Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • داخل آلة الترحيل التركية الممولة أوروبياً…مسعود طاطوز، ميلفن إنغلبي، ماي بولمان، إيلينيا غوستولي.المصدر:الجمهورية .نت
  • مقالات رأي

داخل آلة الترحيل التركية الممولة أوروبياً…مسعود طاطوز، ميلفن إنغلبي، ماي بولمان، إيلينيا غوستولي.المصدر:الجمهورية .نت

khalil المحرر أكتوبر 14, 2024

 

يتذكر داوود نظرات الاشمئزاز في عيون حراس الأمن الأتراك في مركز الترحيل الذي احتُجز فيه العام الماضي. «شعرتُ وكأن الإنسانية ماتت»، قال الرجل السوري الثلاثيني، ونذكره باسم مستعار لحمايته. «كانوا يصرخون باستمرار: أنتم كالحيوانات! سئمنا منكم. إذا كنتم رجالاً، عودوا إلى سوريا وقاتلوا!».

كانت الإهانة شديدة على داوود. في سوريا، تطوّع للعمل كمُنقذ في الدفاع المدني السوري، المعروف أيضاً بـ«الخوذ البيض». لمدة خمس سنوات، كان داوود يندفع نحو المباني المحترقة التي قصفتها قوات الأسد وروسيا، مُعرِّضاً حياته للخطر لإنقاذ الآخرين، قبل أن يغادر محافظة إدلب السورية في عام 2022 ويستقر في اسطنبول دون أوراق قانونية.

يقول داوود في مطعم سوري يختبئ فيه: «حاولتُ شرح ما عاناه السوريون للحراس. لكنهم قالوا: «لا نهتم، إذا كنت ستموت، فاذهب ومُت في سوريا».

انتهى المطاف بداوود في مركز ترحيلٍ بالقرب من مدينة غازي عنتاب التركية، بعد أن قُبض عليه وهو يحاول عبور الحدود البلغارية بطريقة غير قانونية في أيلول (سبتمبر) 2023. وعندما وصل إلى المركز الواقع بالقرب من الحدود السورية في حافلة مليئة بالسوريين الآخرين، رأى داوود مبنى ضخماً من خمسة طوابق، محاطاً بأسوار عالية تعلوها أسلاك شائكة. وعند المدخل عُلِّقت لافتة باهتة كُتب عليها: «شارك الاتحاد الأوروبي بتمويل هذا المشروع».

فور وصوله، صُودر هاتف داوود وطُلب منه الوقوف في طابور أمام إحدى الغرف. وبينما كان ينتظر، فُتح باب الغرفة وخرج شرطيان بملابس مدنية يجرّان رجلاً سورياً كان يقف أمام داوود. «أمسكوه من رقبته و دفعوه لغرفة تغيير ملابس الحراس، لا توجد كاميرات في تلك الغرفة».

استُدعيَ داوود بعد ذلك. داخل الغرفة، تجلس امرأة في الثلاثينيات من عمرها بشعر أشقر مصبوغ خلف كمبيوتر. طلبت منه توقيع استمارة، وقالت إنها مجرد أوراق عادية لاسترداد ممتلكاته المصادرة لاحقاً. نظر داوود إلى الاستمارة ولاحظ عبارة «العودة الطوعية إلى سوريا».

«أخبرتُها أنني أريد محامياً، لكنها أجابتني: ليس عندي وقت لهذه الأمور، الكثير ينتظرون في الطابور، عندما أصررت، بدأت بتهديدي: «هل تريدني أن أستدعي الشرطة مرة أخرى؟».

آلة الترحيل التركية والتمويل الأوروبي
ما حدث مع داوود ليس حادثة فردية، بل إنه الوجه المظلم لمحاولة تركيا الحدَّ من مرور اللاجئين والمهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي، عبر إجراءات مليئة بانتهاكات حقوق الإنسان وانعدام الرقابة.

منذ حزيران (يونيو) 2023، تقول أنقرة إن السلطات رحّلت 180000 «مهاجر غير شرعي»، كما تشير إلى عودة 160000 سوري «طواعية» إلى بلادهم. وشهدت تركيا أيضاً هجمات عنصرية في تموز (يوليو) الماضي، عندما أضرم الآلاف من العنصريين النار في منازل ومتاجر السوريين، ما أسفر عن مقتل فتى سوري يبلغ من العمر 17 عاماً. وقد أدت هذه الهجمات، بالإضافة لحملة الترحيل التي تشنها الحكومة التركية، إلى تَحوُّل تركيا من بلد يُشاد به لاستضافته أكبر عدد من اللاجئين في العالم، إلى مكانٍ يختبئ فيه هؤلاء اللاجئون داخل منازلهم خوفاً من اعتقالهم من الشوارع واحتجازهم وترحيلهم قسراً.

يتحمل الاتحاد الأوروبي مسؤولية هذه الحملة من جوانب عديدة، إذ مارست بروكسل ضغوطاً على المجتمع التركي من خلال إبرام صفقات مع أنقرة لإبقاء ملايين اللاجئين داخل تركيا، ومَوَّلت أيضاً نظام اعتقال وترحيل المهاجرين واللاجئين، حسبما كشفه تحقيقنا. فمن خلال مراجعة مئات الصفحات من الوثائق الداخلية للاتحاد الأوروبي، حصلنا عليها من خلال طلبات حرية المعلومات العام الماضي، حسبنا أن الاتحاد الأوروبي التزم بمبلغ 213 مليون يورو لتمويل 12 مشروعاً مختلفاً متعلقاً بمراكز الترحيل، كما تمكّنا من توثيق ما مُوِّلَ بالتفصيل. وعلى الرغم من العثور على أدلة واضحة تفيد بأن الاتحاد الأوروبي على علمٍ بالتقارير التي تشير إلى حدوث انتهاكات داخل المراكز التي يمولها، استمرّ التمويل بلا توقف، وتناقش بروكسل حالياً تمديداً جديداً.

تَحدّثنا مع حوالي 40 شخصاً كانوا (ولا يزال بعضهم) محتجزين في مراكز الترحيل. ومن خلال مطابقة شهاداتهم الفردية مع الأدلة المرئية والوثائق الداخلية للاتحاد الأوروبي وتقارير المنظمات غير الحكومية، كشفنا عن الظروف في مراكز الترحيل بالتفصيل، ووجدنا أدلة دامغة على الاكتظاظ والاتساخ والضرب والإساءات العنصرية ومحاولات الانتحار، كما تَوثَّقنا من وقوع وفيات في المراكز. غطى التحقيق تجارب السوريين والأفغان، وهما المجموعتان الرئيسيتان من اللاجئين في تركيا.

وفي ردٍّ على أسئلتنا، تؤكد أنقرة التزامها بمبدأ عدم الإعادة القسرية المنصوص عليه في كل من القانون التركي والدولي، وأن هذا المبدأ ينطبق على سوريا. وتقول أنقرة أيضاً إن جميع العائدين إلى سوريا «يعودون طوعاً، بأمان وكرامة». لكن تحقيقنا وجد أدلة دامغة على عكس ذلك، ليس فقط في شهادات السوريين المُرحَّلين ومحاميهم، بل أيضاً في أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الدستورية التركية، وحتى اعترافات مسؤولين أتراك حاليين وسابقين. أحد هؤلاء المسؤولين، وهو مستشار للرئيس أردوغان حتى العام الماضي، قال إن «الحكومة تُرحلهم، حتى لو رفضوا».

«بمجرد نزولهم إلى الشارع نقبضُ عليهم»
عملت آلة الترحيل في أنقرة بكامل طاقتها لسنوات، ولكنها زادت نشاطها بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 2023. خلال الانتخابات، كان الرئيس أردوغان على وشك خسارة السلطة، وتعرَّضَ لانتقادات مستمرة بسبب «موقفه المتساهل» تجاه الهجرة. وقد أبرزَ أكبرُ أحزاب المعارضة، حزب الشعب الجمهوري، هذا الموضوع منذ العام 2018، وفي الانتخابات الرئاسية تحالَف «الشعب الجمهوري» مع حزب «النصر»، وهو حزب صغير من اليمين المتطرف يدعو للترحيل الجماعي لما يُفترض أنهم «13 مليون سوري» في البلاد (يوجد في الواقع أكثر من 3 ملايين سوري قانونياً، ومئات الآلاف غير المسجلين في تركيا عداهم، فقط). وكانت النتيجة حملة مليئة بالخطاب العنصري، إذ وصف زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، اللاجئين بأنهم «فيضان يتسرب إلى عروقنا كل يوم […] وسيُهدد وجودنا يوماً ما».

