رفع لافتة ضد قصف غزّة.

رفع لافتة ضد قصف غزّة.
في شهر تشرين من عام 1917، أي في مثل هذه الأيام غير الفضيلة، تعرضت القوات الإيطالية المشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى هزيمة مريرة أمام الجيشين الألماني والنمساوي، في ما عرف بمعركة كابوريتو أو “كارثة كابوريتو”، وهي معركة كان من شأنها أن تؤدي إلى انهيار الجبهة الإيطالية برمَتها، لولا تدخل “الحلفاء”.
كان جيش “المملكة الإيطالية” في حينها جيشاً محكوماً، نظرياً، بالتعبئة الأيديولوجية وبعقيدة القتال من أجل النصر ومن أجل “مجد #إيطاليا“، إنما في ظل غياب أي انسجام وأي احترام متبادل بين قادة القوات وعلى رأسهم الجنرال لويجي كادورنا وبين الجنود والضباط الأقل رتبة، وقد خسرَ كثيرون من هؤلاء الأخيرين حياتهم في المعركة أو في إعدامات جماعية طاولتهم بتهم الخيانة والفرار من الخدمة وعدم إطاعة الأوامر.
بناء على تلك المعركة وما حصل خلالها وبعدها، تحول الجنرال كادورنا من قائد لإحدى جبهات “الحرب العظمى”، إلى استعارة سياسية و”مذهب” في السلوك السياسي والعسكري، كثّفهُ المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي من خلال صياغته مصطلح “الكادورنيّة” أو Il Cadornismo. الكادورنيّة عند غرامشي هي مصطلح يشير إلى المواجهات السياسية أو العسكرية التي لا تأخذ الواقع والإمكانات في الاعتبار، وينجم عنها ضحايا كثيرون ليسوا في النهاية إلا أرقاماً يُضحّى بها، قبل إلقاء مسؤولية الخسائر والهزيمة على عاتق الأعداء أو المتآمرين أو الخونة، أو على كل هؤلاء معاً. صحيح أن جدالات غرامشي كانت أيضاً جدالات سياسية داخل المجموعة الشيوعية، من حيث إدانته الكادورنيّة السياسية داخل الكومنترن (1929-1930)، إلا أن كارثة كابوريتو تبقى معياراً عسكرياً وإنسانياً تصح قراءة كوارث عديدة في العالم، ومنه منطقتنا، بالاستناد إليه، وليست عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها “حماس” ضد اسرائيل بعيدة عن إمكانات تلك القراءة، بل ربما وقعت في صلبها.
ذاك أن “الطوفان” إياه كان ذهاباً في “النضال” إلى حدوده القصوى الممكنة، من دون أخذ الواقع وموازين القوى في الحسبان، كما كان فاتحةَ مذبحةٍ يختبرها الفلسطينيون اليوم باللحم الحي في مواجهة آلة قتل مجرمة ووحشية فالتة من كل ضابط “اسرائيلي” أو إقليمي أو دولي، وبمباركة وتشجيع من قادة فاعلين في العالم. مع ذلك، ثمة فارق أساسي بين كابوريتو وغزة ، فكادرونا وقف بعد الهزيمة مفتخراً بـ”الملحمة” وببطولات جنوده الذين أُعدم المئات منهم بأوامر منه شخصياً، في حين يخرج قادة “حماس” ليصرحوا بأن المدنيين الفلسطينين ليسوا مسؤوليتهم، بل مسؤولية الأمم المتحدة. تحيةُ الضحايا في الحالة الأولى، وإن شكلياً وللضرورة، لا تقارن بالتنصل العلني منهم واعتبارهم “أرقاماً” وأوراقاً في الحالة الثانية. ما عدا ذلك، تحط الكادورنية رحالها في غزة وبين صفوف قادة المقاومة من حيث مغامرتهم بأرواح الناس وفتحهم نيران الجحيم عليهم. نجا كادورنا من المعركة وتم اعتباره بطلاً بعدما قُتل الآلاف من الإيطاليين في موقعة دفعهم هو إليها، كما يتحصن قادة “حماس” في الأنفاق أو يقيمون خارج الأراضي الفلسطينية، ويطوّبون أبطالاً في عيون الملايين، بينما يبقى أهل غزة مكشوفين للنيران الاسرائيلية التي قتلت حتى الآن 11 ألفاً منهم، نصفهم تقريباً من الأطفال.
غير أن “الكادورنية” كسلوك وكـ”رذيلة تقامر بحياة الآخرين” بحسب غرامشي، ليست معزولة، وبناء على ما سبق، عن سلوكيات أو خطابات مرافقة لها، تصعد بصعودها وبالعكس. لعل أبرز تلك الخطابات هما خطاب “المكارثية السياسية” وخطاب “المؤامرة”. ففي الصحف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي العربية، تقف المانوية لتحصر الاصطفافات تجاه ما يحصل من حرب دموية بـ”نحن” و”هم”، وليغدو أي نقد لـ”حماس”، ناعماً أكان أم راديكالياً، اصطفافاً مفترضاً مع الجانب الاسرائيلي، وغني عن القول إن تهماً مثل “المتصهينين العرب” و”المتآمرين” و”المهرولين” و”المنبطحين” و”الأقلويين” و”كارهي الإسلام” وغيرها، لن تؤدي إلا إلى تشديد الرقابة على الأصوات النقدية خوفاً من أي اغتيال معنوي سيكون مؤلماً على الصعيد الإنساني أولاً، في لحظة جريان الدم الفلسطيني هذه. تبقى الأصوات الوحيدة التي يصعب أو يستحيل خنقها أو اتهامها بالخيانة او العمالة للخارج، هي أصوات أهل غزة وأهالي الاطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في هذه الحرب، ممن يفترشون الطرق ويوجهون كلامهم إلى قادة “حماس” ويحملونهم المسؤولية عن مآلاتهم، وهو ما شاهده العالم كله في فيديوهات باتت شهيرة ومتداولة.
