شكلت الحكاية الشعبية إلى وقت قريب ركنا أساسيا في حياة الشعوب، ومنها الشعوب العربية، لكن ماذا يمكن القول عن حضورها بين الناس في ظل التسارع الكبير في الثورة الرقمية ومنجزاتها التي تتمادى وتسطو على كثير من الوسائل التقليدية في الوصول إلى القصة أو الحكاية أو الخبر أو غيرها؟ حتى الحكايات الشعبية والأساطير والسير، وغيرها من التراث الثقافي الشعبي، تحولت إلى أفلام ومسلسلات وغيرها بعدما مرت في سلسلة من الإشهار، من التناقل الشفهي إلى المخطوطات إلى الطباعة والنشر، مرورا بالحكواتي. لذلك يعتمد شربل داغر في درسه المدونة الحكائية المجموعة والمتوافرة طباعيا، في كتابه الصادر حديثا عن المركز الثقافي للكتاب في المغرب، تحت عنوان “حكي العوام/ بين التاريخ والفقه والأدب”، مقتفيا أثر السرد من “المتبقيات” في تراثنا، وصولا إلى الرواية، ما دام أنه “لا يوجد شعب من دون سرد” كما قال رولان بارت. لا بد من الإشارة بداية إلى أن الباحث يستحسن إطلاق مصطلح “حكي العوام” لما اصطلح على تسميته “الأدب الشعبي”، لكنه استبقى هذا المصطلح في بحثه هذا.
الأدب الشعبي والأدب “المعتبر”
هل ما وصل إلينا، وعاش حياة، بل حيوات، من الأدب الشعبي، أو حكي العوام، كما يسميه شربل داغر، من حكايات أو سير، أو الكتاب الأشهر “ألف ليلة وليلة”، ينتمي إلى الأدب؟ بل الأدب “المعتبر”؟ وما صِلته، أو دوره في سلسلة التطور، إن جاز القول، بالنسبة الى الإنتاجات الثقافية لدى الشعوب، وصولا إلى العصر الحالي؟
هذا ما سعى الباحث إلى درسه وبيان علاقته بالأدب و”تأصيله”، إنما ليس وفق المنهج الفولكلوري، أي دراسة المحتوى وحسب، بل وفق المناهج اللسانية الحديثة، فاقتفى أثر هذا الأدب، تاريخه، تعالقاته مع التاريخ، تأثير البيئة الاجتماعية، الثقافية والسياسية والدينية فيه وفي تمثلاته، ليصل في النهاية إلى ما وقع عليه تاريخيا، خاصة في العصور الإسلامية، ودور الفقهاء وعلماء اللغة الفصحاء والأدب.
ابتغى كتاب داغر الوقوف عند تجليات النزاعات التي امتدت بين بعض أهل الأدب وبعض أهل الفقه في ميدان القص والسرد
لقد مرّت هذه العلامات التي تحمل الضمير والوعي العميقين للشعوب العربية بكثير من التحدّي، وكثير من التملك الذي يطوّعها لتنتقل من صيغة إلى صيغة، لكنها في النهاية وصلت وحظيت، ولا تزال تحظى، باهتمام الدارسين، مستشرقين أم عربا، كما فعل الباحث شربل داغر في هذا الكتاب، فهو مسك أدواته البحثية وأخذ يحفر بأناة فنان وصبره في طبقات التاريخ، تاريخ هذه الإنتاجات، وتاريخ البيئة التي أنتجتها. هذا الكتاب ابتغى الوقوف عند تجليات النزاعات التي امتدت بين بعض أهل الأدب وبعض أهل الفقه في ميدان القص والسرد.
بين مدخل وخاتمة، توزع الكتاب على أربعة أقسام، تحوي ثمانية فصول، تناول ثلاثة أنواع من الأدب الشعبي في التراث العربي؛ الحكاية الشعبية ـ الساحرة تحديدا ـ وسير البطولة، ثم كتاب “ألف ليلة وليلة”. في الأول والثالث والخامس من فصول الكتاب اعتنى البحث بتكوين الإنتاجات المعنية بالدرس وبعدد من عيناتها. وفي الثاني والرابع والسادس، درس البناء القصصي في: الحكاية الساحرة، والسيرة، و”ألف ليلة وليلة”. وأظهر الدرس أن لها ترسيمة سردية متعينة في مسار سردي، متمثلة في علاقات سردية بعضها مترابط وبعضها متتابع، وفق منهج الدراسات السردية المتأخر (بارت وتودوروف وغريماس وغيرهم).
