الصور تجد دائمًا أصحابها:

21/10/2020: ما إن وصلني صوت يوسف شغري بأنّه صار في اللاذقية، وبأنّه يحطّ في بيته، لا يخرج منه إلّا عند الملمّات، والذي سبق وزرته فيه لمرّة واحدة منذ عشرين سنة خلت، حتّى توجّهت لزيارته، بصحبة أخي ماهر، فلم نستطع وقتها، الاستدلال إلى موقع بيته، رغم معرفتي المؤكّدة أنّه في هذه المنطقة، وأنّه في هذا الشارع وفي هذه البناية أو تلك التي تجاورها، عند المفرق المؤدّي لجامع الحسين، مشروع تجميل الصليبة، أي أنّه لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن بيتي! وذلك لأنّنا عندما سألنا أصحاب محلات الخضروات والسمانة والأجبان والألبان المنتشرة بكثرة في الحيّ، بسبب وجود الجامع، ما إذا كانوا يعرفون الصحافي والشاعر والمترجم يوسف شغري الذي يعمل في السعودية، لم يظهر أيّ منهم أدنى معرفة به ولا حتّى سمع باسمه! وفي الحقيقة، ولا أدري إن كان سبب هذا طول سنوات غربته التي قاربت الثلاثين سنة، مع إنّه كان يأتي ويذهب كلّ سنتين أو ثلاث على الأكثر، أم إنّ الناس في بلدي باتوا لا يدلّون طواعية على بيت أحد خشية أن يلحق ذلك به ضررًا ما! بعدها قمت بالإتصال به وتعمّدت الاستدلال منه إلى موقع البيت بالدقّة اللازمة، الشارع والبناية والمدخل والطابق، وأخيرًا أن يقف بانتظاري على الشرفة! فإذ به حيث كنت أتوقّع تمامًا. فكان أن زرته في البداية وحدي وقضينا وقتًا نستعيد ذكرى أمسيتي الشعرية في الدمام، حيث كان يوسف يجلس في الصفّ الأوّل من القاعة، بعدها رحت أصطحب في زياراتي له، بناء على رغبته الشديدة، بعض أصدقائه القدامى وآخرين لا يعرفهم أحبّوا التعرّف عليه، منهم، كما ذكرت، أخي المهراجا ماهر، وإلياس دبّانة رفيقه القديم في الحزب الشيوعي السوري، والباحث الشاب مضر كنعان، أمّا صديقاه اللذان لديهما معه الكثير من الذكريات، الفنان التشكيلي نزار صابور ود. ماهر أبو ميالة، فقد التقى بهما عندي في البيت. وفي زيارته الأخيرة، قدّم لي دفترًا أخضر مائلًا للزرقة، ألصقت على غلافه صورة ملوّنة لصديقنا ومعلّمنا المشترك الشاعر الراحل محمّد سيدة، قائلًا: “أنت من يجب أن يبقى عنده هذا الدفتر”. وكأنّه كان يعلم علم اليقين باقتراب نهاية رحلته ويتقبّل هذا بكلّ رحابة صدر.

لو كنتِ وردةً حمراء:

