم لا يستطيعون الوثوق بأي شخص. هذا يُظهر لك أن هذا النظام في إيران، من وجهة نظري، هو نظام فظيع، أولاً وقبل كل شيء، للشعب الإيراني. وثانياً وقبل كل شيء، للمنطقة.

ما هي السياسة الخارجية لإيران؟ استئجار الشيعة العرب لقتل السنة العرب في العراق واليمن وسوريا ولبنان، والقتال حتى آخر لبناني، وآخر فلسطيني، وآخر عراقي، وآخر يمني. بينما يجلسون هم في طهران وهم بأمان. ليس بعد الآن. ليس بعد الآن. لديهم مشكلة استراتيجية حقيقية اليوم.

* كيف يمكن أن ترد طهران على اغتيال نصر الله؟ ما هي السيناريوهات المحتملة؟
لا أعلم ما الذي سيحدث غداً أو بعد غد. لكن إذا استمعت اليوم، أعتقد أنهم مرتبكون حقاً وخائفون بعض الشيء بشأن ما يجب فعله بعد ذلك.

*كيف سيحقق نتنياهو أهدافه في إعادة السكان إلى الشمال وأيضاً كيف سيقضي على تهديد صواريخ “حزب الله”؟ ألا تعتقد أنه يسرع في إعلان الانتصارات؟
أنا أتفق تماماً. أعتقد أن الأمر لا يزال مبكراً جداً. لدى إسرائيل مشكلة استراتيجية مختلفة في غزة. لا يوجد شريك فلسطيني يمكنه حكم غزة بدلاً من “حماس”. لكن هناك شريك محتمل، وهو (رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس) أبو مازن، أو سلطة فلسطينية مُصلحة، يمكن أن تقوم بهذا الدور بشكل معقول. نتنياهو ببساطة لا يريد تفعيلهم. في لبنان، لديه مشكلة أكبر بكثير. يمكنك تدمير “حزب الله” بقدر ما تشاء، لكن يمكن لمقاتل واحد فقط من الحزب أن يطلق صاروخاً واحداً يومياً على المطلة أو مزارع شبعا. صاروخ واحد يومياً، ولن يتمكن أي إسرائيلي من العودة إلى الشمال. بعبارة أخرى، نتنياهو يحتاج إلى حكومة لبنانية، أو قوة دولية مدعومة يمكن أن تحل محل “حزب الله”، ونحن بعيدون جداً عن تحقيق ذلك. نحن بعيدون جداً عن هزيمة إسرائيل الكاملة لـ”حزب الله” في لبنان، وبعيدون جداً عن وضع يمكن فيه للحكومة اللبنانية، وأتمنى ذلك، أن تأخذ الجيش اللبناني وتدفعه جنوب الليطاني إلى الحدود الإسرائيلية، وتسيطر على تلك المنطقة، وتمكن جميع اللبنانيين الذين اضطروا إلى الفرار من العودة إلى منازلهم وخلق حدود هادئة مجدداً.

*كيف ترى توقيت اغتيال نصرالله في زمن الانتخابات الأميركية، لاسيما لجهة تنافس الديموقراطيين والجمهوريين على دعم إسرائيل؟
لا أرى رد فعل فورياً بالضرورة يفيد (الرئيس جو) بايدن و(نائبة الرئيس المرشحة الديموقراطية كامالا) هاريس أو يضر هاريس أكثر من (المرشح الجمهوري دونالد) ترامب. لكن هذا قد يتغير في غضون 24 ساعة. تخميني هو أن ترامب سيخرج ويقول، نعم، اذهبوا يا إسرائيل، اذهبوا إلى بيروت، كما تعلمون، وسيكون على بايدن أن يكون أكثر تقييداً، وقد ترون هناك بعض الاختلافات السياسية، لكن من المبكر جداً أن نقول كيف ستسير الأمور.