غلاف كتاب “العابر الهائل بنعال من ريح”.
أما المهمة الثالثة في الدرس التي نوّه إليها بعد درس التكوين والبناء، فهي أن هذا الإنتاج يتعين وفق موجبات عقد بين من ينتجه ومن يتلقاه، على أنه مبني على النقل والتواسط والإفادة والمتعة، فالإنتاجات الشعبية، في عهود تداولها الشفهي وفي مخطوطات يتم تناقلها، وتجديدها عند مالكيها، حكواتييها، أصابها ما يبددها في حياة الجماعات، وهذا ما يجدد “حيواتها”. هذه المتبقيات من الماضي البعيد والقديم هي ما احتفظ به التداول، “ولا يعني حفظه، في هذه الحال، بقاء حاله كما كان عليه في سابقه”. وهذا ما أطلق عليه “العقد التداولي” الذي “إذا كان خافيا في بنوده أو شروطه، فإنه ظاهر في لغة السرد، في بنائه، في موضوعاته، وفي ما يشتمل عليه السرد من علاقات بين السرد والتاريخ، أي موضوع السرد، وبين السرد وتجليات الاعتقادي فيه”. مما يعني حكما تعينه في سياق تاريخي واجتماعي.
إذا كان رولان بارت يقول “الأسطورة كلام”، فإن داغر عرّف الحكاية بأنها كلام، وهذا يعني أنها تتعين في لغة، شفاها أو كتابة
إن دراسة أي ظاهرة بالاستناد إلى تاريخها، وتاريخيتها، أمر مهم للغاية، على هذا الأساس بنى درسه لهذه المدونة، فأظهر أو قدّم الدلائل التي تؤكد أن مجموع المدونة “الشعبية” “محيّن”، أي يشتمل في لفظه على زمن صدوره، وبلوغه في حالته الماثلة، كورود ألفاظ مفارقة لزمن الحكاية أو السيرة، حديثة. “قراءة عدد بالغ من سير البطولة العربية تظهر بأنها تتعين في التاريخ الجاهلي، الإسلامي ـ العربي، بلوغا إلى العهد المملوكي”.
الحكاية
أمّا بالنسبة إلى الحكاية فإنها تشتمل على نسقين اعتقاديين، نسق اعتقادي سحري، ونسق اعتقادي قدري، مما يشير إلى زمنين اعتقاديين مختلفين، زمن الخوارق والأحداث العجيبة، وزمن الاعتقاد بوجود معان مدبرة لحياة البشر، زمن الأسطورة وزمن الدين.
غلاف كتاب “الثورات العربية والسلطة العثمانية”.
أخذ داغر عينات من مجموع ما قام بنشره كثرٌ من جامعي هذه الحكايات أو دارسيها، فالتقط صفات معينة لها في مرحلة أولى، لتكون هذه الصفات مجال فحص ودرس. وإذا كان رولان بارت يقول “الأسطورة كلام”، فإن داغر عرّف الحكاية بأنها كلام، وهذا يعني أنها تتعين في لغة، شفاها أو كتابة، وللبحث أن يتعامل معها على هذا الأساس. وبما أنها “كلام في شكل”، فهذا يعني أن درسها يحتاج إلى “توصلات اللسانية الحديثة” من جهة، وإلى توصلات السيميولوجيا (علم العلامات) من جهة ثانية، في مفارقة عن الدراسات السابقة، خاصة المنهج الفولكلوري الذي بنى دراساته على “المحتوى”. كذلك فإن الحكاية تتعين في بناء تأليفي، وبناء على المنظور المنهجي والتحليلي ينبني درس الحكاية الشعبية في الكتاب، مع الاستدراك بأن اللغة ليست محايدة أو مطلقة أو ثابتة، بل هي “محيّنة” طبقا لما تكون عليه الصيغة، خاصة أن الدارسين لاحظوا أن الحكاية الواحدة تظهر في هيئات لغوية وتأليفية متبدلة بين بيئة تداولية وأخرى، وهو ما يمكن تفسيره، بحسب الباحث، باللفظ المفهومي والإجرائي “التملّك” اللغوي، إذ إن الحكواتي يقدم، بقصد أو من دون قصد، على تملّك ما يروي.
