رأيتُ غزة فيما يرى النائم: لن تقول للغزاة نعم

فجأة لم يعد في الشاشة التي تضاعف طولها وعرضها طائرة ولا دبابة، ولا جثمان تفحّم، ولا برج يتهاوى، ولا مذيعة فرحانة بالحوار مع شلومو – أيّ شلومو: لا فرق، ولا خبر عاجل، ولا حسن نصر الله يرغي ويزبد، ولا…

ما عاد في الشاشة إلا طفلة تنشج: “يابا والحزن بقلبي والدرب طويلْ/ لا بد النصر يهلهل في يا رجالنا/ ترجعْ غزة مع يافا وأرض الخليل/ نرفع الراية الحرة ع جبالنا”.

تغبّشت الشاشة، ربما لأن عينيّ ضاقتا بالدمع، وأخذت الشاشة تبدل طولها وعرضها بينما تخلل نشيج الطفلة صوتٌ يترجّع في أعماق الشاشة: “للجريح والشهيد غزة رنتْ زغاريد”.

فركتُ عينيّ وبدلتُ المحطة، وإذا بفرقة (صول) الغزاوية تملأ الشاشة. تذكرت الصديقة المغربية الفرنسية عواصف التي حدثتني في حمأة صيف باريسيّ عن فرقة (صول)، وكانت شاهدتها في مهرجان أرابيسك الدولي في مونبلييه في مشرق الصيف نفسه. وأخذت عواصف تدندن: “أناديكم/ أشد على أياديكم/ وأبوس الأرض تحت نعالكم/ وأقول أفديكم”. امتلأت الشاشة بالصور الغزاوية الفادحة منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر، فأخذت ألهج لكل وجه ويد وشعر ولثام وإيشارب وقدم، لكأنني صغرت خمسيْن سنة عندما كتب توفيق زياد وغنى أحمد قعبور، لهذا الفدائي الذي يملأ الآن الشاشة. وهذ الشيخ إمام ومارسيل خليفة فعابد عزارية كلٌّ يردد خلف الآخر: أناديكم أناديكم…

فجأة أخذت الشاشة تتخطف في أرجاء غزّة، بينما الشمس تغطس في البحر: هنا مدرسة غزة للموسيقى قد هدمها القصف، وغزة إذًا في حرب 2008. هناك أوركسترا غزة. هنالك معهد إدوارد سعيد للموسيقى – فرع غزة. والآن أراني على واحدة من كراسٍ خالية كُتب عليها: (جمهور القدس)، وأنا إذًا لست في بيتي في اللاذقية، بل أمام معبر إيريز، بانتظار أن تبدأ فرقة دواوين الغزاوية حفلها، لكن عزرا ياخين قاد شخصيًا عساكر منعوا الناس من حضور الحفل، فظلت هذه الكراسي خالية. ولست أدري كيف تخلّق عزرا ياخين أمامي في بذلة عسكرية. ولا بد أنه سألني عمّن أكون، ولا بد أن لساني لغا: أنا كاتب، فصرخ: وأنا كاتب، فتمرد لساني وصوتي على خوفي: أعرف، وأعرف أنك في الخامسة والتسعين، ومن جنود الاحتياط، فانقلب شابًا في العشرين يسابق شبابًا مثله إلى مذبحة دير ياسين وهم يهتفون لمنظمتهم (ليحي) ولإسرائيل التي ستولد بعد ستة وثلاثين يومًا. ولما نهضت عن الكرسي عاد الكاتب العسكري إلى الخامسة والتسعين، أي إلى هذه الشاشة، وأخذ يهدر بدعوة الطائرات والمدافع والبوارج والدبابات: “هؤلاء الحيوانات، لا ينبغي أن يعيشوا”. وما كادت شفتاه تنطبقان حتى اختفى وحلّ محله يوآف غالانت وهو يهدر: “نحن نحارب حيوانات على هيئة بشر”. وما كادت شفتاه تنطبقان حتى اختفى وحل محلّه عميحاي إلياهو وهو يهدر بما لم أفهم منه إلا عبارة إبادة غزة بالقنبلة النووية.

صعقت الشاشةُ وزير التراث (النووي)، ثم صعقت وزير الدفاع، ثم صعقت الكاتب العسكري، وأخذت تنبض بصوت طفلة تنشج: “اسمعْ اسمعْ، لا، لا/ شعب الشهدا لا ما بيركعْ/ دمّرْ علينا الحارات/ فجّرْ بالطيارات/ من وسط الركام بنطلع/ أبطال بنواجه مدفعْ”.

هنا مدرسة غزة للموسيقى قد هدمها القصف  (Getty)

فكرت أنني إذًا في حرب 2014 التي سماها الوحش المسمّى إسرائيل: عملية الجرف الصامد، وسمتها حماس: عملية العصف المأكول، وسمّتها الجهاد: عملية البنيان المرصوص. ولما رأيت الكتب تحترق في مكتبة اليازجي وفي مكتبة النهضة وفي مكتبة اقرأ الجديدة وفي مكتبة ديانا تماري صباغ ما عدت أعرف في أي مكان غزاوي أنا، ولا في أي زمان غزاوي: إنه شارع الثلاثين، وهذا دمار مكتبة سمير منصور، واليوم إذًا هو 19/5/2021، بل اليوم هو بعد ذلك اليوم بتسعة أشهر، ونحن نحتفل بإعادة تشييد وافتتاح مكتبة سمير منصور، بل اليوم هو واحد من الدهور التي تتلاطم منذ فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لذلك علينا جميعًا أن نبكر إلى المسجد العمري الكبير، وإلى كنيسة القديس بريفيروس، كي نصلي معًا، مسلمين ومسيحيين، ثم نشيّع الشهيدة الشاعرة هبة أبو الندى، والشاعر عمر أبو شاويش، والشاعر شحادة البهبهاني، وأهل الفنون محمد سامي قريقع وهبة زقوت وحليمة الكحلوت ونسمة أبو شعير وإيناس السقا ويوسف دوالي وعلي عبد الله حسن النسمان، وطفلتيّ الدبكة: شام أبو عيدو وليلى عبد الفتاح الأطرش.

