يصادف اليوم، 16 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، الذكرى السنوية لليوم العالمي للفلسفة، الذي بات مناسبة لطرح أسئلةٍ لا تقف عند الفلسفة ومكانتها وعلاقتها بالعالم، وهموم المشتغلين فيها وعليها، بل، تمتدّ لتطاول أسئلة الراهن والواقع المعيش، فالفلسفة التي كانت في ما مضى ملكة العلوم توزّعت من خلال حقل واسع وخصب على اشتغالاتٍ فكريةٍ عديدة ومختلفة، من غير أن تهمل دورها في الانشغال بالشأن العام، وفي كل ما يتّصل بوقائع حياة الناس.
ويأتي يوم الفلسفة العالمي هذا العام في ظل انشغال العالم بالحرب الإسرائيلية على غزّة، التي تُرتكب فيها جرائم ضد الإنسانية، وخصوصا الإبادة الجماعية، التي تودي بحياة عديدٍ من الشيوخ والأطفال والنساء، ويرمي ساسة إسرائيل من وراء قصف آلتهم العسكرية التدميرية، التي تطاول بشكل عشوائي المناطق السكنية في غزّة، إلى إجبار أهلها على الهجرة القسرية.
لم يصمت حيال جرائم إسرائيل في غزة فلاسفة كثر من أمثال السلوفيني سلافوي جيجك والألمانية سوزان بيمان والإيطالي جورجو أغامبين والأميركية جوديت بتلر والكاميروني أشيل مبمبي
لم يصمت حيال هذه الجرائم فلاسفة كثر من أمثال السلوفيني سلافوي جيجك والألمانية سوزان بيمان والإيطالي جورجو أغامبين والأميركية جوديت بتلر والكاميروني أشيل مبمبي وغيرهم، فقد ذهب جيجك إلى التذكير بالمبادئ التي نهضت عليها حكومة اليمين المتطرّف برئاسة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، وتعطي “للشعب اليهودي حقّا حصريا وغير قابل للتصرّف في جميع أجزاء أرض إسرائيل. وستعمل الحكومة على تعزيز الاستيطان وتطويره، في الجليل والنقب والجولان ويهودا والسامرة (الضفة الغربية)”. أما جورجو أغامبين، الذي اجترح مفهوم حالة الاستثناء والإنسان المستباح أو الإنسان الحرام، وفضح في فلسفته سياسات الأنظمة الحديثة في الإحياء والإماتة، فقد كتب مقالاً مقتضباً بعنوان “صمت غزّة”، لكنه معبّر جداً، سَخر فيه من لامبالاة وصمت المجتمع الدولي حيال ما يحدث في غزة، من خلال التركيز على المفارقة التي تجمع بين فعل الإنصات لألم النباتات، مقابل التجاهل القصدي واللامبالاة حيال الألم الإنساني لأهالي غزّة، حيث كتب “أعلن علماء من كلّية علوم النبات في جامعة تل أبيب، أخيرا، أنهم سجّلوا بميكروفونات خاصة حسّاسة بالموجات فوق الصوتية صرخات الألم التي تُصدرها النباتات عند قطعها أو عندما تفتقر إلى الماء. أما في غزّة فلا توجد ميكروفونات!”. ورفضت جوديث بتلر “تحريف الانتقاد المشروع والضروري للظلم الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، وتحويله إلى تهمة معاداة السامية”، واعتبرت أن ما تقوم به إسرائيل حرب إبادة. وقالت إنها ملتزمة بوصفها مثقفة بإشادة “تمييز واضح، لفهم تاريخ معاناة الفلسطينيين ومقاومتهم في ظل القمع الاستعماري، المتمثل بالتهجير القسري، وسرقة الأراضي، والاعتقال التعسّفي، والتعذيب داخل السجون، والتفجيرات، والمضايقات والقتل. وهو ليس صراعاً بين طرفين، بل شكل من السلب العنيف الذي يعود تاريخه إلى عام 1948، إن لم يكن قبل ذلك، ولا يشكّل نكبة جديدة، بل استمراراً لنكبةٍ لم تتوقّف أبدا بالنسبة لملايين البشر”. ولم تكتف بتلر بالإدانة الشاملة للشر، بل سارت على خطى الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، بضرورة فهم تاريخه وسياقه وحيثياته، واعتبرت أن العنف الدامي، من غير الإقرار