غلاف كتاب “قصيدتي معهم وبلساني”.
سير البطولة العربية
تحفل “الإنتاجات الشعبية” العربية بأعداد كبيرة من سير البطولة، ولقد ترجمت أعداد منها إلى لغات عدة، خاصة الفرنسية والإنكليزية، كما تناولتها كتب درسية عديدة، يستدعي الباحث بعضا منها إلى دراسته، لكنه يخلص إلى القول: “لم أقع، في حدود ما أعرفه ووصلت إليه في هذا النطاق من الدراسات، على تحقيقات نقدية لواحدة أو أكثر من هذه السير، فيما خلا عمل واحد”. فقد سعى دارسون عرب وأجانب إلى إخضاع السير الشعبية إلى معالجات تستند إلى تأويلات ذات أساسين، منفصلين أو متكافلين، تاريخي ونفسي. مما يظهر أن السير الشعبية تمثل أمام أعين دارسين عديدين اليوم، “من دون لغة، من دون جمل، ومن دون بناء، كأن الدراسة اللسانية، في إجرائياتها المختلفة، تتوقف أمام عتبة السيرة الشعبية”. وصحيح أن هذه الدراسات خرجت من التفسير الفولكلوري، أو الأسطوري الرمزي، إلا أنها لم تتوصل إلى تدبير قراءة لغوية وتأليفية لمواد هذا الأدب، أو لعلاقاته المركبة بين السرد “المحكي” والتدوين “التملكي” والمتتابع له، وما يجعله بالتالي فرعا من فروع الأدب، ونصوصا مثل غيرها في دراسات اللغات الأدبية.
أن لا تكون الحكاية، أو السيرة، قد خضعت لقواعد مرتضاة من النقاد والبلاغيين في “الأدب”، فهذا لا يعني أنها لم تنتظم وفق تدبيرات واحتياجات واستهدافات
بعد دراسة نماذج من السير البطولية العربية، والتحقق منها ومن تاريخيتها، يصل إلى نتيجة مفادها: أن لا تكون الحكاية، أو السيرة، قد خضعت لقواعد مرتضاة من النقاد والبلاغيين في “الأدب”، فهذا لا يعني أنها لم تنتظم وفق تدبيرات واحتياجات واستهدافات، توفر لصانع الحكاية أو السيرة، في صيغة من صيغها، غرضه التواصلي. فللحكاية والسيرة بناء سردي، قصير أو طويل، تجتمع فيه عناصر السرد الأولية: الترسيمة السردية العامة، والمسار السردي، والعلاقات السردية تبعا للأحداث المتعاقبة، وحسب الشخصيات وأحوالها، والسياق المكاني، والسياق الزماني.
“ألف ليلة وليلة”
في المدخل إلى الكتاب يقول الدارس: قد تكون ترجمة “ألف ليلة وليلة” في مطالع القرن الثامن عشر في فرنسا، هي فاتحة العناية بهذا الأدب، الأدب الشعبي بالطبع، وهو ما كشف جوانب مجهولة أو مغيّبة من أدب، لم يكن معدودا، ولا مذكورا، لا في الأدب العربي القديم، ولا في النقد العربي القديم. وهي استثارت كذلك، وترافقت، مع مقاربات ومباحث، منذ مطالع القرن التاسع عشر، في علم هو علم “الفولكلور”.
غلاف كتاب “حكي العوام”.
وكما قال مكسيم غوركي: “أصل فن الكلام يكمن في الفولكلور”، فإن هذا النوع من “الأدب الشعبي” يشكل جزءا مهما من الفولكلور العربي، مرّ بحيوات عديدة جرت عليه تحولات فيها، إلى أن وصل بين أيدي الدارسين في آخر صيغ له.
