عرف الروائي والسيناريست وكاتب الأطفال والمفكر الأوكراني أندره كوركوف بمزجه المميز بين الكوميديا السوداء والسياسة والسوريالية. ولد في 23 أبريل/ نيسان 1961 في روسيا بمدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ حاليا) وانتقل لاحقا إلى العاصمة الأوركرانية كييف.

صدر له العديد من الأعمال من بينها رواية “الموت والبطريق” عام 1996، التي لا تزال من أكثر أعماله شهرة. ومن بين الأعمال الفارقة في تاريخه الأدبي رواية “النحل الرمادي” عام 2018 التي حصلت على جائزة “ميديسيس” الفرنسية لأفضل رواية أجنبية.كما حصل على العديد من الجوائز المرموقة مثل “ميديشي” لأفضل رواية أجنبية، وجائزة هانز وصوفي شول عن كتابه “مذكرات غزو”.

تُرجمت أعمال كوركوف إلى 37 لغة مثل الإنكليزية والسويدية والعربية والفارسية، مما يجعله أحد أنجح المؤلفين الأوكرانيين في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. هنا حوار “المجلة” معه.

تتناول بعض رواياتك قضايا سياسية بشكل مباشر. على سبيل المثل، تتنبأ رواية “آخر حب للرئيس” بشكل دقيق بمحاولة تسميم رئيس أوكرانيا وعودة بوتين إلى الرئاسة الروسية. وفي رواية “النحل الرمادي”، ترسم صورة مؤثرة لشخص نازح داخليا. حدثنا أكثر عن قدرتك في توقع الأحداث السياسية المستقبلية.
لا أشعر بالسعادة حقا لأنني أستطيع التنبؤ بالمستقبل السياسي لوطني. ربما يحدث هذا لأنني أحببت لعب الشطرنج عندما كنت طفلا وتعلمت التنبؤ بالخطوات التالية. وفي وقت لاحق، كنت أشاهد لسنوات عديدة الأخبار التلفزيونية التي تتناول التطورات السياسية، وكنت أعتبرها مجرد لعبة شطرنج أخرى. كنت أحاول تتبع المنطق الذاتي لكل قصة. ومن الغريب أن التنبؤ بالتطورات الإيجابية أمر صعب. أعتقد أنه من الأسهل دائما التنبؤ بشيء سلبي، أو بمأساة. ولهذا السبب لا أحاول التنبؤ بأي شيء في الوقت الحالي.

حارس السجن
عملت حارس سجن أثناء خدمتك في الجيش وبدأت في كتابة كتب الأطفال خلال تلك الفترة. كيف حدث التوفق بين الكتابة للأطفال ومسؤوليتك عن حراسة الآخرين؟
أمضيت 18 شهرا في الجيش أثناء عملي حارس سجن، وكانت فترة مثيرة للاهتمام. كنت أكبر سنا من أي جندي آخر بخمس سنوات، وكان تصوري للحياة في الجيش وحياة السجن مختلفا جدا. وأيضا لأنني كنت أكتب ما يحدث حولي بعيني كاتب، كنت أبحث عن القصص وكنت أجدها كثيرا. ولكن حتى مع أخذ هذا في الاعتبار، كان الجو العام في السجن محبطا للغاية بالطبع. وكنت بحاجة إلى نوع من الاسترخاء النفسي والهروب من الواقع. وقد وجدت ذلك في كتابة قصص الأطفال، لأنك عندما تكتب للأطفال تصبح طفلا. تحتاج إلى استخدام اللغة نفسها، والصور نفسها، والاستعارات السهلة الفهم نفسها. لذا من الصحيح أن قصصي الرئيسة للأطفال كتبت في سجن أوديسا، لكنني واصلت الكتابة الإبداعية للأطفال بعد ذلك، وحتى الآن أحاول كتابة قصة أطفال واحدة على الأقل كل عام.

 

أعتقد أنه من الأسهل دائما التنبؤ بشيء سلبي، أو بمأساة، ولهذا السبب لا أحاول التنبؤ بأي شيء في الوقت الحالي