ورغم انتقاد الرئيس أردوغان نبرة المعارضة إلا أنه تبنى رسالتها، ووعدَ بـ«ضمان عودة» مليون سوري. وعندما أُعيد انتخابه، تقول عدة مصادر في أنقرة إن تعليماته لوزارة الداخلية واضحة: السيطرة على الحدود، القضاء على الهجرة غير النظامية، وتقليل عدد السوريين. «هُمِّشت جهود الاندماج»، حسبما قالت إحدى المصادر المطّلعة على سياسات «إدارة الهجرة». فـ«التركيز الكامل الآن هو على ترحيل أكبر عدد ممكن».

لتحقيق هذا الهدف، أطلقت إدارة الهجرة مشروعاً جديداً في تموز (يوليو) 2023: ما يُعرف بـ«مركبات الهجرة المُتنقلة». شاحنات حمراء وبيضاء (يوجد حالياً 270 منها، وفقاً لوزير الداخلية) تجوب شوارع تركيا أو تنتظر خارج محطات الحافلات والمترو، باحثةً عن «المهاجرين غير الشرعيين». «عندما تنزل مركباتنا للشارع لن يستطيعوا الخروج»، يتفاخر وزير الداخلية، علي يرليكايا، في مقابلة مع قناة Habertürk التركية في آب (أغسطس) من هذا العام. وأضاف بسرعة: «بالطبع، لا أقصد المهاجرين الشرعيين المسجلين. أما بالنسبة للآخرين: بمجرد خروجهم، نقبضُ عليهم»

بالنسبة للّاجئين الأفغان في تركيا، يصعب الحصول على الحماية الدولية على الرغم من وصول حركة طالبان للحكم في أفغانستان عام 2021، حسبما قال عدد من الدبلوماسيين والمحامين. في حين أن السوريين مؤهلون للحصول على «الحماية المؤقتة»، وهو تصنيفٌ أُنشئ لهم في العام 2013، لكن «الحماية المؤقتة» تسمح للسوريين بالإقامة في ولاية معينة، ولا يُسمَح لهم بالتقدم على الحماية المؤقتة في اسطنبول وأنقرة وأربعة عشر ولاية أخرى منذ العام 2022. ويخضع حتى الأشخاص الحاصلون على هذه الصفة قانونية – بطاقة الهوية المرغوبة المعروفة باسم «كيمليك» – لمجموعة من القيود التي تحدُّ من وصولهم لسوق العمل وحرية التنقل، مثل شرط الحصول على «إذن سفر» قبل الانتقال من ولاية لأخرى.

يروي إبراهيم، وهو طالب جامعي شاب، معاناته حين اقتيد إلى إحدى «مركبات الهجرة المُتنقلة» في محطة الحافلات في غازي عنتاب هذا الصيف، ولم يتمكن من إبراز إذن السفر. يقول إبراهيم خلال مكالمة هاتفية مع شقيقته حضرها فريق التحقيق: «قلت للرجل إنني طالب وجئتُ إلى غازي عنتاب لزيارة شقيقتي المقيمة هناك، لكن الرجل أجابني: إننا لا نهتم. اتبعني».

في اليوم نفسه، قال إبراهيم إنه نُقل إلى مخيم بالقرب من بلدة إلبيلي على الحدود السورية. قال الطالب من داخل المخيم «كل ساعتين تأتي حافلة وتأخذ الناس لسوريا، يضربوننا (الحراس) ويطلبون منا التوقيع على ورقة تقول إننا نريد العودة إلى سوريا. حتى أنهم وضعوني في غرفة بدون ماء وقالوا للحارس: يمكنه شرب الماء إذا قبل العودة لسوريا».

سيارة مُموّلة من الاتحاد الأوروبي مستخدمة للتحقق من الهويات (لايتهاوس ريبورتس).
وفي ردِّها على أسئلة التحقيق المشترك، قالت إدارة الهجرة إن مركبات الهجرة المُتنقلة يديرها خبير هجرة ومترجم فوري، وإن الإدارة ة تقوم «بمكافحة الهجرة غير النظامية وفقاً لقيمها الحضارية وحقوق الإنسان والقانون».

وفقاً لثلاثة مصادر في أنقرة، تلقّت «مركبات الهجرة المُتنقلة» تمويلاً من المملكة المتحدة. أعطينا كلاً من السفارة البريطانية في أنقرة ووزارة الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية في لندن الفرصة لنفي هذا الادعاء، لكنهم رفضوا الرد.

من ناحية أخرى، استثمر الاتحاد الأوروبي في التكنولوجيا المستخدمة داخل هذه المركبات. فحسبما يُظهر مستند داخلي للاتحاد الأوروبي من عام 2020، قدَّمَ الاتحاد حوالي 800 جهاز مسح بصمات و10 ملايين يورو لتحسين قاعدة بيانات رقمية تسمى GocNet (شبكة الهجرة)، وهي قاعدة البيانات نفسها التي تقول إدارة الهجرة على موقعها الإلكتروني إنها تُستخدم لإجراء فحوص الهوية داخل الشاحنات. علاوة على ذلك، تُستخدم أنواع مختلفة من المركبات التي تحمل شعارات الاتحاد الأوروبي أثناء الاعتقالات. ففي إحدى الساحات المركزية في اسطنبول، على سبيل المثال، رصدنا شاحنة تحمل شعار الاتحاد الأوروبي تُستخدم للتحقق من هويات الأشخاص الموقوفين من قبل فرق الهجرة المُتنقلة. وكان الباب الخلفي لتلك الشاحنة يحمل لافتة عليها علم الاتحاد الأوروبي والعلم التركي، ومرة أخرى العبارة المألوفة: «هذا المشروع مُموَّل من الاتحاد الأوروبي».

بالنسبة لحكومة الرئيس أردوغان، يظهر هذا المشروع وكأنه هدية سياسية. ففي كل شهر تقريباً، يُدعى وزير الداخلية علي يرليكايا من قبل القنوات التلفزيونية الموالية للحكومة للتفاخُر بإنجازاته في «السيطرة» على الهجرة. «دعوني أقدم لكم بعض الأخبار السارة!»، يقول يرليكايا في مقابلة مع قناة AHaber في أيلول (سبتمبر) الماضي خلال تجوله في الاستوديو وخلفه إحصاءات الترحيل معروضةً على الشاشة الكبيرة خلفه. وأضاف الوزير أنه منذ شهر حزيران (يونيو) من العام الماضي، قامت مركبات الهجرة المُتنقلة بإجراء أكثر من 1.5 مليون عملية فحص للهوية، وتوقيف حوالي 190000 «مهاجر غير شرعي». وفي الفترة نفسها، رُحِّل 180000 مهاجر، بينما عاد حوالي 160000 سوري «طواعية» إلى سوريا. وصرح يرليكايا قائلاً: «نحن البلد الوحيد في العالم الذي ينجح بهذه الطريقة، قمنا هذا العام بأكبر حملة ترحيل على الإطلاق»، وهو يتلقى مديحاً مسهباً من مُقدِّم البرنامج.

أسلاك أوروبا الشائكة
بعد القبض على المهاجرين واللاجئين، ينتقل المحتجزون إلى المرحلة الثانية من العملية: الاحتجاز في مراكز الترحيل، إذ يوجد 32 مركزاً في مختلف أنحاء تركيا، بسعة 20 ألف شخص تقريباً.

بدأ الاتحاد الأوروبي بتخصيص تمويل للمراكز منذ العام 2007، وبدأت عمليات البناء في العام 2012 وفقاً لصور الأقمار الاصطناعية. كان مركز غازي عنتاب، حيث احتُجز داوود، من بين أول المراكز التي بُنيت. كما كان واحداً من ستة منشآت كانت «مراكزَ استقبال» لطالبي اللجوء، حسبما كتبت المفوضية الأوروبية في رسالة عام 2022 إلى منظمة Human Rights Watch.