إذا كانت الحكاية الساحرة وسير البطولة التي تناولها البحث مجهولة الأصل والقدم، فإن “ألف ليلة وليلة” يمتلك نوعا من سردية لتاريخه المتقادم، بين هندي وفارسي، بلوغا إلى صيغته الحالية وهي العربية. فأي كتاب هو “ألف ليلة وليلة”؟ بعد البحث والتحقق في مدونة كتاب “ألف ليلة وليلة”، واستدعائه كتبا عدة حول هذا الأمر، منها كتاب الناقد العراقي د. محسن مهدي “كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى”، الذي يقوم على التدقيق في الطبعات الأربع للكتاب: كالكوتا الأولى والثانية، برسلاو، بولاق، “ويرى أنها تعرضت للتزوير والتحريف عن النسخة الأصل، وهو يميز بين النسخة الأم القديمة، والنسخة الأم، وبين النسخة الدستور”. يقول داغر إن الأخبار الواردة في كتب أخرى كما المسعودي والبيروني، تشير إلى أن الكتاب كان موجودا من دون أن يصل أي شيء منه. ويطرح السؤال الأهم: هل يصح في درس بنائه ما صح في درس الحكاية الساحرة وسير البطولة، أم أن له بناء مختلفا ما يحتاج إلى تفقد واستبيان؟
كتاب “ألف ليلة وليلة”، نسخة أصلية نادرة.
بداية، وبعد فحص ودرس ما كُتب من كتب ودراسات حول الكتاب، يصفه الباحث بأنه يحوي أنماطا سردية مختلفة، وحكايات متفاوتة القدم، بالإضافة إلى اختلاف عدد من الحكايات، في النسخ المدروسة، وفي ترتيبها، وفي ألفاظها وتراكيبها، “ما يجعلنا نتساءل: أهو أثر واحد، أم أثر متناقل، ومختلف بالتالي بين صيغة وأخرى؟”. هذا ما دعا إلى الامتناع عن تسميته “نصّا” وإنما “أثر”.
بعد دراسة البناء السردي لـ”الليالي” بشكل عام، ولواحدة من قصصه بشكل خاص، “حكاية الصياد والعفريت”، يصل الدارس إلى أن للحكاية وحدتها البنائية من جهة، وأن لها تعالقا بنائيا مستمرا مع باقي الحكايات من جهة ثانية، مما يؤدّي مبدئيا إلى القول بأن للكتاب بناء حكائيا من جهة، وبناء كتابيا من جهة أخرى أيضا. وهو يختلف عن غيره من الحكاية والسيرة، وتشمل ترسيمته السردية مسارين، مسار الزمن ومسار الحكاية (الحكايات)، متعالقين ومتقطعين وفق تدبيرات متأتية من بناء الكتاب، ويطرح بالتالي السؤال: ألا تكون ألف ليلة وليلة بين حكايتها “الإطارية” وحكاياتها، قصة؟
تملك الحكايات عربيا
بعد دراسة وبحث في مدونة “ألف ليلة وليلة”، بين دراسة عربية أو دراسة مستشرقين، يقول الباحث: “لا نملك غير أخبار مقتضبة، غير وافية الشروط، لعملية ترجمتها وانتقالها إلى العربية… لكنها تظهر انتقال الكتاب وتأكده في العالم الإسلامي بالعربية، ولكن من دون أن نملك من المعلومات ما يتيح التعرف إلى تاريخ الكتاب في بيئته الجديدة”.
ما هو مؤكد، بحسب الدارس، أن الكتاب القديم “الأصلي” اختفى، أو تباعد في غياهب التاريخ، وأن ما بقي من الكتاب لا يعدو كونه عددا من الصيغ له، وهي صيغ متبدلة في جزء من حكاية، أو في كلها، وغيرها من عمليات التملّك والتحويل والاستبدال.