ما الذي ألهمك لكتابة رواية “جيمي هندريكس مباشر في لفيف”؟
في عام 2010، دعاني عمدة لفيف أندره سادوفي الى تناول القهوة معه. أخبرني أنني أكتب دائما عن كييف وتساءل عما إذا كنت أرغب في كتابة كتاب واحد على الأقل عن لفيف. كانت لديه فكرة أن يطلب من كتاب مختلفين أن تدور أحداث قصصهم في مدينته. أنا أعرف لفيف جيدا. كانت أول مرة زرت فيها هذه المدينة الأوكرانية الرائعة في السبعينات ومنذ ذلك الحين زرتها عشرات المرات. إنه مكان ساحر. كما أنه أحد مراكز الهيبيين الرئيسة في العصر السوفياتي. لهذا السبب فإن إحدى القصص الرئيسة في الكتاب تدور حول تاريخ الهيبيين في غرب أوكرانيا. التقيت خمسة منهم على الأقل، وقد صاروا كبارا في السن أو متقاعدين، عندما كنت أكتب هذا الكتاب. وما زلت صديقا مع أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية أليك أوليسيفيتش الذي أصبح السجل الرئيس للحركة الهيبية في أوكرانيا خلال الحقبة السوفياتية.

أندره كوركوف يتحدث في فعاليات معرض فرانكفورت للكتاب.
يحتوي هذا الكتاب على ست شخصيات، ثلاث منها شخصيات حقيقية من مدينة لفيف بأسمائهم الحقيقية وعناوينهم الحقيقية، وهم جميعا أصدقائي الذين كنت أعرفهم قبل أن أبدأ في الكتابة. بالطبع أخذت الإذن منهم، وأثناء كتابة النص كنت آتي إلى لفيف كل شهر لأقرأ لهم الفصول التي كتبتها وأحصل على موافقتهم.

بالطبع، لم يكن جيمي هندريكس حكرا على الهيبييين فقط. كنت أستمع إلى موسيقاه بسبب أخي الأكبر ميشا الذي كان هو نفسه هيبيا في ذلك الوقت. أنا سعيد جدا لأن الرواية لاقت استحسان القراء الأجانب، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.

كوميديا سوداء
تتسم روايتك الشهيرة “الموت والبطريق” بنبرة كوميدية سوداء. كيف توازن بين الفكاهة والجوانب الأكثر جدية في السرد؟
كتبت رواية “الموت والبطريق” في عام 1995. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 وحتى أواخر تسعينات القرن العشرين، عاشت أوكرانيا فترة قاتمة وخطيرة للغاية. معظم الناس كانوا متشائمين ويفكرون في مغادرة البلاد والهجرة إلى ألمانيا وكندا والولايات المتحدة. الروايات التي كتبت عن تلك الفترة تسمى “السرد الأسود”. لأن الكُتاب يكتبون روايات لا يحبون فيها البلد الذي يصفونه، ولا يحبون شخصياتهم، ولا تنتهي القصص أبدا بنهايات سعيدة.

بدأت بكتابة الرواية من خلال ابتكار النكات السياسية وغير السياسية. لذا، فإن حبي للفكاهة، وخاصة الكوميديا السوداء، ينبع من هذا التقليد السوفياتي الشفهي وفي الوقت نفسه المناهض للسوفيات في سرد النكات. وبالطبع، بما أنني متفائل بالفطرة، فأنا أحب شخصياتي وأحب قصصي وأرى أن النهاية السعيدة مهمة جدا في كل كتاب لأن النهاية تمنح القراء الطاقة، وإذا كانت النهاية سيئة، فإن النهاية المأسوية تسلبهم الطاقة. لطالما أردت أن أعطي قرائي طاقة إيجابية. وما زلت أفعل ذلك.

هناك خريطة أخرى للعالم تقوم على المدن بدلا من البلدان وهذه المدن هي الشخصيات الرئيسة في الروايات الكبرى في الماضي وفي الأدب الحديث

في روايتك “العظمة الفضية”، التي دخلت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية لهذا العام. تلعب عظمة فضية دورا غامضا في النص السردي. هل وجودها رمزي؟
نشرت أكثر من عشرين رواية في أوكرانيا، وكثير منها يحتوي على خيالات طبية كعناصر من الحبكة. وذلك لأن والدتي وجدتي كانتا طبيبتين. نشأت في منزل به مكتبة طبية ضخمة جدا. وخلال طفولتي، كنت أفضل الكتب الطبية على كتب الأطفال. لذا، فهذا أحد الأسباب التي تجعل العظام الفضية تلعب دورا رئيسا في روايتي البوليسية التاريخية. ولكن بشكل أساسي هذا الكتاب عن كييف في عام 1919 عندما سيطر عليها البلاشفة والجيش الأحمر للمرة الثانية. إنها رواية عن بقاء سكان كييف في زمن الحرب التي استمرت لأكثر من أربع سنوات وشاركت فيها ستة جيوش.

