بوسعنا أن نطبق على الحلم تقنية يمكن وصفها بأنها الطريقة النظامية لتأويل الأحلام، وتقوم هذه التقنية على غض النظر عن التلاحم الخارجي للحلم الظاهر، وعلى تناول كل جزء من مضمونه على حدة، وعلى طلب اشتقاقه من انطباعات الحالم وذكرياته وتداعياته الحرة.
الهذيان والأحلام في الفن، سيغموند فرويد
) العرض العابر للوسائط كيف انا هون من إخراج مي سعيفان، وذلك ضمن فعالية 100 سنة 100 ساعة التي نُظّمت بمناسبة مرور
وأرشيف الأحلام، الذي جمعته سعيفان منذ عام 2011 لرصد أسئلة الوطن والمنفى وأحلام العودة إلى المنزل. بعد أن عملت الفرقة بين سنوات 2013-2017 على ثلاثية مسرحية تستلهم موضوعاتها من أحلام السوريين-ات، أتى العرض الرابع ليركز على موضوعة المكان وارتباطها بفكرة الوطن في هذه الأحلام، وعلى العلاقة بين أمكنة الماضي وأمكنة الحاضر.
«العمل الفني هو أداء حركي ورقميّ يمكن مشاهدته عبر نظارات الواقع الافتراضيّ، يختبر عبرها المشاهد مجموعة من الغرف الافتراضيّة التي تمثل كل واحدة منها موضوعة الحلم. في كلّ غرفة، يمكن التعرف على عدة أنواع من الأداء الراقص التي تم تسجيلها أمام ’الشاشة الخضراء‘ وجُمعت لاحقاً ضمن مشاهد حركيّة وأحياناً تم توليدها عبر الذكاء الاصطناعيّ». أورد النص التعريفي للعرض. «في هذه التسجيلات، تتنوع حركات الراقصين بين الانسيابية وتلك المشوشة التي تحاكي الخوف وأشكاله المتنوعة، بينما يساعد نظام الأصوات المُصمم خصوصاً للمشاهد على نقل الجمهور إلى غرفة لا فرار منها. في هذه المساحة بإمكان الجمهور التنقل بحرية ضمن الواقع الافتراضيّ، حيث لا مسارات محددة مسبقاً ولا قواعد. التجربة أشبه بدعوة لإعادة امتلاك زمام الحلم الواعي في سعي للسيطرة على أثره العاطفي».
أحلام سورية عن الوطن والمنفى
هذه المدينة ليست في الحلم المدينة الجامعية الألمانية، وإنما بومباي، والزمن ليس هو الزمن الحاضر. هذا ضرب من التحوير عن طريق تغيير المكان.
الهذيان والأحلام في الفن، فرويد
تُبيِّن المخرجة مي سعيفان في لقاء خاص للجمهورية نت أن ما يميز فكرة العرض الحالي، هو التركيز على اختيار الأحلام التي تتضمن فكرة العودة إلى الوطن: «تلك الأحلام التي تبدأ مع عثور الحالم-ة على نفسه في وطنه سوريا، لتنطلق من بعدها أحداث هذه الفئة من الأحلام، التي ينحى بعضها منحىً نوستالجياً في التعامل مع مكان الماضي، وينحى بعضها الآخر إلى رؤية كابوسية تجعل من الوطن كمكان إنغلاق وخوف وخطر». أنشأت المخرجة سعيفان صفحة على فيسبوك لتكون منبراً يكتب فيه السوريون-ات أحلامهم-ن، وبالتالي يمكن للمهتمين-ات الاطلاع عليها، قراءتها والتفاعل معها. ومن هنا، تصنف المخرجة أحلام/كوابيس العودة إلى سوريا في إطار الرؤى الباطنية المرتبطة في تجربة المنفى: «لقد ظهرت هذه الأحلام في الفترة التي بدأ فيها المجتمع السوري يختبر تجربة المنفى التي فرضت أسئلتها، كما حدث في الفنون أو الآداب الأخرى، أي روايات المنفى، فنون المنفى». نسترجع في هذا الإطار مقتطفاً مما كتبه سيغموند فرويد في كتاب الهذيان والأحلام في الفن: «في هذه المساحة حول تقييم الحلم، يقف الشعراء والروائيون على ما يبدو في صف العصور القديمة والخرافة الشعبية ومؤلف علم الأحلام، فهم يجعلون الأبطال الذين أبدعتهم مخيِّلتهم يحلمون، يتقيدون بالتجربة اليومية التي تدل على أن تفكير الناس وانفعاليتهم يستمران في الأحلام».
