تم استخدام مُصطلح “الديمقراطيَّة” بشكلٍ مُفرطٍ ومُبالغٍ فيه في السياق السياسي الكُردي في القرن العشرين والحادي والعشرين. الأمر الذي يدفعنا الآن، وفي هذا التوقيت بالذات إلى صياغة التساؤلات النقديَّة الجديَّة حول هذا التطور المُثير للاهتمام. إذ يجب إجراء بحثٍ مُمنهجٍ حول السؤال الآتي: لماذا هذا الانكباب المُفرط والمُبالغ فيه على استخدام مُصطلح الديمقراطيَّة؟
هل يعني هذا توجه الحركة السياسيَّة الكُرديَّة، وبالتالي معه المُجتمع الكُردي إلى الديمقراطيَّة فعلاً كمُمارسة سياسيَّة (فيما يخص الجانب السياسي من الأمر)، وكنمط حياة (فيما يخص علاقة المُجتمع بالديمقراطيَّة)؟
كل الأحزاب والتشكيلات السياسيَّة الكُرديَّة الحديثة والمُعاصرة تستخدم مُفردة الديمقراطيَّة في اسمائها الرسميَّة وأدبياتها، وتعتبر نفسها بالتالي ديمقراطيَّة، وتُعبر عن ذلك في كل فرصة.
نظراً لحالة الكُرد الاستثنائيَّة في القرن العشرين والحادي والعشرين (الحرمان من الدولة القوميَّة لقرنٍ من الزمن، وعدم القدرة على التدول، أي التحول إلى دولة قوميَّة نموذجيَّة في نفس الوقت) لا يُمكِنُ الحديث عن نظام سياسي كُردي. فالنظام السياسي لا يتواجد إلَّا في جسم دولتي (السلطة والنظام السياسي). ولكن، كان هُناك وما يزال نشاطٌ سياسي كُردي تمثل في تأسيس الأحزاب (أحد أهم أدوات الديمقراطيَّات الليبراليَّة المُعاصرة)، التي رأت أنَّها مسؤولة عن قيادة وتوجيه المُجتمع وفق رؤاها السياسيَّة وبراديغماها. هُنا، بالإمكان البحثُ جيداً، وكشف علاقة السياسة والمُجتمع الكُردي بالديمقراطيَّة كنمط سيادةٍ وحكم.
مثلت الأحزاب الكُرديَّة عموماً مراكز لتجمع القوة والشرعيَّة، حيثُ إنَّها كانت تحتكر على الدوام ما عُرف في القرن العشرين “القضيَّة” (أي القضيَّة الكُرديَّة). كانت الأحزاب الكُرديَّة مُجملاً “ثوريَّة”، أي لم يكن وضعها كوضع الأحزاب النشطة في الديمقراطيَّات الليبراليَّة. ثوريتها (أعني بالثوريَّة هُنا أنَّها – هذه الأحزاب – أرادت إحداث التغيير على مُختلف الصعد) تمثلت في أنَّها كانت أحزاباً مُسلحة (خاضت كفاحاً مُسلحاً ضد أنظمة شموليَّة)، وشمل نشاطها التعبئة الكاملة للمُجتمع، وكل ما يملك (مُجمل رأسمال المُجتمع الثقافي)، وصارت تُمثل في أوقات الحرب “سلطة عُنفٍ مركزيَّة”، وفي أوقات السلم “سلطة تحكم من الأعلى نحو الأسفل”، وتحتكِرُ الشرعيَّة.
كُلُّ هذا يحدثُ وسط انعدام النظام السياسي، إذ أنَّ النشاط السياسي الكُردي في زمن الحرب، كما وفي زمن السلم أيضاً ليس إلَّا تجسيداً فظاً للحالة الحزبيَّة. ولكن، يجبُ هُنا الانتباه جيداً، وعدم الخلط بين وضع الأحزاب في السياق الكُردي، ووضعها في الديمقراطيَّات الليبراليَّة؛ حيثُ تُعتبر الأحزاب السياسيَّة في هذه الديمقراطيَّات إحدى أهم الأدوات الديمقراطيَّة. وعليه، فإنَّ الحالة الحزبيَّة الكُرديَّة في هذا السياق استثنائيَّة للغايَّة، الأمر الذي يستوجب وإياه تقييماً آخر.