لم يتطلّب مني معرفة ما يحتويه هذا الدفتر الذي سلّمه يوسف لي باليد، سوى رؤية غلافه البلاستيكي الأخضر المائل للزرقة، إنّه كرّاس آخر من الكراسات التي كتب عليها محمّد سيدة بخطّ يده مجموعة أشعاره، بدءًا بالباكرة المسجّعة منها، النضالية! إلى قصائد المرحلة ما قبل الأخيرة، التي كتبها عن ابنة أخيه (ديما)، وصولًا إلى قصائده عن (الآنسة…) التي شكّلت نهايته الشعرية. وذلك كلّه تحت العنوان ذاته: “لو كنتِ وردةً حمراء”، رغم أنّه لم يستقرّ يومًا على صياغة نهائية له فمرّة يبدل (إذا) بـ (لو)، كما في مجموعته: “إذا كنتِ وردةً حمراء” إصدار وزارة الثقافة السورية- 2000، ومرّة يضيف عليه كلمة (حقًّا) ليصير: “لو كنتِ وردةً حمراء حقًّا”. الصياغة الأمثل برأيي، ولكن هذه المرّة، هناك ثماني قصائد جديدة لم يتضمّنها أيّ مخطوط لمحمّد وقع عليه نظري، أو أيّ كتاب صدر له سابقًا، حتّى في كتابي عنه “محمّد سيدة هامش الهامش” إصدار دار التكوين- دمشق- 2019. الذي ادّعيت، بعد تعقّب كل أثر يمكن أن يؤدي لاكتشاف قصيدة مجهولة من قصائده، أنّه يحتوي الجسم الكامل لتجربة محمّد سيدة الشعرية، وأحسب أن ثماني قصائد لشاعر لم يزد عدد القصائد التي خطها طوال حياته عن /120/ قصيدة، بعضها عبارة عن سطرين لا أكثر، وأغلبها أربعة أسطر أو خمسة، يعدّ بالنسبة لمحبّي شعره، كنزًا حقيقيًّا. إضافة لنصّين عن محمّد سيدة، يكتسبان أهمّيتهما من أنّ يوسف شغري أحد أصدقائه المقربين، هو من كتبهما، وذلك بعد وفاة محمّد بسنوات ليست كثيرة. أوّل هذين النصّين، جاء كردّ على مقال قرأه في جريدة محلية، يركزّ على الصفة الطبقية لمحمّد، باعتبارها الميزة الأمثل، والثاني كتبه بطلب مني كإفادة يقدّمها شاهد عيان عن محاولة محمّد الانتحار التي يكاد لا يعرف تفاصيلها بدقّة حتّى أقرب الناس إليه، بسبب رغبة محمّد طيّها ومحوها، وذلك لأسباب مفهومة لمن يعرفونه أدنى معرفة، فهي تخدش الصورة التي يحبّ دائمًا أن يبدو عليها، قويًّا وواثقًا من نفسه، مهما كانت الظروف. كما أنّها من الممكن أن تعدّ من قبل الآخرين كنقيصة تؤخذ عليه.

فيما يلي، هذان النصّان المميزان، كلًّا من ناحية، يتبعهما، القصائد الثماني الجديدة، وقد آثرت دمج ثلاث منها وجدتها ذات معنى متسلسل، متتابع، في قصيدة واحدة، ليصير لدينا ستّ قصائد بدل ثمان، ستكون إضافتها إلى كتاب (محمّد سيدة… هامش الهامش)، في حال أعيد طبعه مرّة أخرى، إضافة حقيقيّة.

 

محمّد سيــدة .. من هــو حقــًّا؟:

1/10/2009: فاجأني ما كتبه الفنان التشكيلي (ب س) عن الشاعر الراحل محمّد سيدة (صحيفة الوحدة- العدد 7100 تاريخ 2/8/2009)،وهو يحاول أن يقدّم تعريفًا بالشاعر المعروف في المدينة كرائد من رواد قصيدة النثر، والذي كان له التأثير الواضح على عددٍ من شعرائها.

وما أدهشني حقًّا أنّ (ب س) يكتب عن محمّد سيدة، وكأنّه يزكّيه للانتماء إلى جماعة تقدّمية، بأنّ الأهمّ ما فيه هو (الانتماء الطبقي) و(الفقر)! وهذا إذا كان مقبولًا بل ربّما ضروريًّا في تزكية طالب انتساب إلى تلك الجماعة المذكورة، فإنّي لا أرى فيه ما هو حقًّا ما يميّز تجربة محمّد سيدة كشاعر. وأنّ عبارات مثل “يفخر بانتمائه الطبقي”، و”شاعر ينتمي إلى قاع المجتمع”، وغيرها، يمكن أن تجعل من محمّد سيدة أو سواه شاعرًا جيّدًا.

وأنا من خلال معرفتي الوثيقة بالشاعر محمّد سيدة أستطيع القول إن سبب مأساته الكبرى، هو أنّه صحيح كان ينتمي إلى “قاع المجتمع”، في الوقت الذي أحبّ فتاة من طبقة أخرى، رفضته بتقديري للسبب ذاته. وهذه الحالة استولدت الشاعر الحساس المرهف عشرات القصائد في حبّ إنسانة، فضلت عنه رجلًا أكبر منها سنًّا، فقط لأنّه كان من عائلة يمكن أن تفخر بها اجتماعيًّا! ورفضته، وهو الشاب القويّ والشاعر المرهف، وفوق كلّ هذا، عاشقها الولهان! وقد أدّى به هذا إلى محاولة الانتحار تلك! يقول محمّد سيدة في إحدى قصائده الرائعة والتي أحفظها غيبًا، والتي تعبر عن ألمه البالغ من هذا الواقع الاجتماعي المزيف والتافه الذي عانى منه حقًّا:‏

[لأنّي عامل

وعلامتهُ المميزة

تغمُّسُ ثيابِهِ بالزيتِ الأسود‏

محسوبٌ على أحلامكِ

كعربةِ خيولٍ قديمة

سجينةٍ‏ خلف أسوار العناكب

وصفرٍ مهما قدّمته على الرقم واحد

لا يصبحُ عشرة.