فقدان القدرة على التواصل
يمكن الانطلاق مع تلك الأحلام التي تعود إلى سوريا، لتعيش تجارب تتنوع ما بين فقدان القدرة على التواصل، وفقدان ذاكرة المكان، وتداخل اللغة بين بلد المنفى والبلد الأصلي. تكتب إحدى المشاركات في توصيف حلمها: «حلمت إني قدَّمت عفيزا سياحية لسوريا، ورحت زرت سوريا وكانو الناس كلون عم يحكو لغة جديدة، وما عم أفهم عليهون، ولا هنن عم يفهمو عليي بالعربي، جعت وعطشت حاولت أطلب بإشارات بس ما فهم عليي صاحب المطعم شو بدي». تختار الفرقة المسرحية لتحقيق عرضها مجموعة من الأحلام التي تستعيد رحلة الهجرة عبر قوارب البحر ومخاطر الرحلة من الموت والفقدان: «أنا بحلم ع طول انو رحت ع سوريا زيارة، وبدي ارجع اطلع بالبلم لوصل ع ألمانيا. كنت شوف ابني عم يغرق ومافيني إنقذو، هادا ماعاد شفتو، كان هالمنام يشلني».
كوابيس الاعتقال، والرقابة الصحية أيضاً!
تتكرر في كثير من الكوابيس السورية مواقف الخوف من الاعتقال: «أبي ضل فترة ما ينام، و يحلم إنو في ناس جايين يعتقلوه مع إنو هو ما كان الو علاقة بالثورة أبداً، صرلي 6 سنين ونص بالنمسا ولحد هاليوم ما بيعدي أسبوع إذا ما بكوبس إني بسوريا والأمن لاحقني». يليه الخوف من الإجبار على أداء الخدمة العسكرية: «خمس سنين بشوف هالمنام العسكري لاحقني بدو ياخدني عالجيش وآني اركض وهو يركض آني اركض وهو يركض. يفضح عرضهن صارو لاقطيني ع لحاجز شي تلاتين مرة». وبعد الرقابة الصحية التي شهدها العالم من آثار انتشار وباء كوفيد-19، أصبحت الرقابة الصحية تحل أحياناً في موضع الرقابة الأمنية: «حالياً صرت أحلم أني نسيان حط الكمامة والكونترول راكضين وراي».
إذا كانت الأحلام المختارة في العرض المسرحي تنطلق من فكرة العودة إلى سوريا، فإن التعرض للإيذاء، القتل، أو الضرر هو الجانب الكابوسي الأكثر خطورة في هذه الفئة الحلمية: «قتلوني مع جماعة من الناس بالرصاص، قتلوني برصاصة جوا أداني لهلأ صوتا… أنا وصلت لمرحلة الإعدام الميداني، والروح عم تطلع، قرايبني مو هاممن و عم يضحكوا و يمزحوا». تأتي في الدرجة الثانية من درجات الخطورة الكابوسية هي الإجبار على القتال وحمل السلاح، والتعرض للجماعات المسلحة: «بنام بفيق بلاقي حالي بسوريا، بشوف حالي عم قوس ع جيش، وبيخلص لرصاص». ثم تحضر في الأحلام الهواجس المعيشية للحياة اليومية: «بالمنام بكون هاجسي الأكبر أولادي، كيف رح يعيشو بظروف سيئة». وتبتكر بعض الأحلام في قدرتها الرمزية في التعبير عن الوحدة والعزلة، مثل الحلم الذي يتم فيه اللقاء لكن من وراء حاجز زجاجي عازل: «بشوف إني محاطة بكل الناس اللي بعرفن بس كأني معزولة عنن بحاجز زجاجي وبحس بوحدة قاتلة وبفيق ولسا شعور الوحدة والعزلة مرافقني، شعور بوحدة صماء مالها أي شبيه وكأني محبوسة بحفرة مظلمة وسارقين مني صوتي وسمعي. هيك درجة العزلة والوحشة اللي بشعر فيها أثناء المنام». ذلك بالإضافة إلى الأحلام التي تحمل الهموم الخاصة بالمهن والمهام المتعلقة بالعمل، والتي تحمل خصوصية كل مهنة، فهنا تروي لنا عازفة موسيقية عن مهمة مُعلَّقة بين النجاح والفشل في سياق مهنتها: «المايسترو قائد الأوركسترا السورية طلب مني أنو عنا حفلة بعد يومين، وطلب مني قطعة كتير صعبة ماني حافظتها، وكان معي مجرد يومين لأحفظا وجهزا وهاد الشي مستحيل».