اما في “المؤامرة” وعلى صعيدها، فالتفسير المؤامراتي، أو “المؤامراوي” بحسب تعبير ياسين الحافظ، لاحَقَ العرب أزمنة طويلة، لكنه كانت يسطع بشدة في لحظات الحروب مع اسرائيل. يعتبر الكاتب السوري الراحل أن السياسة الاميركية نفسها لم تخلُ من تذبذب. فبعدما أيدت قرار التقسيم، بل بعدما ألقت بثقلها السياسي لإقراره وكسب المؤيدين له من الدول المترددة، عاد مندوبها في هيئة الأمم المتحدة ليعلن في 19/3/1948 في مجلس الأمن تبدل السياسة الأميركية، فاقترح وقف قرار التقسيم وعقد هدنة في فلسطين ودعوة الجمعية العمومية للموافقة على مشروع وصاية على فلسطين. هذا التبدل في الموقف الأميركي يبين، بحسب الحافظ، ولكل من لم تسيطر عليه الرؤية المؤامراوية، كيف أن قرارات الدول الكبرى ليست نهائية ولا “مخططة منذ زمن بعيد” من قبل “عقول كلية الوعي”، بل هي أيضاً قرارات عادية تُصنع يوماً فيوماً أحياناً، وهي تتأثر بميزان القوى وبالأمر الواقع. وقد لعبت عوامل عديدة دورها في تعديل الموقف الأميركي. أما أن العرب لم يثبتوا في مواجهة “الييشوف” خلال الحرب، وفشلوا في السيطرة بالقوة على كامل الأرض الفلسطينية، فهذه حقيقة تنفي “المؤامرة” المزعومة وتفضح الوهم العربي الرائج والقائل إن قرار هيئة الأمم المتحدة الخاص بالتقسيم هو الذي أقام دولة اسرائيل. “بالحرب قامت هذه الأخيرة، وبالحرب توسعت، لا بقرارات من الهيئات الدولية، صدر العشرات منها لصالح العرب من دون أن تنفذ، لأنهم يفتقرون إلى القوة اللازمة لتنفيذها”.
لم يتغير شيء منذ حرب 1948 على صعيد “نظرية المؤامرة”، مروراً بهزيمة حزيران 1967 التي تم ردها فقط إلى “الجسر الجوي الأميركي المفتوح لصالح اسرائيل”، ثم حرب لبنان 2006 (التي عُدّت نصراً) وبعدها حرب غزة الحالية. فإذا صح، وهو طبعاً صحيح، أن اسرائيل تبقى مدعومة دعماً واسعاً من الغرب ومن الولايات المتحدة خصوصاً، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وهو ما بينته حرب هذه الأيام بأشد الأشكال سطوعاً، فإن هذا يقتضي توجيه سهام النقد العنيف لذلك الغرب الذي يصمت عن المجزرة (ويشجع عليها أحياناً) ويؤخر الدفع والضغط نحو وقف إطلاق النار، بقدر ما يستدعي نقداً لا يقل عن السابق تجاه “الكادورنيين” الذين بدوا كأنهم فوجئوا بالوحشية الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين ولم يحسبوا حساباً لها ولا للواقع والنتائج المحسومة سلفاً تبعاً لموازين القوى، ولا للدعم الغربي المتوقع، خصوصاً بعدما قدمت “المقاومة” نموذجها في الفتك بالمدنيين الاسرائيليين، وهو ما من شأنه ان يجيش كثيرين لصالح اسرائيل، بمعزل عن العقل والمنطق وعدد قتلى الطرفين والفوارق في آلة الحرب بينهما. هكذا، فإن الهزائم الكبرى التي نزلت ولا تزال تنزل بالعرب، تضعهم في موقع الاستمتاع بدور الضحية المتآمر عليها، من دون التطرق للأسباب السياسية، ولكن أيضاً الثقافية والحضارية، التي قادت إلى مآلاتهم الراهنة. ثمة أشرار يقودون العالم يواجهون أخياراً مناضلين، وليغلق النقاش عند هذا الحد.
يرى الكاتب ورئيس “حركة اللاعنف” في إيطاليا، ماو فالبيانا، أن هزيمة كابوريتو لا تعود فقط إلى تفوق الجيوش النمساوية والألمانية، بل يتحمل مسؤوليتها الجنرالات العائدون من المعركة، الذين ضحوا بآلاف من المزارعين والشباب الفقراء على الجبهة وأعدموهم. هذا ليس للقول الساذج بتشابه السياقات التاريخية، اليوم وفي الأمس، بين غربٍ وشرقٍ تتسع الهوة والفجوة بينهما يومياً بفعل ثقافات وسياسات وحروب، إلا أن التشابهات الكادورنية تبقى، وإن جاءت “مصادفة”، مدعاة للتأمل والتفكير ملياً، خصوصاً أن إيطاليا الفاشية في الثلاثينات والأربعينات اعتبرت الجنرال كادورنا “بطلاً من أبطال الأمة الإيطالية العظيمة”.