هُنا بدأت السياسة الكُرديَّة تحتكُ بالديمقراطيَّة. لكن، وبتتبع تاريخ النشاط الحزبي الكُردي في القرن العشرين والحادي والعشرين مُجملاً نجد أنَّهُ لم ينجم عن هذا الاحتكاك أي ترسيخٍ لمبادئ الديمقراطيَّة الرئيسيَّة الأربعة: الحريَّة، المُساواة، التضامن والسيادة (سيادة الشعب والمُجتمع في علاقتهما بالسلطة). إذ ظلت هذهِ المبادئ أسيرة الخطاب الرسمي العام، ولم تترك آثراً مُستداماً في المُجتمع. يتضح أنَّ السلطة الحزبيَّة الكُرديَّة اتخذت من الديمقراطيَّة (والتي لا تُمثِلُ نمط حكم في نظام سياسي مُعين وحسب، بل ونمط حياة أيضاً) أداة للتعبِئة، ولشرعنة الاحتكار السياسي، مُستغِلةً بِذلِكَ الحالة الاستثنائيَّة للشعب الكُردي، وحالة الطوارئ التي يعيشها مِنذُ عقودٍ طويلة؛ وحيثُ حرَمَهُ التقسيمُ الاستعماري في القرن العشرين من التحول إلى دولةٍ قوميَّة نموذجيَّة. أي، بالإمكان القول أنَّ الحزبيَّة الكُرديَّة بمقاربتها للديمقراطيَّة لم تسلك طريق تمكين وترسيخ مبادئ الديمقراطيَّة ضمن مجال نشاطها أيَّاً كان هذا النشاط، وإنَّما اكتفت بِأن اتخذت من الديمقراطيَّة موضة، أي أنَّ الديمقراطيَّة الكُرديَّة التي تمت على يد الأحزاب السياسيَّة كانت خاضعة لمنطق الموضة وحسب.
أمّا المُجتمع الكُردي ونظراً لأنَّه تجسيدٌ لحالة المُجتمع العشائري (المُجتمع الكُردي بوصفه مُجتمعاً عشائريَّاً) فلم تكن ردود فِعلهِ إِزاء تعامل وسلوك السياسة الكُرديَّة (المُتمثلة في الأحزاب) سريعة وواعيَّة لحجم الخطر الذي سينجم عنه مُستقبلاً. إذ أنَّ المُجتمع الكُردي اكتفى نظراً لحالته الاستثنائيَّة، ولإدراكه أنَّه دائماً على أعتاب الإبادة الثقافيَّة والجسديَّة بالالتفاف حول هذهِ الأحزاب، وعزز شرعيتها حتَّى بدت بالفعل ديمقراطيَّة، إلى أن حدث انقلابٌ كوبرنيكي، تمثل برأيي في بلوغ هذهِ الأحزاب السلطة. حيثُ لم تعد قضيَّة الشرعيَّة وتجديدها تُشكِلُ هاجِساً لدى هذهِ الأحزاب (حتَّى أنَّ مسألة الشرعيَّة فقدت الاهتمام تماماً، وصارت بديهيَّة: أي أنَّه مِنَ البديهي أنَّ الشعب ما يزال يرى أنَّ هذهِ الأحزاب ما تزال تُمثِلُ مصالحه)، واكتفت بِمُمارسة السلطة واحتكارها؛ والذي يؤكد ذلك هو حالة الصراع الحزبي الكُردي القائمة مِنذُ عقود. إذ أنَّها تُمثِلُ ذروة هذا الصراع: الصراع على السلطة، لا الصراع على الشرعيَّة (الشرعيَّة التي يُعطيها الشعب بوصفه مالِك السيادة) في مناخ ديمقراطي.