وبناءً على طلب الحكومة التركية في عام 2015، تحولت «مراكز الاستقبال» إلى «مراكز ترحيل» بالاتفاق مع المفوضية الأوروبية. وأشارت المفوضية إلى أن «تكلفة هذا التحويل مُوِّلت من الحكومة التركية».

لكن الحكومة التركية لم تدفع كل تكاليف التحويل، إدارة الهجرة التركية دفعت قيمة «القضبان الحديدية لجميع النوافذ وتغيير الأبواب الخشبية لأبواب فولاذية»، ولكن بقيت قضية الأمن في المراكز المُحوَّلة مشكلة وفقاً لتقرير نهائي عن مشروع تابع للاتحاد الأوروبي نُفّذ بين 2016 و2019.

لذلك، وافق الاتحاد الأوروبي على دفع ما لا يقل عن 1.4 مليون يورو لـ«زيادة ارتفاع الجدران الخارجية» في المراكز المُحوَّلة، مع تركيب «أسياج أمنية بارتفاع 4.5 متر مع أسلاك شائكة»، وهي الأسلاك الشائكة نفسها التي قال داوود إنه كان ينظر إليها من نافذته وراء القضبان. ونتيجة لهذا الاستثمار من أموال دافعي الضرائب الأوروبيين، أشار التقرير إلى أن «نسبة الهروب انخفضت بشكل كبير».
وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية في ردِّه على أسئلة التحقيق المشترك إن الاستثمارات المذكورة هنا «تشير إلى أنظمة الأمن الاعتيادية في مراكز الترحيل»، وأضاف «بشكل عام، ساهمت تمويلات الاتحاد الأوروبي لمراكز الترحيل بشكل كبير في جهود السلطات التركية لتحسين الظروف المعيشية والمادية في المراكز».

وثائق داخلية للاتحاد الأوروبي (لايتهاوس ريبورتس).
هذا المشروع بالتحديد، البالغة قيمته الإجمالية 60 مليون يورو، هو مجرد واحد من بين خمسة عشر مشروعاً للاتحاد الأوروبي يتعلق بمراكز الترحيل في تركيا وجدناها في الوثائق الداخلية والعامة للاتحاد الأوروبي. وحسب جردنا نجد أن إجمالي تمويل الاتحاد الأوروبي المخصص لمشاريع تتعلق بمراكز الترحيل يصل إلى 213 مليون يورو. وردَّاً على استفساراتنا، تدّعي المفوضية أن إجمالي تمويل الاتحاد الأوروبي للمراكز يقف عند أقل من 200 مليون يورو، ولكنها لم تقدم تفصيلاً دقيقاً للمشاريع الفردية التي أُنفقت عليها هذه الأموال.

لم يكن الاتحاد الأوروبي شفّافاً حول تفاصيل تمويله خلال هذا التحقيق. على سبيل المثال، أشار أحد المتحدثين باسم المفوضية إلى أن الاتحاد موَّلَ بناء 14 مركزاً وتجديد 11 مركزاً آخر. لكننا وجدنا في الوثائق الداخلية دليلاً على أن الاتحاد الأوروبي موّل أيضاً توسيع الجدران أو تعيين موظفين في 9 مراكز أخرى لم يذكرها المتحدث (يبلغ مجموع هذا العدد أكثر من 32 مركزاً حالياً، بسبب إغلاق بعضها مع مرور الوقت).

جاء كل تمويل الاتحاد الأوروبي للمراكز من برنامج «المساعدة قبل الانضمام» (IPA). هذه الأموال مخصصة لمساعدة الدول المرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي، مثل تركيا، لتنفيذ إصلاحات مطلوبة للانضمام. عملياً، توقفت مفاوضات الانضمام بين بروكسل وأنقرة منذ عام 2016، وعلّقَ الاتحاد الأوروبي أغلب المساعدات بسبب السياسات السلطوية للرئيس أردوغان، لكن دعم IPA في مجال الهجرة استمر دون توقف.

اتضحت أهمية أنقرة كشريك للاتحاد الأوروبي في التعامل مع الهجرة في آذار (مارس) 2016، عندما وقعت بروكسل وأنقرة ما يسمى باتفاق «الاتحاد الأوروبي – تركيا». كان جوهر الاتفاق بين تركيا وأوروبا عام 2016 أن تتولى أنقرة إبقاء «المهاجرين غير الشرعيين» الذين يحاولون العبور إلى الجزر اليونانية على أراضيها، وذلك مقابل حزمة مساعدات بقيمة 6 مليارات يورو لمساعدة تركيا في استضافة اللاجئين السوريين. وأضيفت حزمة ثالثة بقيمة 3 مليارات في العام 2021.

على الرغم من أن الغالبية العظمى من هذه الأموال ذهبت إلى الدعم النقدي والرعاية الصحية والتعليم للاجئين السوريين، إلا أن بعض الأموال المخصصة في إطار اتفاقية الاتحاد الأوروبي وتركيا مَوَّلت أيضاً مراكز الترحيل، بما في ذلك مشروع بقيمة 60 مليون يورو لدفع ثمن الأسلاك الشائكة التي نظر إليها داوود.

يجدر ذكر أن التمويل الأوروبي دعمَ مشاريع لتحسين ظروف المعيشة في المراكز، إذ دفع الاتحاد الأوروبي ثمن مستلزمات النظافة والبطانيات والوسائد، وحتى الآلات الموسيقية. ومع ذلك، أشار العديد من المحتجزين الذين تحدثنا معهم إلى أنهم لم يستفيدوا من هذه المساعدات. يقول غاني، وهو رجل أفغاني عمل مترجماً للجيش البريطاني واضطر للفرار من طالبان، عن وقته في مركز الترحيل في كيركلاريلي: «عندما دخلنا المخيم، اضطررنا للتوقيع على ورقة تقول إننا سنحصل على شامبو وصابون وبطانية ووسادة، لكننا لم نحصل على أي منها».

ورغم أن وزير الداخلية علي يرليكايا قال في مقابلته في آب (أغسطس) على قناة Habertürk إن أي شخص يمكنه زيارة مراكز الترحيل «في أي وقت»، إلا أن العديد من الدبلوماسيين أشاروا إلى أنهم لا يتمتعون بمثل هذه الحرية، ما عدا الزيارات المرتبة مسبقاً التي وصفها أحدهم بأنها «جولات دعائية». كما تعاني مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) والمنظمة الدولية للهجرة (IOM) من محدودية الوصول إلى المراكز، حسبما أشار دبلوماسي آخر.

كتب متحدث باسم المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي يقوم بزيارات «فحص منتظمة» إلى مراكز الترحيل لمتابعة كيفية إنفاق أموال الاتحاد. ومع ذلك، رفضت المفوضية طلب حرية المعلومات الذي قدمناه للحصول على هذه التقارير، قائلة إن الوثائق تحتوي على «انتقادات» تضر بالعلاقات الثنائية بين المفوضية الأوروبية وتركيا إذا شاركتها مع طرف ثالث.

«أسوأ من السجن»
الوضع في مراكز الترحيل المُموَّلة أوروبياً «سيء»، مع اختلاف الظروف من مركز لآخر. وهناك تقارير تفيد بأن الظروف تحسنت مؤخراً في بعض المراكز، إلا أن مقابلاتنا مع الموظفين السابقين في المراكز وعشرات المحامين الذين يزورون المراكز، بالإضافة لحوالي 40 محتجزاً (سابقاً) ممن شهدوا الظروف في ثلاثة أرباع المرافق، تُشير بوضوح إلى أن مختلف أشكال سوء المعاملة هي ممارسات منهجية وليست حوادث فردية.

قال ثلاثة من الموظفين السابقين والحاليين تحدثنا معهم إن المراكز «أسوأ من السجون». وذكر مترجم يعمل في العديد من المراكز: «النظافة سيئة للغاية، الطعام فظيع، كل شيء متّسخ والمباني مكتظة». وأشار موظف آخر إلى أن شدة سوء المعاملة ترتبط أيضاً بحقيقة أن المحتجزين «ليسوا مواطنين أتراك»، وأن الموظفين منهكون وأجورهم منخفضة: «معظمهم منهكون إلى درجة أنهم يرون الأجانب كأرقام فقط».