بعدالة حقيقية، يتمتع فيها الشعب الفلسطيني بحقه في تقرير مصيره، وتضع حداً للآلة الجهنمية الصهيونية، سيبقى قائماً. والأهم أن بتلر تعتبر الحرب من ناحية مفهومية غير مفصولة عن الحرب بوصفها واقعاً مادياً، وكلاهما يستدعي زيادة منسوب قلق الاستباحة عند المجموعات الـمستهدَفة، مقارنة بالاعتراف بقلق الاستباحة بوصفها مشتركاً إنسانياً، لذلك يخطّ اختلاف قلق الاستباحة حدّاً يفصل بين الحيوات التي لا يُؤسى عليها للمستهدفين وحيوات الآخرين الـمأسوف عليها، وعندها تظهر الرغبة في الإماتة قبل القيام بالقتل. وهو ما يظهره الاحتلال الإسرائيلي، حيث لا تعتبر إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، الفلسطينيين “شعباً”، الأمر الذي يفسّر عدم إظهار مسؤولين فيهما أي تعاطفٍ أو اهتمام بالعدد الهائل من الأطفال الذين يقتلون في غزّة، فالإسرائيليون يمتلكون سلطة إماتة (قتل) الطفل الفلسطيني في غزّة، ويحاولون إقناع العالم بأن أطفال غزّة ليسوا حقيقة أحياء، إنما جرى تحويلهم بالفعل إلى قطع من الدروع، والحديد، والـمعادن. وهو ما تفعله أغلب وسائل الإعلام في الغرب من خلال إبراز أطر مفاهيمية وبصرية لتحويل حياة الفلسطينيين إلى لا حياة، كي يصبح حينها لا موقف لدى العالم سوى أن يعدّ الـموتى واحداً تلو الآخر، بينما تجعل وسائل الإعلام نفسها من حيوات الإسرائيليين وحدها حيوات للحياة، ويجب الدفاع عنها بجميع الأثمان.
لا يمكن للفلاسفة إدارة ظهورهم لما يجري من حرب إبادة في الأراضي الفلسطينية
في المقابل، أصدرت مجموعة من أساتذة الفلسفة في عدة جامعات في أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية وأوروبا بياناً بعنوان “فلسفة لأجل فلسطين”، وقّع عليه أكثر من مائتي فيلسوف، عبّروا فيه “وبشكلٍ لا لبس فيه” عن تضامنهم “مع الشعب الفلسطيني وإدانة المذبحة المستمرّة والمتصاعدة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، وبدعم كامل، مالي ومادي وإيديولوجي، من حكوماتنا”. ولم يدّع هؤلاء الفلاسفة امتلاكهم أي سلطة فريدة، أخلاقية أو فكرية أو سوى ذلك، بوصفهم فلاسفة، إنما أصدروا بيانهم انسجاماً مع ما تقتضيه الفلسفة مواقف نقدية للشر، والانتصار لحقوق الإنسان، ورفض ومواجهة الممارسات والنزعات الإقصائية تاريخياً، والوقوف بشكلٍ مباشر مع المظالم. لذلك دعوا زملاءهم في الفلسفة إلى الانضمام إليهم للتضامن مع فلسطين، والنضال ضد الفصل العنصري والاحتلال، بغية التغلّب على التواطؤ والصمت الأكاديمي والسياسي، وإدانة جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.
لا يمكن للفلاسفة إدارة ظهورهم لما يجري من حرب إبادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأن قيم الفلسفة التي ينهلون منها متشبعة بإرث الإنسانية والأنوار، على الرغم من تعرّضها لحملة تافهة ممن فقدوا البوصلة الحقيقية للصراع الدائر، وتعاموا عن حقيقة أن الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي نهض على فكرة تفوّق القوّة العسكريّة الإسرائيليّة، التي أنتجت مقولاتٍ تدعو إلى معاقبة الفلسطينيين، ومنها ولدت فكرة محو غزّة مثلاً. وتصدُر هذه الفكرة عن خطابٍ فوقي، يفترض أن أي وجود فلسطيني في فلسطين التاريخية ليس أكثر من هبةٍ تقدّمها إسرائيل لهم، بما يتطابق مع مفهوم “سلطة الإحياء والإماتة” (Necropolitics) التي اجترحها الفيلسوف أشيل مبمبي، لوصف ممارسات العقلية الاستعمارية لإسرائيل.