خلال تاريخها القصير في المنطقة، لم تصدر إسرائيل أية قوانين وتشريعات صريحة تأمر بإزالة الفلسطينيين وتهجيرهم من أرضهم. لكن خلال تلك الحقبة القصيرة نسبياً، فإن كل ما فعلته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، مستغلةً أحداث بعينها، كان يؤدي إلى ذاك المصير.

منذ عام 1948، وما قبله حتى، غادر مئات آلاف الفلسطينيين بيوتهم وقراهم، بسبب المجازر، وما تبعها من دعاية وحرب نفسية أدّت إلى الذعر من الإبادة. كل ما فعلته إسرائيل بعدها أنها، عبْرَ مجموعة من القوانين، منعت هؤلاء من العودة إلى أراضيهم أو استرداد أملاكهم، فبقوا حيث انتهت بهم رحلة التهجير. لاجئون في مخيمات دول الجوار بدايةً، ثم بعدها في أربعة جهات الأرض،حيث يعيشون حتى اليوم.

كذا فعل نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس، خلال حربهم على السوريين، ربما بشكل أشدّ فظاظة في كثير من الأحيان. قصفوا المدن والقرى، مما أدى إلى موجات كبيرة من اللجوء إلى دول الجوار. ثم أجروا مفاوضات مع من تبقى من أجل ترحيل المعارضين مع عائلاتهم إلى الشمال السوري. حيث كانت البوابة التركية هي الأقرب، فعبر مئات الآلاف إلى مختلف الدول الأوروبية، أو استقروا مؤقتاً بحثاً عن طرق سيجتازونها براً وبحراً إلى منافيهم الجديدة، إن حالفهم الحظ، ولم يكن مصيرهم الموت في تلك الطرقات.

كان لتهجير الهنود الأميركيين تأثيرات اجتماعية وثقافية. فهم لم يجبروا على التخلي عن أرضهم البالغة أكثر من مئة ألف كيلو متر مربع وحسب. بل أجبروا على ترك ما هو أهم بالنسبة لهم، قبور الأجداد وتاريخٌ من الذكريات.

عام 1830 مرَّر الكونجرس الأميركي قانون إزالة الهنود “The Indian Removal”. نعم، هكذا وبهذا الوضوح، حمل القانون اسماً لم يراوغ واضعوه ليبدو أقلّ فظاظةً. كان الهدف من القانون، ترحيل قبائل الهنود الحمر من جنوب شرق الولايات المتحدة، خصوصاً من ولايتي جورجيا وكارولينا الشمالية، حيث الأراضي الخصبة والاكتشافات الحديثة لوجود الذهب، إلى غرب نهر الميسيسبي، بهدف تجميعهم في مناطق من ولاية أوكلاهوما.

في رسالة إلى الكونجرس، في السادس من كانون الأول/ديسمبر 1830، كتب الرئيس الأميركي أندرو جاكسون أن الإخلاء “سيحرر ولاية ميسيسيبي بأكملها والجزء الغربي من ألاباما من احتلال الهنود، وسيمكّن تلك الولايات من التقدم بسرعة في زيادة عدد السكان والثروة والسلطة. كما سيفصل الهنود عن الاتصال المباشر بمستوطنات البيض… وتحت حماية الحكومة، ومن خلال النصائح الجيدة، سيغيّر هؤلاء من عاداتهم الوحشية، ويتحولون إلى مجتمع متحضر ومسيحي”.

خلال فترة ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، تم ترحيل عشرات الآلاف، من أولئك الهنود ليقطعوا أكثر من ألف وستمئة كيلومتراً بعيداً عن أرض أسلافهم. بحراسة وقيادة أفراد من الجيش الأميركي، كان الرجال والنساء والأطفال الهنود يسيرون جائعون في البرد، خلال ذاك الدرب الطويل ضمن مجموعات كبيرة، حيث فقد الآلاف حياتهم أثناء الرحلة التي استمرت شهوراً، ليُعرف ذاك الطريق، فيما بعد، باسم درب الدموع ” the Trail of Tears”.