الاكتظاظ مشكلة هيكلية. ذكر العديد من المحتجزين إنهم اضطروا إلى مشاركة غرف مجهزة بأربعة أسِرّة مع 8 أشخاص، أو حتى ناموا في ساحات داخلية مكشوفة أو في ملاعب مغطاة. تُظهر صور وفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي المحتجزين في مركز الترحيل في توزلا، شرق اسطنبول، متكدسين في ملعب كرة سلة محاط بالقمامة. (يُقال إن الوضع هنا تحسَّنَ مؤخراً بسبب افتتاح مركز ترحيل أكبر في أطراف اسطنبول الغربية في نهاية العام الماضي).

مركز الترحيل المموّل أوروبياً في توزلا، قرب اسطنبول (بولنت كيليج). 27 سبتمبر (أيلول) 2024

مركز ترحيل أرناؤوطكوي في اسطنبول (بولنت كيليج). 27 سبتمبر (أيلول) 2024.
قال رجل من أذربيجان احتُجز في توزلا في خريف 2023: «كنا متكدسين مثل السردين، أُعطينا بطانية واحدة لكل أربعة أشخاص واضطررنا إلى الالتصاق بأشخاص غرباء لتجنب التجمد حتى الموت»، وقال سوري آخر، احتُجزَ في توزلا بعد نجاته من الزلزال وانتقاله إلى اسطنبول، إن «الجرذان كانت تقفز من المجاري».

الاكتظاظ وسوء النظافة يؤديان لانتشار الأمراض والعدوى. يذكر سوريٌ في أوائل العشرينيات من عمره احتُجزَ في مركز شانلي أورفا للترحيل هذا الربيع: «كان العديد من الناس يعانون من أمراض المعدة، ومشاكل في الأسنان، وأمراض جلدية مثل الجرب». وعانى سوري آخر احتُجزَ في المركز نفسه، وفي الفترة الزمنية نفسها، من آلام معدة لا تُحتمل بعد وقت قصير من وصوله. وفي غضون ثلاثة أسابيع، كان بطنه منتفخاً بالسائل ولم يكن قادراً على المشي بسبب الألم، لكن طبيب المركز لم يحوله إلى المستشفى طوال أكثر من شهرين. يقول الرجل من داخل سوريا، إلى حيث رُحّل قبل أن ينتهي علاجه: «كان وزني 73 كيلوغراماً عندما دخلت مركز شانلي أورفا، وخرجت بوزن 44 كيلوغراماً». وقد رأى فريق التحقيق وثائق تؤكد احتجازه في مركز شانلي أورفا، إضافة إلى فيديو للرجل التُقط في سوريا، حيث بدا نحيفاً وهزيل الوجه.

وعلاوة على هذه الظروف المزرية المذكورة، يتعرّض المحتجزون للضرب بشكل روتيني. إذ قال حوالي نصف المحتجزين الذين تحدثنا إليهم إنهم تعرضوا للضرب، فيما قال حوالي ثلاثة أرباعهم إنهم شهدوا العنف. ذكر لنا أربعة منهم، ومحاميان، «غرف التبريد»، حيث يُضرب المحتجزون أو يُصَب الماء البارد عليهم. في ردٍّ على أسئلتنا، قالت إدارة الهجرة التركية إن المراكز تعمل «بمبدأ عدم التسامح مع سوء المعاملة» ونفت استخدام غرف التبريد لهذا الغرض.

أكد المحتجزون أن الضرب يحدث في غرف دون كاميرات مراقبة، ونادراً ما تتسرب مقاطع الفيديو من كاميرات المراقبة إلى الإعلام. على سبيل المثال، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، نشرت قناة T24 التركية لقطات تُظهر رجلاً بملابسه الداخلية وساقه مُدمّاة وهو يُطارَد من قِبل الحراس في ممرات مركز ترحيل إزمير، أحد المراكز التي بُنيت بتمويل من الاتحاد الأوروبي. ووفقاً لـ T24، ضُرب رجل سوري وآخر فلسطيني بشدة في هذا الحادث، لكن لم يُدَن أي شخصٍ حتى الآن.

قال مصطفى ينر أوغلو، البرلماني والعضو السابق في حزب العدالة والتنمية الحاكم، إن هناك «إفلاتاً تاماً من العقاب». ومن مكتبه في البرلمان، يُضيف ينر أوغلو: «من المعروف أن سوء المعاملة والتخويف والإكراه أمورٌ تحدث بشكل منهجي في مراكز الترحيل. لكن طالما أن ذلك يحدث ضد الأجانب، فإن هذه الأمور تُعتبر طبيعية في هذا البلد».

من الكراهية إلى العنف: أحداث قيصري
في مدينة شانلي أورفا التركية، يقف فتىً سوريٌّ يبلغ من العمر 17 عاماً في متجر عائلته. يتحدث الفتى اللغة التركية بطلاقة، ويوصي الزبائن الأتراك بنوع الفستق. وعندما يغادر الزبائن، يشير إلى نافذةٍ مكسورة ويسرد ما حدث هنا في الأول من تموز (يوليو) من هذا العام.

يقول الفتى: «ظهروا فجأةً وبدأوا الهجوم، كان هناك حوالي خمسين شخصاً. كنت خائفاً للغاية». ويقول صاحب محلٍّ آخر في الشارع نفسه إن متجره تعرض أيضاً للهجوم، مُظهراً مقطع فيديو لشباب أتراك، بل وحتى صِبية صغار، يضربون السوريين بالعصي. وأظهرت الصور الزجاج المكسور وقطرات الدم على الأرض. ويضيف صاحب المحل: «لدينا لقطات من كاميرات المراقبة، لكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ إذا تقدمنا بشكوى إلى الشرطة فسيرحلونا».

بدأت أعمال الشغب العنصرية في العديد من المدن التركية بعد انتشار خبرٍ على وسائل التواصل الاجتماعي يفيد بأن رجلاً سورياً اغتصب طفلة. بيان قيادة الشرطة بقيصري أشار إلى أن «الضحية ليست تركية»، واعداً باتخاذ جميع الإجراءات اللازمة «بما في ذلك الترحيل» ضد الرجل و«عائلته»، لكن البيان لم يهدّئ الغضب. في الأيام التالية، خرج مئات الرجال إلى الشوارع في مدينة قيصري وسط الأناضول وألحقوا أضراراً أو أحرقوا ما يُقدر بـ400 محلٍّ سوري، وسيارات ومنازل، وممتلكات أخرى.

يقول مصطفى ينر أوغلو: «كانت هذه مذبحة. هناك عنصرية ضد السوريين وغيرهم من اللاجئين في تركيا، وسوف تزداد سوءاً مع استمرار تدهور الاقتصاد. للأسف، لن تكون هذه المرة الأولى في تاريخ تركيا».

تمثَّلَ زيادة عمليات الترحيل جزءاً من استجابة الحكومة لهذه الأحداث في محاولةٍ لتهدئة الغضب الشعبي. يقول ينر أوغلو: «أصدقائي في إدارة الهجرة يعلمون أن ما تفعله السلطات التركية خاطئ، ولكن أغلبهم يخافون من إبداء آرائهم. على كل حال، فإن كراهية الأجانب والمشاعر المعادية للعرب في ذروتها. إنها تطوراتٌ خارجةٌ عن سيطرتهم».

حي ذو حضور سوري كبير في مدينة غازي عنتاب (بولنت كيليج). 22 حزيران (يونيو) 2024.
وقد كانت هذه التطورات في طور الصيرورة منذ فترة، ولعبت أوروبا دوراً في ذلك، حسبما قال البروفيسور مراد أردوغان، مدير مركز أبحاث الهجرة في كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة، والذي درس وضع السوريين في تركيا لأكثر من عشر سنوات ويقدم الاستشارة للحكومة التركية وحكومات أوروبية أخرى.

يقول أردوغان إن جزءاً كبيراً من المشكلة يكمن في رفض أوروبا استقبال المزيد من اللاجئين: «لا يمكن الحديث عن تقاسمٍ حقيقيٍّ للأعباء دون إعادة توطينٍ أوسع، فالحزم المالية التي يقدّمها مؤتمر بروكسل للدول المانحة لا تعوّض عن ذلك، لأنها تغطي جزءاً بسيطاً مما تنفقه تركيا على استضافة اللاجئين، وتؤدي لتأجيج الكراهية ضدهم بإعطاء الأتراك انطباعاً بأن الاتحاد الأوروبي ‘اشترى’ بلدهم ليكون ‘مستودعاً للاجئين’، وهو مصطلح تستخدمه المعارضة بشكل متكرر».

