فيلم "حتى إشعار آخر":  عن محرقة غزة المستمرة

“أيام فلسطين السينمائية التي لن تعرض ولن تزين فلسطين في هذه الدورة ستذهب لتضيء شاشات العالم كله مع أولئك الذين يقاتلون القمع والاستعمار. نقف لننشد اليوم أنهوا الاستعمار الآن. الحرية لفلسطين”- بهذه الكلمات التي أطلقتها مبادرة أيام فلسطين السينمائية حول العالم افتُتح عرض الفيلم السينمائي الفلسطيني “حتى إشعار آخر” بريف دمشق ضمن فعاليات “ملتقى نيسان الثقافي المدني” قبل أيام.

والمبادرة عبارة عن سلسلة عروض لأفلام روائية ووثائقية فلسطينية ستعرض في مختلف بلدان العالم وفي عشرات المواقع بعد أن تم إلغاء الدورة العاشرة لهذا المهرجان بسبب حرب الإبادة الجماعية الوحشية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وذلك في مسعى لنقل القصة الحقيقية والصوت الفلسطيني الحقيقي إلى ما وراء الحدود لمواجهة التشويه والسردية الإسرائيلية الرامية إلى شيطنة الشعب الفلسطيني وتدمير أرضه وإبادته أمام أعين العالم الغافية المتواطئة السوداء.

فيلم “حتى إشعار آخر” للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي هو ربما أول فيلم روائي فلسطيني طويل عن قطاع غزة عُرض لأول مرة عام 1994 وتدور أحداثه في أحد مخيمات غزة عام 1993 خلال الفصول الأخيرة من عمر الانتفاضة الكبرى التي انطلقت عام 1987.

ورغم أن أحداثه تعود إلى زمن بعيد إلا أن التاريخ يعيد نفسه الآن، فالمحتل هو المحتل الذي “يكره غزة وفلسطين حتى القتل ويخافها حتى الجريمة ويسعى إلى إغراقها في البحر والصحراء والدم”. والشعب الفلسطيني هو الشعب المكافح الصامد الذي يعيش أطفاله بلا طفولة وشيوخه بلا أمان ونساؤه بلا حياة.

يتركز الفيلم على أسرة أبو راجي الحلاق البسيط شبه المقعد والذي يعاني من المرض وآلام الظهر ومعه في منزله المتواضع زوجته وأولاده أبرزهم الفتى الصغير (رادار) الذي يراقب جنود الاحتلال وينقل الرسائل ويتسلق جدران المنازل بخفة وذكاء ولديه الخبرة في تنفيذ المهام السرية ومعرفة أنواع الأسلحة والطلقات.

ترصد أحداث الفيلم يومًا قاسيًا وصعبًا في حياة هذه العائلة بعد أن فرضت سلطات الاحتلال حظرًا للتجول على المخيم وتحولت بعده البيوت إلى معتقلات صغيرة مغلقة ولكنها دافئة حنونة بالعلاقات الإنسانية المتنوعة داخل الأسرة وبين الجيران وبعلاقات التعاون والتكافل الإجتماعي داخل الحي. وهذا ينقلنا مباشرة إلى جزء بسيط مما يعيشه ويعانيه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة هذه الأيام حيث يتعرض لأبشع جرائم الحرب ضد الإنسانية ووحشية لا حدود ولا خطوط حمراء  لها ولإبادة ممنهجة وواضحة وضوح الشمس، ومع ذلك يعيش كما أسرة الفيلم قيم البطولات الخارقة والصمود الأسطوري والإيمان الذي لا يتزعزع بعدالة القضية الفلسطينية. ويعيش رغم الألم والقهر وقلة الحيلة قيم الدفاع عن الجار والصديق والأخ والمحتاج ويقدم أقصى ما يستطيع لحماية هؤلاء الموجوعين الذين يبحثون في كل ساعة عن أبنائهم وأهلهم وأحبتهم بين الركام المخيف وتحت سماء تعج بالقنابل الفوسفورية والطائرات والصواريخ وأحدث الأسلحة وأشدها فتكًا وإجرامًا.

فيلم “حتى إشعار آخر” للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي هو ربما أول فيلم روائي فلسطيني طويل عن قطاع غزة

في الفيلم وداخل هذه الأسرة هناك أيضًا الشقيق الأكبر المتزوج المثقل بالهموم والكآبة لا يغادر غرفته الصغيرة إلا قليلًا وهو مثال لمئات الشباب والعمال الفلسطينيين العاطلين عن العمل بعد أن مارس العدو الصهيوني الحصار وأطبق الخناق على قطاع غزة منذ احتلاله لها بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967. وتسبب في أن يصل القطاع اليوم إلى وضع لا يحتمل بعد أن أعلنه كيانًا معاديًا وعزله وشن هجمات عسكرية مدمرة عليه أسفرت عن مقتل الآلاف وتدمير عشرات آلاف المنازل والمنشآت المدنية والبنى التحتية ومنع دخول المحروقات إليه وأغلق المعابر فتجاوزت معدلات الفقر 65 بالمئة؜ في القطاع وانعدم الأمن الغذائي فيه إلى 72 بالمئة؜ ووصل عدد السكان الفلسطينيين الذين يعيشون داخله على المساعدات إلى 80 بالمئة،؜ كما ذكر المركز الأورومتوسطي في تقرير شامل له سابقًا. في الوقت الذي تدهور فيه القطاع الاقتصادي برمته والقطاع الصحي والخدمي والإنساني عدا عن الاعتداءات الهمجية المباشرة وحرب التطهير العرقي كما جرى عام 2008 على سبيل المثال.