أمكنة سائلة وشخصيات متحولة
حلم نوربرت حلماً مخيفاً، مقلقاً، انتقل فيه إلى بومباي القديمة، في زمن ثوران بركان الفيزوف، وشهد بأم عينيه تواري المدينة من الوجود. عند استيقاظه كان ما يزال يتراءى له أنه يسمع صراخ سكان بومباي، وهم يستغيثون ويستنجدون، فيما يتعالى من البحر الهائج هدير أصم. لكنه حتى بعد أن استرد وعيه وتعرف في تلك الأصوات الاستيقاظ الصاخب للمدينة الكبيرة، ظل يساوره الإيمان لوهلة من الزمن بواقعية ما حلم به. وحتى بعد أن نفض عنه فكرة أنه شهد بنفسه دمار بومباي.
الهذيان والأحلام في الفن، سيغموند فرويد
تظهر خصوصية المكان في الأحلام، في تعدد أشكال الأمكنة السائلة، التائهة، المتناوبة بين الذاكرة والحاضر. ففي الحلم التالي لا تتداخل المدن وحسب، وإنما أيضاً تتحول الشخصيات أمام ناظريه: «تفاصيل الحلم متل كل أحلامي بتتغير، يعني المكان مرة بكون بيتي بالسلمية مرة بكون بالشام مرة بكون غرفتي بلبنان، وحتى الأشخاص بكون عم أحكي مع رفيقي وفجأة بيتحول لابن عمتي أو لأي شخص تاني». ويتشكل المكان السائل في الأحلام أيضاً في الأماكن التي يطلق عليها الفيلسوف مارك أوجيه اللاأمكنة في حياتنا المعاصرة، أو الأماكن العابرة، وهي الحواجز الحدودية، كالمطارات والسكك الحديدية: «أنا دائما بشوف منام بعلق فيه عالحدود، أو ماعاد اعرف إيمتى الطيارة وكيف رح أرجع، أو بكون بمطار مو معروف الأوقات ولا الرحلات، أو بكون بلدان وطرقات ومابعرف لوين روح، بمشي جبال ووديان ومابعرف لوين». إن نص الحلم التالي نموذجي في التعبير عن كوابيس المكان السائل المفقود المتوافرة في أحلام المنفى. فالحالمة في مدينة دمشق، تسعى للوصول إلى مكان تعرفه، لكن وسائل النقل تتغير، يتغير المكان، تتغير تفاصيل الطريق، ليتحول المكان المنشود القريب من الغاية إلى مكان سائل تائه لا يمكن الوصول إليه من قبل الحالمة: «أنا بالشام بس مو نفسها يللي بعرفها، بكون أنا بسوريا وبدي ارجع ع البيت، بركب مكرو، أو سيارة أو باص، مرة شاحنة نقل، وبعرف البيت وين، بس ما بوصل، يا أما بوصل للمنطقة بس ما بستدل ع البيت، يا أما الطريق بينقطع، مرة بسبب قصف، يا أما المصاري يللي معي ما بيكفو يوصلوني، يا أما منوقف ع حاجز وما بيخلونا نكمل. مرة بكون آخدة مكرو وما منوصل. مرة بكون راكبة تكسي وبوصل لجنب البيت بس بضيع البيت نفسه. وكتير مرات بفيق قبل ما أوصل للمكان اللي بحبو، و بفيق زعلانة كتير إنو يا ريت كنت نمت شوي أكتر لأوصل للمحل اللي بحبو وشوفو ولو لكم ثانية».
يمكن أن تتميز أحلام وكوابيس المنفى في علاقتها مع المكان، أيضاً بالمكان المتداخل بين مكانين، المدينة المكونة من مدينتين متداخلتين، في الغالب هما مدينة الأصل ومدينة اللجوء، في حلم الشاب المعماري تتداخل عمارات الشام وأبنية باريس في الحلم، فهو يحلم بأنه يركض في شوارع باريس هرباً من الأمن السوري، تختلط عمارات الشام بأبنية باريس، يظهر له طفل يهمس له بأن الريح ستساعده على الطيران، ويستمر الحالم بركضته إلى أن يصل فعلاً إلى حالة الطيران، متأملاً المدينة دمشق من أعلى مما يذكر من على جبل قاسيون. يمكن أن نميز الحلم التالي بخصوصيته البصرية في التعبير عن المكان الجحيمي، تظهر الكرة الأرضية كاملة في رؤية الحالمة، ثم يتشكل مكان من خلال العناصر والألوان التي تتكاثف جمالياً، لكنه ما يلبث أن يتحول مستنقعاً حيث يلعب الأطفال بالجثث: «أنا ماشية عالكرة الأرضية، اللي صارت صغيرة، وكلها تقريباً فاضية، ووحل ونباتات مائية معفنة ومستنقعات. بوصل عمحل هو كأنو سوريا أو حواليها، كمان امتداد كبير من اللون الصحراوي مع مستنقعات ووحل وألوان بين الأخضر المعفن للبني للأسود، وفي شوية بني فاتح اللي هو لون تراب ورمل الصحرا. الولاد عم يلعبو بالمستنقع، وفي هي النباتات الشوي عالية تبع المستنقعات، وبيجو الولاد بعدين من ورا كوشة النباتات وجارين معاهون جثة طايفة عم يلعبو فيها، ولسا في جثث تانية بالمنطقة».