أضاف أردوغان أن الحكومة التركية قد قصّرت في سياسات الاندماج، إلى جانب وجود أزمةٍ اقتصادية حادة في تركيا. ونتيجة لذلك، تحولت تركيا من بلد يرحب باللاجئين إلى بلد يسعى للتخلص منهم بأي طريقة ممكنة. ففي عام 2017، كانت نسبة من يعتقدون في تركيا أن السوريين يجب أن يعودوا إلى سوريا حوالي 50 بالمئة، أما الآن فارتفعت النسبة إلى 90 بالمئة، وذلك وفقاً لاستطلاعات رأي أجراها البروفيسور أردوغان. كما يشهد دعم الترحيل القسري تصاعداً غير مسبوق.

يقول أردوغان: «أوروبا غارقة في مشاكلها ولا تدرك ‘العاصفة المقبلة’. حتى أنّ السياسيين الأوروبيين التقدميين يقولون لي إنهم لا يستطيعون استقبال المزيد من اللاجئين، لأن ذلك سيغذّي اليمين المتطرف في بلادهم، لكن ماذا عن بلدنا؟ ماذا عن اليمين المتطرف هنا؟ أوروبا تستخفّ بما يحدث هنا».

عندما سُئل الفتى السوري ذو الـ17 عاماً في متجر المكسرات في شانلي أورفا عن مشاعره بخصوص مستقبله في تركيا بعد الهجمات الأخيرة، أجاب: «لا أستطيع لوم الأتراك، لأننا هنا منذ فترة طويلة. ولكن، كما تعلمون، أنا هنا منذ أن كنت صغيراً. لم أعرف أيَّ بلدٍ آخر».

«أعتبره مثل غوانتانامو»
«هيا، وقّع.». ألقت المرأة ذات الشعر الأشقر المصبوغ نظرة تهديد على داوود. تردد عامل الإنقاذ السابق، ثم فكر في الرجل الذي جُرّ من الغرفة قبل لحظات، والتقط القلم. قال داوود: «وقّعت لأنني لم أرغب في أن أُضرب، وقّعت للحفاظ على كرامتي».

أكثر من ثلاثة أرباع السوريين المحتجزين الذين تحدّثنا معهم في تحقيقنا قالوا إنهم تعرّضوا للضغط أو العنف الجسدي لتوقيع استمارات العودة الطوعية. وفي حين أن معظم الضغط يحدث داخل مراكز الترحيل، قال بعض المحتجزين إنهم أُجبروا على توقيع الأوراق على الحدود السورية مباشرة. أحدهم كان محمد، الناجي من زلزال العام الماضي. احتُجز محمد في مركز ترحيل توزلا العام الماضي، وبعدها نُقل واحتُجز في مخيم بإلبيلي (المخيم نفسه الذي احتُجز فيه إبراهيم) لمدة أربعة أشهر أخرى، لينُقل بعدها إلى معبرٍ حدودي بالقرب من بلدة أونجو بينار التركية حوالي منتصف الليل.

يقول محمد: «أدخلونا إلى غرفة وسألونا: مَن يريد الذهاب إلى سوريا؟ ثم أطفأوا الأنوار وضربوا الأشخاص الذين قالوا إنهم يريدون البقاء في تركيا بالعصي الحديدية. ثم أضاؤوا الأنوار، فقال جميع الموقوفين: ‘نريد الذهاب إلى سوريا’». أُخِذ محمد والآخرون إلى مكانٍ قريب للتوقيع على الاستمارات: «كان علينا أن نقف أمام الكاميرا ونقول إننا نذهب إلى سوريا طوعاً. كان البعض يبكي أثناء قول ذلك، والبعض الآخر تظهر علامات الضرب على وجوههم»، أضاف محمد.

ردًاً على الأسئلة المكتوبة، أكدت إدارة الهجرة التركية أن تسجيل الفيديو للسوريين الذين يعربون عن رغبتهم في العودة إلى بلادهم طوعاً هو أمرٌ معتاد، لكنها نفت استخدام أي ضغطٍ أو عنف، وأكدت أن جميع العائدين إلى سوريا يعودون «طوعاً، بأمان وكرامة». كما شددت إدارة الهجرة على أن «الوصول إلى الدعم القانوني متاحٌ لجميع المحتجزين».

لكنّ تقرير تقييم مشروعٍ تابع للاتحاد الأوروبي لعام 2023 يشير إلى أنه في عام 2022 حصل فقط 20 بالمئة من المحتجزين في مراكز الترحيل على محامين. في العام الذي سبقه، كانت النسبة 10 بالمئة. بعض المحتجزين لا يتمكنون من تحمل تكاليف المساعدة القانونية، لكن العديد منهم يواجه أساساً صعوبةً في الاتصال بمحامين. وبالرغم من أن القانون التركي ينصُّ على «الوصول الفوري وغير المُقيّد إلى المساعدة القانونية منذ لحظة الاعتقال»، إلا أن العديد من المُحتَجَزين الذين تحدثنا معهم قالوا إنهم احتُجزوا معزولين لأيام عديدة، ولم يتمكنوا حتى من إبلاغ أصدقائهم أو أقاربهم عن احتجازهم، فضلاً عن الاتصال بمحامين.

وإلى جانب مراكز الترحيل، بدأت تركيا في استخدام ما يُسمى «مراكز الإيواء المؤقتة» (Geçici Barınma Merkezleri) كمرافق احتجاز. بُنيت معظم هذه المخيمات الكبيرة المصنوعة من غرف مسبقة الصنع بعد اندلاع الحرب في سوريا لاستقبال اللاجئين، ولكنها تُستعمل اليوم كأداة في آلة الترحيل التركية. من بين هذه المراكز، يعد مركز الإيواء المؤقت في بلدة حرّان جنوب مدينة شانلي أورفا، الأسوأ بين المراكز، حسبما قال عددٌ من المحامين والمُحتجَزين.

عندما قمنا بجولةٍ حول المركز، لاحظنا جدراناً عالية وأبراج مراقبة وأسلاكاً شائكة. تُظهر صور الأقمار الصناعية أن بعض أبراج المراقبة بُنيت بعد منتصف عام 2018. وقد عُلّقت بعض المقتنيات، مثل حقائب ظهر، بين الأسلاك الشائكة، فبدت وكأنها بقايا محاولات هروب سابقة.

عبد الله أونجل، رئيس نقابة المحامين في مدينة أورفا، وصف مركز حران بأنه «مثل غوانتانامو»، وأضاف: «يمكن أن تُحتجز هناك لفترة طويلة ولا يعرف أحدٌ ما الذي يحدث هناك. الوصول إلى محامٍ أمرٌ صعبٌ للغاية، والوصول إلى العدالة مستحيل».

صورة أقمار صناعية لمركز إيواء حرّان (غوغل إيرث).
تحدّثنا مع خمسة رجال سوريين وامرأة أفغانية احتُجزوا في مركز حرّان. سُمح لبعضهم بالاحتفاظ بهواتفهم وتمكنوا من إرسال صور ومقاطع فيديو لنا من داخل المخيم. تُظهر الصور رجالاً تحت الشمس الحارقة، وبعضهم يعاني من إصاباتٍ جلدية خطيرة؛ وأطفال ونساء بجانب الغرف الصغيرة، ينامون بجوار مراحيض تتسرّب منها المياه. كتب أحد الرجال السوريين على تطبيق سيجنال (Signal) من داخل المخيم هذا الصيف: «الإذلال لا يُحتمل. اليوم حاولت امرأةٌ طعنَ نفسها لتخرج من هنا».

تمكن رجلان سوريان آخران من الاتصال بنا من داخل المخيم. أحدهما تعرض للضرب المبرح في اليوم السابق. قال: «كان الضرب وحشياً، واستخدموا العصيّ هذه المرة»، ثم فتح الكاميرا على هاتف صديقه لفترةٍ قصيرة ليظهر صدرُه المغطى بالندوب الناتجة عن الضربات. أكد صديقه أنه شهِد الحادثة.
أشار جميع الرجال السوريين الخمسة الذين احتُجزوا هنا إلى وقوع محاولات انتحارٍ داخل المخيم، وقال أحدهم: «كان هناك الكثير من محاولات الانتحار، لدرجة أنني لا أستطيع عدّها. الناس هنا مُدمّرون نفسياً».