جرى تصوير الفيلم كاملًا في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين الذي  يقع في شمال قطاع غزة وعلى شاطئها الجميل وتأسس عام 1949. وهو ثالث أكبر المخيمات في القطاع ويكتظ بالسكان الذين يتقاسمون فيه البؤس والشقاء والفقر والانتهاكات المتواصلة.

وقد بدا واضحًا في الفيلم ملامح الفقر والبطالة وانقطاع الكهرباء التي تخيم على المخيم ببيوته الصغيرة البسيطة المتلاصقة والمغطاة بألواح من الصفيح وهي ما تزال شاهدة على النكبة الفلسطينية حين خرج الفلسطينيون من منازلهم يحملون مفاتيح أبوابها  وكأنهم سيعودون غدًا أو بعد غدٍ معززين مكرمين .

واليوم كما الأمس ما زال المخيم يتعرض للقصف الوحشي والغارات العنيفة التي طاولت البشر والشجر والحجر فيه منذ اليوم السادس من حرب الإبادة الجماعية على غزة وأدى ذلك إلى استشهاد أعداد كبيرة من سكان المخيم أغلبهم من الأطفال والنساء والمسنين انتشلهم أهلهم وجيرانهم من بين ركام المنازل مع الأشلاء المتناثرة هنا وهناك وما زالت الاشتباكات العنيفة تدور هذه الأيام على مشارف المخيم بين قوات الاحتلال والشبان المقاتلين المقاومين الذين يذكّر بهم ويجسدهم في الفيلم الشاب أكرم حاد الطباع الرافض لكل ما يحدث من ظلم ومنع للحريات والحياة والذي يشارك في أعمال المقاومة كما أشار الفيلم بطريقة غير مباشرة ويخوض دائما نقاشات متوترة مع أبيه وأفراد أسرته في محاولة للبحث عن حلول ومخارج لما هم فيه. يكشف الفيلم من خلال أحداثه أهمية المشاعر والعلاقات الإنسانية بين الجيران ودور المرأة الفلسطينية وقدرتها على حماية ورفع معنويات أسرتها ومساعدة الجيران بلهفة وحب والاستعداد للتضحية من أجلهم وهذا ما تجسده الأم الشخصية الرئيسية في الفيلم والتي تتدخل دائما لفض النقاشات والنزاعات بين أفراد الأسرة وبين رجال الحي وزوجاتهم من الجيران وتتقاسم الطعام معهم وتحاول أن تنجد كل من يتعرض لعارض صحي معلنة أنها مستعدة لخرق حظر التجوال ومساعدة جارتها على الوصول إلى المشفى دون خوف من النتائج. يقدم الفيلم بلا صخب وبلا شعارات رنانة صورة عن صمود الشعب الفلسطيني وبساطته وطيبته ومتانة العلاقات الإجتماعية بين أفراده وانتقال لقمة الطعام من الجار إلى الجار والقدرة على تجاوز المحن والتحايل على إجراءات منع التجول وقمع الاحتلال وإجرامه وهذا ما يبدو واضحًا الآن في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب بربرية لا يمكن أن تقارن بحظر التجول ولكنها تصب في جوهر الاحتلال وممارساته اللإنسانية واللاقانونية والتي يقف الشعب الفلسطيني بوجهها بمقاتليه وأطفاله وشبابه وشيوخه ونسائه وإصراره على التشبث بالأرض وشجر الزيتون ومياه البحر وعلى المساعدة اللامحدودة لمن يحتاج إليه وتقاسم الرغيف وحبة الدواء وانتشال الجرحى والشهداء بالأيدي القوية الحنونة ورموش العين التي تقاوم المخرز وهذا يشكل ردًا مدويًا على الاحتلال وداعميه والمصفقين له سرًا وعلانية من ذوي القربى والأنظمة والدول والحكام.

“حتى إشعار آخر” فيلم يحمل من بدايته لنهايته رمز التواصل مع الغائب عبر الرسالة التي تصل لأسرة أبو راجي من ابنها المتواجد في ألمانيا ويحاول “رادار” قراءتها عدة مرات أمام أهله وأخوته ولا تكتمل قراءة الرسالة إلا مع نهاية الفيلم وكأنها نافذة للخلاص الذي سيأتي وللعالم المزدهر العادل الذي سيكبر يومًا بعد يوم وتأكيدًا بأن الأرض ستعود يومًا لأصحابها الحقيقيين مهما غلت التضحيات.

شارك في الفيلم: عرين عمري – سليم ضو – نائلة زياد – سلوى حداد – يونس يونس – محمود قدح – عاصم زعبي وآخرون، وكأنهم جميعًا يقولون: إن المعركة طويلة وموجعة وغزة كما فلسطين لم تقبل وصاية أحد ولن ترهن مصيرها بتوقيع أحد، وبرغم كل ما يحدث من إبادة وتواطؤ وإجرام وتجويع وتعرية للجميع، ستبقى فلسطين ومعها غزة على موعد مع الحلم النبيل الكبير حتى إشعار آخر.