وما إن انتهى التشييع حتى أخذت ألواح رخامية كبيرة تفترش الفسحة أمام دار البلدية المشرف على ميدان فلسطين، وأمام كل لوح انحنى طفل يكتب ووقف طفل يُملي كأنه يقرأ من كتابٍ أسماءَ الشهداء الذين نيّفوا هذا المساء على أحد عشر ألفًا. تذكرت الجدارية المترامية التي رأيتها منذ ثلاثين سنة في واشنطن – أين بالضبط؟ – والمحتشدة بأسماء قتلى حرب فيتنام. والشيء بشيء يذكر، هكذا نبق في الشاشة جون فوستر دالاس وقد تكوم أمام قدميه وزير الخارجية الفرنسي جورج بيدو، وزأر دالاس: بصفتي وزير الخارجية الأميركي أعرض عليك قنبلتين نوويتين، بل ثلاثًا، المهم ألاّ تخسروا معركة ديان بيان فو، ولا أي معركة في فيتنام. ومن هنا إذًا استلهم وزير التراث الإسرائيلي قنبلته النووية.

لكن غزة تستلهم أيضًا وأيضًا معركة ديان بيان فو: نادى المنادي ملء غزة، وكانت الشاشة تقرّب رويدًا صورًا بالأبيض والأسود للطبيبين النرويجيين مادس جيلبرت وإريك فوسه، أمام البوابة الرئيسية لمشفى دار الشفاء. وعندما أخذت الصور تتلوّن ظهر بين الطبيبين كتاب يحمل اسميهما، وعنوانه يتلألأ: عيون في غزة، وقالت الشاشة: عاش الطبيبان ستة عشر يومًا بين نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009 يعالجان ضحايا الوحش المسمّى إسرائيل. وأخذت تتوالى صور لغلاف الكتاب بالإنكليزية والسويدية والتركية والفنلندية والعربية و…

بلغ بي الرهق مبلغًا، فناشدت الشاشة أن ترأف بي، فدعتني إلى فنجان قهوة في مقهى صغير – بالأحرى كشك – أمام البحر. وفوجئت بحشد الكتب على الجدران، وبشابتين حول طاولة، وشاب حول أخرى، وواحدة حول ثالثة، تحت مظلة المقهى القصبية، وبين يدي كل شاب وشابة كتاب. وهامستني الشاشة وهي تشير إلى رجل أربعيني ظهر في باب المقهى: هذا الرجل يراهن على الانتصار للكتاب على الإنترنت في مقهاه. وأشارت إلى الشابتين هامسة: السمراء تحمل كل يوم عودها بعد عودتها من المدرسة، وتجري إلى مركز سيد درويش لتتدرب. ومثلها تفعل الشقراء، لكنها تحمل الغيتار. وضاعفت الشاشة همسها: على الرغم من أن كلًا منهما تصادف كل يوم من يشتمها ويشتم أهلهما لأن الموسيقى فسوق. وما إن تركتني الشاشة وحدي حتى رأيتني في صدر حشدٍ في حديقة المركز الثقافي الأرثوذكسي وأمامنا حشد من الشباب والأعواد. ويبدو أن جاري قرأ في نظراتي سؤالًا فوشوشني معجبًا: هذه فرقة أعواد، ومن غيرها للاحتفال بعيد الموسيقى العالمي!

تذكرت أنني في الحادية والعشرين من حزيران/ يونيو، ولكن نسيت في أي سنة. ولما أعتمت، وراح ينطوي يوم أو شهر أو سنة بعد سنة أو شهر أو يوم، أسرعت إلى سطح بيت في عيسان، شرقي خان يونس – أين كنت إذًا؟ – وكانت الحدود الصلدة الجهماء على مسافة ثمانية وتسعين مترًا. وهذا حشد من الشباب والصبايا من جمعية الرواد يحيي الليل الحدودي. وفجأة دقت الساعة وانشق القمر، وكان ياما كان، كان فيه شيء يقال له غلاف غزة الذي لا طاقة لأحد به، لكن جاء من حطّم الغلاف فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فكان أن حاصر الوحشُ المسمى إسرائيل غزة. وروى الراوي على طريقة غازي القصيبي: غزة باتت بلا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا كهرباء ولا وقوداء ولا أونرواء ولا كنيستاء ولا مسجداء و… وأخذ لحم غزة يتطاير شظايا وقذائف، لكن لحم غزة مرّ. وأردف الراوي على طريقة محمود درويش: صمود غزة لا هو موت ولا هو انتحار، لا هو سحرٌ ولا هو أعجوبة، وقد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها قد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم، لكنها لن تقول للغزاة نعم. وصحوت وأنا أرتّل: لن تقول غزة للغزاة نعم، لن تقول فلسطين للغزاة نعم.