وقد صرّح كلٌّ من الاتحاد الأوروبي وإدارة الهجرة أن مركز الإيواء المؤقت في حرّان لم يتلقَ أي تمويل من الاتحاد الأوروبي. كما نفت إدارة الهجرة التقاريرَ التي تحدّثت عن ضرب الحرّاس للمُحتجَزين ومحاولات الانتحار داخل مركز حرّان، وأصرّت على أن مراكز الإيواء المؤقت «لا تُستخدم كمراكز ترحيل»، ما يناقض روايات المُحتجَزين الذين احتُجزوا في حرّان ومراكز الإيواء المؤقتة بشكل عام. إلبيلي، حيث احتجز إبراهيم ومحمد، هو أيضاً مركز إيواء مؤقت.

لكن إدارة الهجرة أكدت وفاة ثلاثة محتجزين في مراكز الترحيل الممولة من الاتحاد الأوروبي منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأرجعتْ هذه الوفيات إلى حالاتٍ طبية أو أشارت لتصريحاتٍ سابقة صادرة عن السلطات التركية تزعم الشيء نفسه. حالة الوفاة الأحدث كانت لرجلٍ سوري يبلغ من العمر 37 عاماً يُدعى إبراهيم عز الدين. توفي عز الدين في 16 تموز (يوليو) من هذا العام بعد أيامٍ من احتجازه في مركز كيركلاريلي، وهو أحد المراكز التي بُنيت بتمويل من الاتحاد الأوروبي (وقد حصل فريق التحقيق على نسخةٍ من شهادة وفاته).

في بيانٍ صدر بعد أسبوع من وفاته، وبعد تقرير في صحيفة قرار التركية، ذُكر أن الرجل السوري توفي بعد تعرضه للضرب، أصدرت محافظة كيركلاريلي بياناً يفيد بأن «إبراهيم عز الدين فقد حياته نتيجة جلطة رئوية»، وأن تقرير التشريح «لم يُظهر أي علاماتٍ على اعتداء أو ضرب».

أعرب شقيق إبراهيم عن شكوكه في صحة هذا البيان. ويذكر الشقيق أنه تلقى مكالمةً هاتفيةً بعد ثلاثة أيام من زميلَي احتجاز لأخيه وتعرّضا للترحيل بُعيد وفاته. قال الرجلان إن إبراهيم تلقّى تهديداتٍ من أحد حرّاس المركز، وأكد أحدهما أن إبراهيم تعرض للضرب بشدة في الليلة التي سبقت وفاته. وقال أحد الرجلين إن رغوةً بدأت بالخروج من فم إبراهيم وطلب المساعدة، لكنّ الحرّاس أمروه بالتزام الصمت، ولم يتصل الحرّاس بسيارة الإسعاف إلا عندما تغيرت نوبة الحراس.

طلب فريق التحقيق نسخةً من تقرير التشريح من محافظة كيركلاريلي، لكنه لم يتلق أي رد، كما قال شقيق إبراهيم إنه لم يحصل على التقرير، وكذلك حُجبت المقالة الأصلية في صحيفة قرار من قبل السلطات التركية.

«الجميع يعرف»
يقول توم دي بوير، من مكتب المحاماة الهولندي Prakken d’Oliveira في أمستردام، والذي رفع دعوى قضائية ضد الحكومة الهولندية هذا العام نيابةً عن عددٍ من المنظمات غير الحكومية بشأن تورط هولندا في اتفاق الاتحاد الأوروبي وتركيا: «هذا يثير العديد من الأسئلة القانونية». ويشير دي بوير إلى أن هناك طرقاً لتحميل الاتحاد الأوروبي المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان في المراكز التي يمولها. «الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء مُلزَمون بعدم المساهمة في انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك خارج أراضيهم. لذلك يجب أن ننظر فيما إذا كان الاتحاد الأوروبي يعلم بمخاطر انتهاكات حقوق الإنسان، وما إذا اختار الاستمرار في التمويل على أي حال».

الوعي بهذه المخاطر القانونية موجود، كما أشارت مقابلاتنا مع أكثر من عشرة دبلوماسيين ومسؤولين أوروبيين في بروكسل وتركيا. إذ يذكر أغلبهم أنهم على دراية بالتقارير التي أصدرتها المنظمات غير الحكومية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، والتي تحدثت عن الانتهاكات في المراكز الممولة من الاتحاد الأوروبي وعمليات الترحيل غير القانونية إلى سوريا منذ عام 2015. علاوة على ذلك، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عام 2022 بأن تركيا قامت بترحيل لاجئ سوري قسراً بعد إجباره على توقيع «استمارة العودة الطوعية». ويقول مسؤولٌ سابق في المفوضية: «الجميع يعرفون، لكنهم يغضون الطرف».

وثائق اتحادية تتحدث عن اتهامات بالترحيل القسري إلى سوريا (لايتهاوس ريبورتس).
لم تتغيّر سياسات الاتحاد الأوروبي، بل على العكس. فعندما تعهدت بروكسل بمليار يورو إضافية في إطار الصفقة مع تركيا في عام 2021، خُصص 250 مليون منها لإدارة الحدود والهجرة (منها أكثر من 25 مليون لمشاريع متعلقة بمراكز الترحيل). وقال المسؤول السابق في المفوضية: «كان مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الجوار والتوسّع، أوليفر فارهلي (الذي تولى منصبه في عام 2019)، ‘سعيدًا للغاية’ بترحيل تركيا للأفغان بشكلٍ جماعي، ودعا داخلياً إلى استكشاف سبل دعم تركيا في ترحيل السوريين». هذا يتماشى مع السياسة العامة لفارهلي، الذي دفع لصفقات الهجرة الأخيرة مع مصر وتونس، وهو عضو في حزب رئيس الوزراء الهنغاري المتطرف فيكتور أوربان.

أشار ستة دبلوماسيين أوروبيين من خمس جنسيات يعملون في تركيا إلى أنهم على دراية بالتقارير عن الانتهاكات في المراكز، ووصفها أحدهم بأنها «موضوع لا يمكن تفويته في هذه الأيام». بينما قال آخر: «حُوّلت مراكز ‘الاستقبال’ الممولة من الاتحاد الأوروبي إلى سجون بحكم الواقع». وقال دبلوماسي آخر إنه شاهد مقاطع فيديو لسوريين أُجبروا على توقيع استمارات العودة الطوعية. وأكد العديد من الدبلوماسيين أنهم أبلغوا عواصمهم عن مخاوفهم، وقالوا إن هذه المخاوف تُناقش بانتظام في وفد الاتحاد الأوروبي في أنقرة.

لكن «إثارة» المخاوف مع نظرائهم الأتراك، كما أشار العديد من الدبلوماسيين، لا تصل إلى نتيجة. قال أحد الدبلوماسيين: «نحن نحاول تجنّب المواجهة، نسأل الأتراك فقط: كيف تضمنون أن العودة طوعية؟ فيردون: كل شيء طوعي، لأن الناس يوقعون على استمارات ولديهم محامون. وعادةً ما ينتهي الحوار هنا».

دبلوماسيٌ آخر قال لنا: «بدون رقابة كافية من قبل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أو وصول غير مشروط للمسؤولين الأوروبيين إلى المراكز، يصعب على الدبلوماسيين التأكد من مدى ‘منهجية’ الانتهاكات المزعومة». علاوةً على ذلك، يبدو أن الدبلوماسيين يترددون في إثارة الكثير من الضجيج حول مراكز الترحيل لأن إدارة الهجرة «شريكٌ يصعب التعامل معه»، وهم يحاولون الحفاظ على الحيز المحدود المتبقي لمشاريع أخرى يمولها الاتحاد الأوروبي تتعلق بإدماج اللاجئين وحمايتهم. يذكر أحد الدبلوماسيين: «نحتاج لإيجاد توازن، وهذه معضلة حقيقية. مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في موقف صعب أيضاً. إنهم يثيرون مخاوفهم حول مراكز الترحيل خلف الأبواب المغلقة، ولكن إذا تحدثوا في العلن وتصرفوا بشدة، قد نخسرهم هنا».