تمزج في رواياتك بين عناصر الجريمة الغامضة والواقعية السحرية. كيف تحافظ على سرد متماسك مع تحقيق التوازن بين هذين النوعين؟
عندما أكتب رواياتي، لا أستخدم أي مقاييس للتحقق من التوازن بين مستوى الواقعية السحرية وعناصر الأنواع الأخرى في القصص التي أكتبها. هذا هو تصوري للعالم. نشأت وأنا أضحك على سخافات السوفيات، والآن أستطيع أن أرى السخافات في أي بلد وفي أي نظام. في الواقع، الأمر ليس سخافات دائما، إنه اختلاف في فكرة “العادي”. لذلك أجدها جزءا من عاداتي، وجزءا من حبي للقصص التي تدور على الحدود بين الواقعية والسوريالية، بين شيء جاد للغاية، وشيء درامي للغاية وشيء مضحك للغاية.

ذاكرة المدن
تتميز كتاباتك بالوصف التفصيلي للأماكن، وخاصة المدن والمناظر الطبيعية في أوكرانيا. هل تعتقد أن الأدب يلعب دورا في الحفاظ على ذاكرة المدن؟
أعتقد أن هناك خريطة أخرى للعالم تقوم على المدن بدلا من البلدان وهذه المدن هي الشخصيات الرئيسة في الروايات الكبرى في الماضي وفي الأدب الحديث. مثل لندن في روايات ديكنز! أمضيت معظم حياتي في خلق صورة أدبية لمدينة كييف.

AFPAFP
كتّاب أوكرانيون يقفون دقيقة صمت في معرض فرانكفورت للكتاب.
بطريقة ما أعتقد أنني بذلت بالفعل قصارى جهدي، لكنني أكتب حاليا عن كييف في الماضي، في أوقات الحرب 1918/1921. ولهذا السبب أقوم بجمع المذكرات والملاحظات والأرشيفات من أجل الحفاظ على الأفكار والمشاعر والانفعالات الحقيقية للأشخاص الذين عاشوا في كييف قبل ولادتي بفترة طويلة.

لا أتابع اجتماعات البرلمان بقدر ما أتابع الخطوط الأمامية ومسارات الصواريخ الباليستية

 

في مقالتك “الحرب أصبحت خلفية الحياة”، كتبت: “لقد أصبح نومي مختلفا الآن، غير مستقر، قلق، ومتقطع. يبدو أنني أستمع إلى الصمت”. كيف تغيرت كشخص وككاتب منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية؟
أنا بالتأكيد شخص مختلف الآن بدءا من 24 فبراير/ شباط 2022. ولن أتمكن أبدا من العودة إلى حالتي الذهنية والنفسية السابقة. لم أستطع كتابة رواية لأكثر من عامين. كتبت فقط عن الحرب وعن الحياة في زمن الحرب. الآن أكتب كليهما. لكن هناك قدرا أقل من الفكاهة في نصوصي والمزيد من المرارة. أعلم أنني لا أستطيع تغيير أي شيء في وضع اليوم. لا يمكنني إلا وصفه. لا يمكنني سوى تدوين ملاحظات للقراء المستقبليين حول هذا الوقت. الآن، أنا أقل اهتماما بالسياسة البحتة. لا أتابع اجتماعات البرلمان بقدر ما أتابع الخطوط الأمامية ومسارات الصواريخ الباليستية. العالم يجنّ ببطء وعدوى الجنون تنتقل في العالم. بدأ الأمر بدولة مجنونة واحدة ثم أثار سلسلة من ردود الفعل التي لا نرى نهايتها بعد.

كيف أثر عملك بالصحافة في كتاباتك الأدبية؟
لدي العديد من الخلفيات بخلاف الصحافة. لقد عملت كاتب سيناريوهات أفلام لسنوات عديدة وكنت أقوم بتدريس كتابة سيناريو في كلية المسرح والسينما في كييف. أعتقد أن هذه الخلفية أثرت في أعمالي الروائية أكثر من الصحافة. لأنك عندما تكتب سيناريواً فإنك تتخيل ما يحدث بصريا. أنا أكتب رواياتي بهذه الطريقة. أتخيل كل ما يحدث بصريا ، وأرى وجوه شخصياتي.

أخيرا، حدثنا عن أهم المؤثرين في كتاباتك؟
لدي العديد من الكُتاب المفضلين. بعضهم أقدرهم منذ مراهقتي. هؤلاء هم فرانز كافكا، كنوت همسون، ألبر كامو، ميكولا غوغول، وميخائيل بولغاكوف. لاحقا أضفت إلى هذه القائمة فيليب سيندز ومارتن بولوك، مؤلفين عظيمين للكتب غير الروائية في عصرنا.