مستويات العرض الفني الأربعة
من هذه الأحلام المذكورة آنفاً يستلهم صناع العمل المسرحي عرضهم الفني متعدد الوسائط مبتكراً عالماً تعبيرياً متشكلاً من تعدد الفنون وتعدد العناصر التي يمكن التوقف من بينها عند أربع مستويات: الحضور البشري والفضاء المكاني مع التشكيلات البصرية والشريط الصوتي-الموسيقي والأداء الكوريغرافي.
في المستوى الأول يعكس الحضور البشري الإنساني مضامين حضور الجسد الإنساني في الأحلام المختارة، فتحضر الجثة والجسد المتألم والجسد الغريق والجسد المصاب، وتبدو كلها تجارب كامنة تعود إلى ذاكرة الحرب أو القلق من استعادتها، يظهر أيضاً الحضور الإنساني مرتدياً قناعاً واقياً من الأسلحة الكيميائية، تظهر أيضاً جموع بشرية ترتصف في صفوف طويلة قرب البحر وكأنها صورة رمزية لقوافل الهجرة السورية هرباً من الحرب عبر الحرب، وتحضر أيضاً الخيم كمكان، خيم في مناطق وعرة، خيم بين الأكوان والمجرات، كذلك يظهر الجسد النسائي كموضوعة أساسية في الأحلام تحاول التعبير عن قلقها ومخاوفها، وبعض أشكال القمع الممارس عليها، وكذلك يظهر الجسد العاشق في حالة التواصل الجنسي أو القبلة، والجسد في حالة الصراع، وغيرها من تنويعات العلاقة بين جسدين، ويظهر الرحم النسائي في عدة مشاهد.
يتشكل الفضاء المكاني والعناصر البصرية في المستوى الثاني من العرض المسرحي، مكوناً من عناصر بناء مذكورة في الأحلام، فيحضر بشكل أساسي عالم مائي ممتد على كامل مساحة الفضاء المكاني، ثم تسود القناطر العمرانية التي تميز العمارة الدمشقية، وتحضر الأبنية المهدمة، المدمرة، الآيلة للسقوط، كما تتداخل في أحد مشاهد الشريط الفني عمارات الشام بأبنية باريس. وهناك المكان الذي يخلق من مكان جديد، الكاميرا تغوص في البحر، تكتشف عالم من الأزرق الداكن، تحوم الكاميرا حول مجسمات حديدية غير مفهومة الوظيفة أو الماهية.
في المستوى الثالث يتشكل الشريط الصوتي في الفيلم الفني من ثلاثة أصوات أساسية: العصافير والمياه والأسلحة الحربية، ويظهر بشكل أساسي في فترة من فترات الفيلم صوت مستمر من التنفس الإنساني المستمر والمتكرر، أنفاس متواصلة، صوت أمواج، موسيقى ذبذبات إلكترونية، أصوات مواويل، غناء نسائي، تلقيم رصاص، غناء موال ينتهي به الشريط الصوتي لأغنية الفنان (وديع الصافي) بعنوان (كيفون حبايبنا؟) التي تحمل شحنة عالية من التوستالجيا والحنين إلى أحباء وعلاقات الماضي.
المستوى الرابع: تظهر الأداءات الراقصة والحركية مستلهمة من الحالات الشعورية والذهنية التي تعبر عنها الأحلام المختارة، فتتعدد أنواع الرقص الظاهرة في الشريط البصري، منها رقص الباليه والرقص الشرقي، والتشكيلات أدائية بين رجل وامرأة، سادومازوشية، حركيات الشهوانية، صولو راقص على موسيقى، وضعيات إيروتيكية، قبلات عشقية،، نزاع وقبلة، التمنع والتقارب في الحركة ذاتها. وتظهر حركات جسد نسائي متعدد الأعمار، يتنوع بين اليقظة، اللعب، الانحباس إلى حبل، هلوسات حول جسد المرأة، التبادل المقلق بين الروح والجسد. وتتم المشاهد الحركية والراقصة بمجملها في مساحات أو غرف مغلقة وضيقة.