على مستوى أكثر جوهرية، أقر العديد من الدبلوماسيين بصعوبة إثارة المخاوف إثر فقدان أوروبا «السلطة الأخلاقية» في أعين نظرائهم الأتراك. كثيراً ما يسمع الدبلوماسيون من نظرائهم الأتراك أنه إذا كانت أوروبا قلقة بشأن حقوق اللاجئين فلماذا لا تستضيف المزيد منهم بنفسها؟ يقول أحد الدبلوماسيين: «منذ الحرب في غزة، أصبح من الصعب أكثر من أيّ وقتٍ مضى اتخاذ موقف أخلاقي عالٍ، نسمع أكثر من أي وقتٍ مضى أن الغرب لديه معايير مزدوجة».

«غير آمنة للعودة»
في صباحٍ مُبكر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أيقظ الحراس داوود في مركز الترحيل في غازي عنتاب وأمروه بالاستعداد. «أجلسونا في ساحة كرة السلة مع حوالي خمسين إلى ستين شخصاً، ثم وضعونا في الحافلات»، يتذكر داوود، الذي رُحّل في ذلك اليوم عبر المعبر الحدودي بين بلدة كركميش التركية وبلدة جرابلس السورية. وشاهد فريق التحقيق صورةً لوثيقة دخولٍ مختومةً تحمل اسمه الكامل، صادرة عن معبر جرابلس الحدودي.

وحتى في المراحل الأخيرة من عملية الترحيل، تستخدم تركيا معدات مُمولة من الاتحاد الأوروبي. عندما زرنا الجانب التركي من المعبر الحدودي نفسه في آب (أغسطس) من هذا العام، رصدنا حافلة ركاب بيضاء عليها شعار إدارة الهجرة وعلم الاتحاد الأوروبي. وفي ردّ مكتوب على أسئلة التحقيق المشترك، قال متحدث باسم المفوضية الأوروبية «لا توجد تقارير تشير إلى أن المعدات الممولة من الاتحاد الأوروبي، مثل (…) المركبات، تُستخدم لغايات غير المخصصة لها». وأضاف المتحدث أنه «سيتم التحقيق في أي ادعاءات في حال تقديم أدلة».

في شهر آب (أغسطس) نفسه، كان العشرات من السوريين ينتظرون في الحرّ الشديد أمام معبر حدودي آخر بالقرب من بلدة أونجو بينار التركية. كانوا يحملون حقائبهم، وكان الأطفال يلعبون، بينما كان الكبار ينظرون للمعبر بعيون متعبة. هؤلاء السوريون كانوا يعودون بملء إرادتهم، ولكن مدى «الطوعية والأمان والكرامة» في هذه العودة، وهي الشروط التي تقول تركيا إنها تلتزم بها، مشكوكٌ به للغاية.

على سبيل المثال، قال زوجان في الخمسينيات من عمرهما إنهما يعودان لأن ابنهما البالغ من العمر 24 عاماً رُحّل. شابة مع طفل رضيع قالت إن بطاقة هويتها أُبطلت. وقالت امرأة أخرى مع ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات إنها تودّ أن تعيش مع عائلتها في أنقرة، لكنها لا تستطيع لأنها مسجلة في أورفا: «ليس لدي مكان للإقامة، وسئمت الأمر»، تقول المرأة. «ليس لدي أي فكرة ماذا سأفعل في سوريا، لكنني لم أعد أهتم»، وعندما سُئلت إذا كانت ترغب حقاً في المغادرة، أجابت: «لا».

وفي حين تسجل الإحصاءات التركية الرسمية جميع عمليات العودة إلى سوريا على أنها «طوعية»، إلا أن المعبر الحدودي السوري الأكثر استخداماً للترحيل، وهو معبر باب الهوى، يميّز بين «عمليات الترحيل» و«العودة الطوعية» في الإحصاءات المنشورة على موقعه الإلكتروني. منذ شهر نيسان (أبريل) من هذا العام، سجل هذا المعبَر الحدودي وحده حوالي 11000 عملية عودة طوعية و10000 عملية ترحيل. هذا بينما يستخدم معبر باب السلامة مصطلح «العودة الطوعية» فقط. «طلب منا الأتراك أن نستخدم هذه الكلمة لزيادة مصداقية الحكومة»، كما صرَّحَ مصدر سوري في ذلك المعبر الحدودي؛ «يريدوننا أن نخفي الحقيقة».

يجد اللاجئون أنفسهم بعد الترحيل في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، في محافظة إدلب؛ أو مناطق سيطرة فصائل «الجيش الوطني السوري» المدعومة من تركيا، في عفرين وأعزاز والباب والمنطقة المحيطة بتل أبيض في الجزيرة السورية. ووُثِّقت عمليات اعتقال تعسفي وخطف وتعذيب وابتزاز قامت بها كلتا المجموعتين بحق مُرحَّلين.

بالإضافة لذلك، لا تزال المنطقة تتعرض للقصف بشكل منتظم من قبل نظام الأسد، كما أن الوضع الإنساني كارثي بشكل واضح: ووفقاً للأمم المتحدة، فإن 3.6 من أصل 5 ملايين نسمة في شمال غربي سوريا هم نازحون داخلياً ويعتمد 80 بالمئة من السكان على المساعدات الإنسانية.

يقول عامل إغاثة سوري يعمل في شمال غربي سوريا إن هؤلاء السوريين الذين رُحِّلوا إلى المنطقة هم «الحلقة اﻷضعف»، على حد تعبيره: «ليس لديهم ملابس ولا شريحة هاتف، وغالباً ما لا تعرف عائلاتهم حتى أين هم. العديد منهم ينامون في المساجد والقواعد العسكرية ويتعرضون للخطر الشديد: فهم يقبلون بأي وظيفة لتغطية نفقاتهم ويمكن لأي شخص أن يُجندهم».

وهذا بالضبط ما حدث مع داوود. فبعد أن فشل في العثور على عمل في جرابلس قرر الانتقال إلى إدلب، فاتصل به مقاتلو لواء «السلطان مراد» وعرضوا عليه عملاً في النيجر، وهي واحدة من الوجهات الأخيرة التي يُرسَل إليها المرتزقة السوريون عبر وسطاء أتراك (كانت الوجهات السابقة تشمل ليبيا وأذربيجان). وأضاف داوود الذي أظهر مجموعة واتساب خاصة بالمجندين أُضيفَ إليها: «قالوا لي إنني سأحصل على 3500 دولار شهرياً ولن أضطر للقتال، بالنسبة للبعض، هذا هو السبيل الوحيد للخروج. لكنهم لم يرغبوا في أن يكونوا مرتزقة».

عوضاً عن ذلك، دفع داود 2600 دولار أميركي لمهرب لإعادته إلى الدولة التي رحّلته مؤخراً. وهو ليس الوحيد: حاول العديد من السوريين الآخرين الذين تحدثنا معهم العودة إلى تركيا ونجحوا في ذلك، لكن الطريق محفوف بالمخاطر. يقول داوود: «رأيتُ في طريقي العديد من الأشخاص الذين تعرضوا للضرب المبرح من قبل حرس الحدود، حاولنا وفشلنا في العبور اثنتي عشرة مرة. ولكن في المرة الثالثة عشرة، نجحنا. أوصلني أحد المهربين إلى اسطنبول. الحمد لله، لأن العديد من الرجال الذين ذهبوا إلى النيجر ماتوا».

«فشل ذريع»
السوريون المُرحّلون الذين ينجحون في العودة إلى تركيا ليس لهم مستقبل في البلاد. فبطاقة هويتهم، في حال وُجدت أصلاً، أُلغيت بعد ترحيلهم، ويمكن احتجازهم وترحيلهم مرة أخرى في أي وقت. كثير من السوريين وغيرهم من اللاجئين من جنسيات أخرى، حتى أولئك الحاصلين على هويات صالحة، أصبح لديهم هدف واحد فقط: الوصول إلى أوروبا.

تظهر الهجرة الجماعية من تركيا في إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. إذ ازداد عدد المهاجرين غير الشرعيين من تركيا إلى اليونان بشكل ثابت منذ 2021، وارتفع ليصل حوالي 50000 شخص في 2023 ( ثلاثة أضعاف العام الأسبق)، وهو العام نفسه الذي أُجريت فيه الانتخابات الرئاسية وقررت أنقرة بعدها تسريع عمليات ترحيل «المهاجرين غير الشرعيين».