بالإضافة إلى قسوة الانتقال الجغرافي، كان لتهجير الهنود الأميركيين تأثيرات اجتماعية وثقافية. فهم لم يجبروا على التخلي عن أرضهم البالغة أكثر من مئة ألف كيلو متر مربع وحسب. بل أجبروا على ترك ما هو أهم بالنسبة لهم، قبور الأجداد وتاريخٌ من الذكريات. بالنسبة لتلك القبائل، خصوصاً قبيلة “شيروكي”، كانت الحياة جزءاً من الأرض. بحسب معتقداتهم، فإن لكل صخرة وشجرة ولكل حيّز محدد من المكان، روح. كانت فكرة الروح محورية في أسلوب حياتهم، لذا كان فقدان المكان بمثابة فقدان الذات، وفقدان هويتهم بأنهم “شيروكي”، ومن ثمَّ فقدان أسلوب الحياة الذي يعرفون، ولذا وُصفت رحلات التهجير تلك بأنها “مسيرات الموت”.

لا يختلف المؤرخون الأميركيون على أن ما جرى كان نوعاً من التطهير العرقي، بل يذهب بعضهم إلى حدّ اعتباره إبادة جماعية. يزعم الباحث الإنجليزي باتريك وولف أن الاستعمار الاستيطاني والإبادة الجماعية أمران مترابطان، حتى لو كان الاستيطان يشمل ما هو أعمّ من الإبادة، إلا أنه يتضمنها على الأغلب لأنه إقصائي. من جهة ثانية يبدو أن التناقض الأساسي هنا هو في النظرة إلى الأرض بذاتها. يلتقط هذه الزاوية ببراعة الباحث الأميركي ديفيد جاينز، فيرى بأنه في عملية نقل الشيروكي المأساوية، هناك سياق قائم على الاختلاف بين “احترام الهنود وتقديسهم للأرض، بالتناقض مع وجهة نظر الأوروبيين الأميركيين حيث يعتبرونها ملكيّة للاستثمار”.

إن الترحيل، بل والإزالة تتم اليوم إما برعاية أميركية، كما في حالة الفلسطينيين، أو بصمت أميركي متواطئ كما في الحالة السورية.

بالبحث في تاريخ الهنود الحمر، وهم السكان الأصليون للقارة الأميركية، سوف نجد تعبيراً يثير الاستغراب، الهندي المختفي (المتلاشي) “Vanishing Indian”. فبعد استيلاء البيض على أراضي تلك القبائل، حاول هؤلاء محو تاريخها الإنساني، بهدف تكريس فكرة أنهم وجدوا “بريّة” غير مُطوَّرة عندما وصلوا، وهذه محاولة للاقتراب والتماهي مع القيم الأميركية التي تمجّد الإعمار والاستيطان، وهو ما يذكِّر بالمقولة الزائفة عن فلسطين “أرض بلا شعب، لشعبٍ بل أرض”.

منذ أربعون عاماً وحتى اليوم يقوم ستة من هنود شيروكي كل سنة، بقيادة دراجاتهم الهوائية متتبعين نفس المسار الذي سلكه أسلافهم. يبدؤون رحلتهم من العاصمة السابقة لأمّتهم “نيو إيكوتا” في جورجيا، وينتهون في “تاهليكوا” في ولاية أوكلاهوما. قبل شهور، في حزيران/يونيو 2024، قادت “شونا بيكر” قاضية المحكمة العليا لأمّة شيروكي، الرحلة السنوية التذكارية الأربعين لفريق الدرّاجين. في لغة شيروكي، يُطلقون على موقع مأساتهم “المكان الذي بكوا فيه”. تبدو لي تلك العبارة وكأنها تكاد تصلح لشرقنا هنا، حيث ما زال سكانها يبكون منذ قرون.

على الأغلب، أن روحانيات القرن التاسع عشر لن تتطابق مع روحانيات القرن الواحد والعشرين. لكن بالتأكيد فإن شكلاً مختلفاً منها ما زال مترسّباً في وجدان الشيروكيين الجدد، الذين غادروا بيوتهم وأرض أبائهم وأجدادهم في منطقتنا. وبينما أصدر الكونغرس الأميركي عام 1987، قانوناً يعتبر “مسار درب الدموع” طريقاً تاريخياً وطنياً، مُقِرّاً بأن ما حدث قبل قرابة قرنين كان من “أكثر الأحداث المؤسفة في التاريخ الأميركي”. فإن الترحيل، بل والإزالة تتم اليوم إما برعاية أميركية، كما في حالة الفلسطينيين، أو بصمت أميركي متواطئ كما في الحالة السورية.