/

كنتُ أحسبُكِ جزيرةَ براءةٍ‏

في محيطِ كونٍ بربري‏

وكنتُ أنوي السفرَ إليكِ‏

لو كنتِ بشواطئ‏

ولم تكوني من صخرٍ وموجٍ وعواصف.

/

سقطت أحلامي كأوراقِ التقاويم‏

وهوى رأسُ حمامةِ إنسانيتي‏

تحتَ شفرةِ مقصلتكِ!]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن العجيب أكثر، أن يكون من مراجع السيد (ب س) للكتابة عن الشاعر الكبير محمّد سيدة شخص غير معروف في عالم الشعر والأدب: (ن ب)! أشكّ أنّه يستطيع أن يضبط قراءة قصيدة واحدة من قصائد محمّد، ولا أظنّه حاصلًا على الشهادة الثانوية، ثم يبني على ما قاله المذكور أكثر من نصف المقالة… يا للعجب! ومن يقرأ ما كتبه: “يروي فلان الفلاني أنّه تناول الفطور…”، يظنّ المذكور جهبذًا من جهابذة المعرفة، أو مؤرّخًا للإعلام كـ (الزركلي)!‏

أودّ أن أهمس للسيد (ب س) أنّ العلم يؤخذ من أهل العلم في المجال الذي يكتب فيه وليس ممّن كان يكن!‏ وأخيرًا… إلى متى سنكتب عن الأدب والشعر والشعراء بمفاهيم أثبتت الأيّام والتجارب أنّها لا تصلح أبدًا لذلك؟ والى متى سنظلّ نزجّ زجًّا بالأفكار السياسية والأيديولوجية التي نؤمن بها في مجال الفن والأدب؟‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوسف شغري – اللاذقية

 

هذه صورتها وهذا انتحار العاشق:

18/4/2016: “لم يرو لي أحد حادثة انتحاره. بل عايشت الحدث شخصيًّا. تعلم، تعرّفت على محمّد سيدة وقبوه في مشروع الصليبة، أوّل سني السبعينيات (نهاية 1972 وبداية 1973)، أخذني إليه صديقنا المشترك آنذاك (ف.ح). فرحت أتردّد عليه بسبب انجذابي لشعره وكتبه وأفكاره. فعلمت آنذاك، -ربّما حدث ذلك في عام 1974، لست متأكّدًا من التاريخ تمامًا- أنّ محمّد سيدة كان مغرمًا بأخت (ف.ح). وأنّ أشعار الحبّ التي يقرأها علينا، قد كتبها عنها! وقد روى لي محمّد أنّ عائلته كانت تسكن سابقًا بجوار عائلة (ف.ح)، وأنّه كان يعير أخته الكتب والروايات. وأنّها كتبت له على أحد الكتب ما فهم محمّد منه أنّه تعبير عن حبّها له! علمًا أنّها كانت حاصلة على الشهادة الثانوية بينما لم يكن محمّد قد تجاوز بدراسته الصفّ الرابع ابتدائي! وهكذا راح يكتب لها الشعر، على الأغلب من دون أن تدري! وأخيرًا حزم أمره وقرّر أن يرسل لها رسالة تحملها لها أخته نجاح. وقد روى لي أنّه بعد نجاح توصيل الرسالة لها باليد، ما لبثت أن أعادتها مع أخيها (ف)، في مساء اليوم ذاته، لينقل إليه رفضها له. على ما أذكر أنّ (ف) قال إنّ أخته سخرت من الرسالة، وطلبت منه أن يعيدها لمحمّد مع عبارة: “ليس بأيدينا أن نختار. ليس بأيدينا أن نتعذّب”. ممّا أغضب محمّد على (ف.ح) شديد الغضب، معتبرًا أن رفض أخته كان بسببه. فلم يكن محمّد مستعدًّا أن يصدّق إلّا بأنّها تحبّه! بعدها انقطع (ف) عن النزول إلى القبو وزيارة محمّد كما اعتاد أن يفعل لسنين. وفي أوّل زيارة لي لمحمّد بعد الحادثة، لاحظت جروحًا لا يغطّيها أيّ ضماد عند رسغه وباطن كوعه. ولما سألته، أخبرني أنّه تناول كمّية كبيرة من حبوب الأسبرين في محاولة منه لوضع حدّ لحياته. ثم قال مازحًا: “يا شيخ اتّضح أنّي ديناصور! الموت ليس سهلًا كما كنت أظنّ!”. ثم بعدها سرد لي تفاصيل كيف حاول قطع شرايينه بشفرة الحلاقة: “كلّما ضربت عرقًا بالشفرة ينزف قليلًا… ثم ينقطع النزف!”. ويبدو أنّه حاول في عدّة عروق ظاهرة في ساعده. إلى أن، بالصدفة، نزلت أخته نجاح إلى القبو، ووجدته على هذه الحال، فنقلته إلى المستشفى الوطني القريبة، وقالت لهم إنّ جروحه بسبب كسر زجاج النافذة!