موظف في مركز ترحيل توزلا (بولنت كيليج). 27 سبتمبر (أيلول) 2024.
ويرى العديد من الدبلوماسيين أن الخوف من الترحيل هو أحد العوامل التي تدفع الناس حالياً إلى أوروبا. ووصف أحد الدبلوماسيين سياسة الاتحاد الأوروبي في الاستثمار بمراكز الترحيل في تركيا بأنها «فشل ذريع، ليس فقط من منظور حقوق الإنسان، ولكن أيضاً من منظور إدارة الهجرة».

وفي الوقت نفسه، يناقش مسؤولو الاتحاد الأوروبي في بروكسل كيفية إنفاق حزمة مساعدات جديدة بقيمة ملياري يورو خصصها الاتحاد لتركيا في شباط (فبراير) الماضي. أكدت وزارة الخارجية الهولندية أن التمويل الجديد المحتمل لمراكز الترحيل هو جزءٌ من هذا النقاش، وذكر أحد الدبلوماسيين الأوروبيين أن «هناك توقعات بزيادة التمويل المخصص للهجرة وإدارة الحدود، لأن ذلك التزامٌ من قبل مفوضنا». (يُقال إن أوليفر فارهيلي، المنتهية ولايته، مؤيد قوي لترحيل السوريين).

يعيش داوود الآن مختبئاً في مطعم سوري في ضواحي اسطنبول، حيث عرض عليه أصدقاء له إيوائه. أحدهم زميل سابق في الدفاع المدني السوري. يقول داوود: «لقد مررنا بالكثير معاً، نحن مثل الإخوة».

وأوضح داوود أنه لم يغادر هذا المكان لأكثر من نصف عام إلا مرة واحدة. ينام في الجزء الخلفي من المطعم ويحتفظ بممتلكاته القليلة -بعض القمصان وبطانية وزجاجة عطر- في خزانة بجانب المرحاض. يقوم كل يوم بـ60 تمريناً ليحافظ على صحته العقلية. أما بقية وقته فيقضيه بالعمل في المطبخ لسداد الديون المتراكمة عليه للمهرب الذي أعاده إلى تركيا، ولادّخار المال لمهرب آخر ليأخذه إلى أوروبا.

«كل ما أريده هو أن أُعامَلَ كإنسان»، يقول داوود. عرض أقاربه في أوروبا مساعدته، لكن عامل الإنقاذ السابق قال إنه يفضل أن ينقذ نفسه هذه المرة. وعند سؤاله عن السبب، استعرض عضلة ذراعه مازحاً ليجيب «لأنني رجل».

*****

مسعود طاطوز: «صحفي سوري-تركي مستقل، يُغطي الشؤون السورية والتركية، مركّزاً في عمله على حقوق اللاجئين وانتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة». حسابه على منصة X.

ميلفن إنغلبي: «مراسل لجريدة NRC الهولندية مقيم في اسطنبول. يُغطي في عمله شؤون تركيا وسوريا وإيران والعراق، ومركّزاً على التحقيقات المتعلقة بجرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان». حسابه على منصة X.

ماي بولمان: «محررة تحقيقات في تحالف لايتهاوس ريبورتس، حيث تعمل بشكل رئيسي على تحقيقات متعلقة بالهجرة والحدود في المملكة المتحدة وأوروبا وغيرها. عملت بولمان سابقاً كمراسلة الشؤون الاجتماعية لجردة الإندبندنت البريطانية». حسابها على منصة X.

إيلينيا غوستولي: «صحفية مقيمة في اسطنبول، تركيا. يغطي عملها الشؤون السياسية والتغيّرات الاجتماعية والنزاعات في الشرق الأوسط. حازت أعمالها عن اللاجئين والمهاجرين وتجارة البشر على العديد من الجوائز والمِنح». حسابها على منصة X.

 

الصحفيون-ات منتجو-ات هذا المقال جزءٌ من تحقيق مشترك نسّقه تحالف Lighthouse Reports، ونُشر أيضاً في El País، وNRC، والجمهورية.نت وPolitico وL’Espresso وDer Spiegel وLe Monde وSIRAJ وEtilaatroz. تلقى التحقيق تمويلاً من IJ4EU وJournalismfund Europe.

Turkey’s EU-funded deportation machine-Lighthouse Reports
ومن الصحفيين المشاركين في هذا التحقيق: أندريس مورينثا (El País)، ميلفن إنغلبي (NRC)، يلينيا غوستولي (L’Espresso)، مسعود طاطوز (الجمهورية.نت)، مهند النجار وشبنم أرسو وموريل كاليش وشتفن لودكه (Der Spiegel)، زيا وايز (Politico)، نيكولا بورسييه (Le Monde)، محمد بسيكي ( SIRAJ)، جليل رونق ( Etilaatroz)، والصحفيين المستقلين محمود بافاخ وجياكومو زاندونيني وج. جلالي ومي بولمان وفهيم عابد وبشار ديب وإيلينا ديبري وشارلوت ألفريد من Lighthouse Reports.

مقالات مشابهة

Continue Reading

Previous: “هجمات وعصابات ومخدرات”… حرب موازية بين إيران وإسرائيل بعد فشل الردع؟ جاد ح. فياض المصدر: النهار
Next: الضرورة القصوى لربط الإنقاذ بحل سياسي روزانا بومنصف المصدر: “النهار”

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

هل يُحرم الكرد “المكتومون” و”الأجانب” من مجلس الشعب السوري؟ شفان ابراهيم. المصدر : موقع درج

khalil المحرر يوليو 4, 2025
  • مقالات رأي

هل ينجح ترمب في إنهاء حرب غزة؟ كون كوخلين……..المصدر :المجلة

khalil المحرر يوليو 4, 2025
  • مقالات رأي

“الوحدة 8200″… قلب الآلة العسكرية الإسرائيلية مايكل هوروفيتز……المصدر :المجلة

khalil المحرر يوليو 4, 2025

Recent Posts

  • هل يُحرم الكرد “المكتومون” و”الأجانب” من مجلس الشعب السوري؟ شفان ابراهيم. المصدر : موقع درج
  • دلشاد شهاب: نيجيرفان بارزاني يعمل منذ عام 2022 على الجولة الحالية من عملية السلام في تركيا..المصدر :رووداو ديجيتال
  • هل ينجح ترمب في إنهاء حرب غزة؟ كون كوخلين……..المصدر :المجلة
  • “الوحدة 8200″… قلب الآلة العسكرية الإسرائيلية مايكل هوروفيتز……المصدر :المجلة
  • بن فرحان يحذّر لبنان: اغتنموا الفرصة.. وإلا الحرب مجدداً غادة حلاوي…..المصدر : المدن

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يوليو 2025
  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • هل يُحرم الكرد “المكتومون” و”الأجانب” من مجلس الشعب السوري؟ شفان ابراهيم. المصدر : موقع درج
  • دلشاد شهاب: نيجيرفان بارزاني يعمل منذ عام 2022 على الجولة الحالية من عملية السلام في تركيا..المصدر :رووداو ديجيتال
  • هل ينجح ترمب في إنهاء حرب غزة؟ كون كوخلين……..المصدر :المجلة
  • “الوحدة 8200″… قلب الآلة العسكرية الإسرائيلية مايكل هوروفيتز……المصدر :المجلة
  • بن فرحان يحذّر لبنان: اغتنموا الفرصة.. وإلا الحرب مجدداً غادة حلاوي…..المصدر : المدن

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

هل يُحرم الكرد “المكتومون” و”الأجانب” من مجلس الشعب السوري؟ شفان ابراهيم. المصدر : موقع درج

khalil المحرر يوليو 4, 2025
  • الأخبار

دلشاد شهاب: نيجيرفان بارزاني يعمل منذ عام 2022 على الجولة الحالية من عملية السلام في تركيا..المصدر :رووداو ديجيتال

khalil المحرر يوليو 4, 2025
  • مقالات رأي

هل ينجح ترمب في إنهاء حرب غزة؟ كون كوخلين……..المصدر :المجلة

khalil المحرر يوليو 4, 2025
  • مقالات رأي

“الوحدة 8200″… قلب الآلة العسكرية الإسرائيلية مايكل هوروفيتز……المصدر :المجلة

khalil المحرر يوليو 4, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.