الاستبدال أو تحويل محتوى الحكاية ومجراها من خرافية إلى عاقلة، ناجم عن تأثير الثقافة العربية في العصور الإسلامية، المتعينة في أحكام ومنظورات الدين والعلوم والخبرات والسلوكات الاجتماعية، وما سهّل هذا الأمر الطبيعة البنائية للكتاب، فيمكن إحلال حكاية مكان أخرى، فانتهى، مع عمليات التملك التي وقعت له، والتي تعني، في ما تعنيه، عدم وجود مؤلف، إلى عمليات متمادية من التملك، عبر العصور والبيئات.
اقتفاء أثر السرد العربي منذ الحكاية وصولا إلى الرواية، وحيواته المختلفة التي تأثرت بمعطيات اللحظة التاريخية
اعتنى القسم الرابع والأخير، في فصليه، بالقص في التداول، وبهذه الدراسة يوصلنا الباحث إلى خاتمة بحثه المعتنى به والذي صرف كبيرا من وقته حتى أنجزه، يؤكّد هذا الكم الكبير من المراجع والمدونة الحكائية التي قرأها وأفرد لها ثبتا في نهاية المؤلف، خاتمة توصل المعنى والمغزى والهدف من هذه الدراسة العميقة، اقتفاء أثر السرد العربي منذ الحكاية وصولا إلى الرواية، وحيواته المختلفة التي تأثرت بمعطيات اللحظة التاريخية في كل حقبة من تاريخها، فعالج في الفصل السابع القصّ في التاريخ الإسلامي، بين أحكام الفقهاء والبلغاء، وبين قبول العوام له، والفصل الثامن ينصرف إلى استبيان عقد خفي بين ما تحكيه المدونة الشعبية، وما ترغب فيه العامة من هذا القص، متتبعا سيرة الحكواتي ودارسا دوره، بين الحفظ والاستعادة التأليفية، ثم خروجه من الخفاء إلى العلن، ثم بين ما قاله الراوي وما عمله معدّ النشر، ليتوصل في النهاية إلى موجبات هذا العقد التداولي الناجمة عن خيارات وسياسات انتقل فيها مالك مخطوط، أو الحكواتي، إلى صانع تأليفي مستجد.
هذا الحديث عن التداول يعني تعينه في سياق تاريخي واجتماعي، إذ إن الدراسات التي اهتمت بهذا الأدب غابت عنها العلاقة مع التاريخ، وهذا ما غيّب العلاقة بين ما يتحدث عنه “القصص الشعبي” وبين ما يحيل إليه من وقائع التاريخ وشخصياته، أو من المتخيل التاريخي والشعبي المتجلي فيه. هذا ما كان جليا ومركزا عليه في كتاب “حكي العوام”، وما ساعد في استبيان حالة هذه المدونة الحكائية الكبيرة، بين الحكاية والسيرة و”ألف ليلة وليلة”، في السياق الإسلامي، والسؤال عن العلاقات مع أحكام الدين والشريعة، وأحكام الفقهاء وعلماء الفصاحة والأدب، يتناول في الدراسة بشكل خاص كتاب ابن الجوزي، “القصّاص والمذكرون”، الذي يرى في القص أمرا مذموما، متتبعا تاريخ القص، ثم الوعظ والمذكرين في السياق الإسلامي. فقهاء كثيرون رأوا في القص فعلا مذموما، أو يجب توجبهه وجهة استعمالية معينة، لكن ما يتضح من الاطلاع على أخبار القص، أن “ما بات يتكفل به، بعد الفقهاء، هم أقرب إلى عالم العوام منهم إلى عالم الخواص”.
يصعب على الدارس إقامة تاريخ للسرد الإسلامي، إن جرى وضع مدونة “الأدب الشعبي” جانبا. إلا أن الدرس يقوى، في المقابل، على ربط أسباب الكتابة التاريخية والتحليلية بين الحكي “الشعبي” وبين ظهور الرواية العربية المتأخر. فهل كانت هناك علاقات تأثير وتأثر بين عالم حكي العوام وبين السرد الناشئ لدى المثقفين العصريين؟ هذا ما يمكن استنباط إجابة عنه في نهاية هذا الكتاب البحثي المهم.