ولا أظنّ أنّ (ف.ح)، الذي غادر سورية بعد تخرجه من كلية العمارة مباشرة، قد زار ذلك القبو يومًا! فقد ظلّ محمّد، إلى يوم وفاته، يحمّله مسؤولية رفض أخته له. متّهمًا إيّاه بأنّه هو من كتب تلك العبارات التي حالت بينه وبين فرصة السعادة اليتيمة التي لاحت له طوال حياته!”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوسف شغري- القطيف

 

القصائد المختبئة في الدفتر الأخضر المائل للزرقة:

تصوّرا، لو نكتشف الآن ثلاث قصائد لا نعرفها لرياض الصالح الحسين مكتوبة بخطّ يده على ورقة مطويّة في أحد دفاتره؟ تصوّرا لو يجدون بين طيّات أطلس صغير في مكتبة ما في الحبشة قصيدتين عليهما توقيع رامبو! أحسب أنّه حينها ستقوم دنيا الأدب ولا تقعد! هنا ثماني قصائد لم تعرف سابقًا لمحمّد سيدة، رغم أنّها مكتوبة قبل وفاته بعدد واف من السنين، بلا عناوين، كما أغلب قصائده، ولعلّ قصرها يعفيه من تكبّد مثل هذا العناء، ذلك لأنّ العناوين في هذه الحالة، لا تقدّم ولا تؤخّر، بل قد تكون زائدة ومفتعلة.

1:

يبدو أنَّ العصافير التي لدينا

ضعيفةٌ يا أمّي

ولن تعبر هذه السنة معنا

من صيفٍ إلى صيف

ومن ربيعٍ إلى ربيع..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1989

2-3-4:

تحصد الرياحُ الأضواءَ من كلِّ الأوسمة

والألقابَ التي بينها وبين الناس

بسيلٍ من الحديد والنار والحجارة.

/

على دويّها الهائل

فتح الزمن عينيه

وكفّ عن أن يجترّ كالأبله

أشرطة رداءته.
/

ترفع الرياح الحمراء

حالة منع التجول المزمنة

بين أشواق البشر…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1989

5:

لَئن خلعتُ قدمي من عرقِ قدمِك

ونسلتُ ألواني من زهورِ حدائقك

فلأنّكِ طاووس

معروف بأنَّ ذيلَهُ مستعار

وعرفَهُ مستعار

ولأنَّ ثيابي الرخيصة

ممهورةٌ ببقع سوداء…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1989

6:

كانوا ثمانيةَ أولاد

في الشتاء

ينامونَ متلاصقين

كصغارِ القططِ

ويظلُّ اللحافُ

في حالةِ مدٍّ وجزر

إلى الصباح.

/

على مواقدِ التبغِ الأسود

يا (ديما)

تتبخَّرُ أجسادُ أُخوتي…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1988

7:

بمقدارِ ما حُلِّل لوجهكِ

أن يبصمَ على الضوء

حُرِّمَ عليهِ

أن يبصمَ على الوحل…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1987

8:

لا تخافي

لا تخافي

إنّ الجسورَ التي

يرفعُ أعمدتَها الحمامُ الأبيض

لن تُغلق

لن تُغلقَ أبدًا

وستظلُّ مزدحمةٌ

بكِ وبي…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1987

 

 

شارك هذا المقال