تدور في وسائل الإعلام تكهنات حول صفقة سياسية محتملة بين إيران والإدارة الأمريكية، تخرج بها طهران بمرابح وفيرة كان ثمنها دم الفلسطينيين الذي لم يتوقف نزيفه بعد. والحال أن «زلة لسان» إيرانية مبكرة حدثت حين اقترح الإيرانيون نقل الرهائن الذين اختطفتهم حركة حماس ومنظمات فلسطينية أخرى في غزة صباح السابع من تشرين الأول، إلى إيران. ثم تم طي هذا الاقتراح «على السكت» حين اتضح أن المفاوضات جارية بشأن الرهائن في الدوحة. لكن طهران حجزت، على كل حال، مقعداً لها على طاولات التفاوض القادمة بعد الحرب، حين بدأت واشنطن تحذّرها منذ اليوم الأول من توسيع إطار الحرب، وأرسلت حاملات طائراتها إلى شرق المتوسط لهذه الغاية، ثم أكدت مراراً وتكراراً أن المعلومات التي لديها تشير إلى «عدم تورط طهران» في الهجوم الذي أطلقت عليه حماس اسم طوفان الأقصى. وكان حضورها في قمة الرياض «بديهياً» في هذا السياق، باعتبار القمة أول اجتماع إقليمي كبير مخصصا للتباحث حول الحرب الجارية، قبل كون طهران عضواً في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو ما يستدعي مشاركتها البديهية بالمعنى الشكلي.
هذه المؤشرات تسابق التحول الإيجابي في الرأي العام الغربي متمثلاً بالمظاهرات الضخمة في أهم العواصم التي ساندت حكوماتها إسرائيل في حربها الوحشية على سكان غزة، وبداية ظهور تأثير ذلك على تصريحات تلك الحكومات. بمعنى أن الوقت الذي منح لحكومة نتنياهو لتحقيق هدفها المعلن، القضاء على حركة حماس بأي ثمن، بدأ يضيق بصورة جدية، مما سيدفع الأمور نحو تنشيط المبادرات الدبلوماسية لوضع تصور عن التسوية المرحلية التي ستلي وقف إطلاق النار. وهكذا سيكون المحور الذي تقوده طهران في وضع يتيح لها استثمار الدم الفلسطيني لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، في لبنان وسوريا واليمن وفي مواجهة واشنطن بالذات.
يمكن القول إن إيران، ورأس حربتها حزب الله، قد اتبعا سياسة «حافة الهاوية» التي اشتهر بها الديكتاتور السوري الراحل حافظ الأسد طوال فترة حكمه، سواء إزاء إسرائيل أو الولايات المتحدة أو دول عربية وإقليمية كالسعودية وتركيا، مستخدماً «منصته» اللبنانية في أغلب الحالات. هذه السياسة تجلت في الرشقات المحسوبة بدقة التي أطلقها حزب الله في اتجاه مزارع شبعا، كما في الهجمات المتفرقة على القواعد العسكرية الأمريكية في شمال شرق سوريا، وفي صواريخ جماعة الحوثي التي واظبت على عدم إصابة أهدافها في إسرائيل.
الخاسرون من هذه الحرب، هم طبعاً الشعب الفلسطيني أولاً الذي سيرغم على القبول بتسوية ظالمة جديدة لن تنهي مأساته التي عمرها من عمر قيام الكيان الإسرائيلي
صحيح أن هذه السياسة قد أربكت إيران، وبخاصة ذراعه اللبنانية، أمام الرأي العام «الممانع» ومن المحتمل أن تؤدي إلى انحسار شعبية المحور، لكن عين طهران على واشنطن وما يمكن أن تقدمه لها من مكاسب لمحافظتها على حسن سلوكها بعدم الانخراط في الحرب. وأول تلك المكاسب هو المحافظة على حزب الله وقوته الوازنة في لبنان وسوريا، كما المحافظة على إيران ذاتها من الاستهداف الأمريكي أو التضييق عليها وعلى نفوذها الإقليمي. هذا أيضاً يذكرنا بلسان حال نظام البعث في سوريا بعد هزيمته في حرب حزيران 1967 حين قال إن إسرائيل فشلت في تحقيق هدفها المتمثل بإسقاط «النظام التقدمي» في دمشق! واليوم تراهن طهران على فشل إسرائيل في القضاء التام على حركة حماس و«عدم تجرئها» (!) على مهاجمة حزب الله في لبنان، وفقاً للبلاغة المتوقعة من طهران وأدواتها بعد نهاية الحرب. ستكون مماحكات محتملة من هذا النوع أضعف تأثيراً في الناس بعد كل الدماء التي سالت. ولكن من الذي سيكترث برأي الناس في الواقع الجديد الذي سيكون كالحاً، أما إيران فمهتمة أكثر بالصفقات المحتملة القادمة مع الأمريكيين وحلفائهم من اهتمامها بدماء غزة أو انخفاض شعبيتها لدى الرأي العام الممانع.
أما الخاسرون من هذه الحرب، فهم طبعاً الشعب الفلسطيني أولاً الذي سيرغم على القبول بتسوية ظالمة جديدة لن تنهي مأساته التي عمرها من عمر قيام الكيان الإسرائيلي. وسيكون هناك خاسرون آخرون أيضاً كالحكومة الإسرائيلية ورئيسها نتنياهو، مع أجهزة استخباراته وقيادة جيشه الذين أظهروا فشلاً ذريعاً يوم السابع من تشرين الأول وفي تحرير الرهائن بلا مفاوضات كما وعد نتنياهو.
وعلى الجانب الفلسطيني ستخسر حماس لأنها ستعتبر مسؤولة عن استجلاب ردة الفعل الوحشية من إسرائيل، إضافة إلى أنها باتت هدفاً للتحالف الغربي بكامله من وراء إسرائيل، فمن غير المتوقع أن يبقى لها أي وجود أو نشاط علني في إطار أي تسوية محتملة. وخسرت السلطة الفلسطينية أيضاً بوصفها مجرد «خسارة جانبية» لهذه الحرب.
لا يمكن توقع فحوى التسوية التي من المحتمل أن تلي الحرب، على رغم وضوح خسارة اللاعبين المذكورين، ولكن لا بد من تحويل هذه الخسائر إلى فرصة ممكنة هي العودة إلى وضع مشروع حل الدولتين على طاولة المجتمع الدولي، بصرف النظر عمن سيخلف حكومة نتنياهو أو حركة حماس أو سلطة محمود عباس.
كاتب سوري