كيف توفق قنديل بين فلسفتها السياسيَّة ورؤيتها للعالم وبين علاقاتها الحالية مع الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين بمنطقة الشرق الأوسط؟
كيف توفق قنديل بين انتقادات أوجلان للحداثة الرأسماليَّة وبين علاقتها بأمريكا (بِوصفها تجسد الحداثة الرأسماليَّة)؟
وكيف توفق بين انتقادات أوجلان للديمقراطيَّة الغربيَّة الحديثة (أو ما بعد الديمقراطيَّة السائدة) وبين قبولها بالديمقراطيَّة الغربيَّة (مشروع مجلس سوريا الديمقراطيَّة الذي تسميه “بخارطة الطريق لحل الأزمة السوريَّة) كما هي وصفة جاهزة قادمة من الغرب كحل للصراع في سوريا (أي تكرار تجربة استيراد واستهلاك الديمقراطيَّة الغربيَّة كما حصل في كل من العراق وأفغانستان)؟
وكيف توفق بين انتقادات أوجلان للدولة القوميَّة وعلاقتها بأحد أعتى الدول القوميَّة في الشرق الأوسط (سوريا البعث)، حيثُ ترى قنديل في دمشق أفضل من يُمكن التفاوض معه بشأن مُستقبل البلاد، خصوصاً بعد أن وضعت المعارضة السوريَّة المدعومة من تركيا في خانة داعش بعد هزائم عفرين وسري كانيه وتل أبيض؟
وكيف توفق قنديل بين العصرانيَّة الديمقراطيَّة والإدارة الذاتيَّة بوضعها الراهن، حيثُ إنَّها مكانٌ للبيروقراطيَّة (التي ينتقدها أوجلان بشدة) والعسكراتيَّة (ينتقدها أوجلان بشدة ويرى بأنَّها إحدى أهم سمات الدول القوميَّة ذات الطابع الفاشي كالدولة التركيَّة على سبيل المثال)، والاحتكار التجاري (سلطة التجار والصرافين)؟
جوابي على هذه التساؤلات:
بكل تأكيد لا تستطيع قنديل التوفيق بين كل هذه التناقضات فيما لو نظرنا إلى الأمر من ناحيةٍ معياريَّة، أي هُناك معيارٌ مُحدد وعلى أساسه يتم التصرف وتتم المُمارسة العمليَّة. لذلك فهي تعيش أزمة أيديولوجيَّة حادة لا تستطيع النفاذ من وطأتها.
ولكن كيف لي أن أدافع عنها وعن الكُرد المرتبطين بها، وهل أنا مجبرٌ على الدفاع عنها وعَمَّنْ يعقدون الآمال عليها؟
الجواب: من جهة ترغب قنديل في تطبيق مشروع العصرانيَّة الديمقراطية إلَّا أنَّها ما إن تبدأ حتَّى تجد نفسها في وسط أزمات وحروب لا حصر لها. فالكُرد عموماً وقنديل خصوصاً في حالة طوارئ دائمة. ما إن تنتهي حربٌ حتَّى تبدأ أخرى، وما إن تنتهي أزمة حتَّى تبدأ أخرى بالظهور، وما إن تخرج قنديل من نفقٍ حتَّى تجد نفسها أمام نفقٍ آخر، هذا كله عدا الحرب التاريخيَّة التي لا تلبث مُستمرة ضد الكُرد حتَّى اللحظة، والتي تخوضها الدولة التركيَّة، والفارسيَّة، والعنصريَّة العربيَّة الإقصائيَّة ذات الطابع الإسلامي السياسي المُتطرف بأشكالٍ مُختلفة.
حالة الطوارئ هذه والتأهب الشديدة كَلَّفَتْ الكُرد عموماً وقنديل على وجه الخصوص خسائر في الأرواح (مقابر الشهداء) والجغرافية (عفرين، سري كانيه وتل أبيض) وفي القاعدة الجماهيريَّة (السخط والإحباط الشعبي العام), إلَّا أنَّ الكُرد ما يزالون مرتبطين بها.
ما تفسير ذلك؟
لن أتحدث باسم أنصار قنديل، إلَّا أنَّني سأبدي رأيي في الأمر.
الكُرد عموماً مُستهدفون ومُهددون بالتعرض للإبادة الجسديَّة والثقافية في أي وقت، وهم في حالة أسميها “تشابك وتقاطع أشكال مُعاداة الكُرديَّة” (بالألمانيَّة: Intersektionaler Antikurdismus)، أي توجد هُناك عدة أشكال لمُعاداة الكُرديَّة تتشابك وتتقاطع وتتزامن، وأحدها يغذي الآخر. والأدلة التاريخيَّة على ذلك كثيرة في الوقت المُعاصر. نذكر منها ما يتصل بكُرد سوريا:
أولاً: مارس حزب البعث العربي الاشتراكي مُعاداة الكُرديَّة لعقودٍ طويلة بسبب انتماء الكُرد لقوميَّة غير عربيَّة. العِداء على أساس عرقي (مشروع الحزام العربي، منع اللغة والثقافة الكُرديَّة، قمع انتفاضة قامشلو 2004، تحريض العرب على الكُرد على أساس عنصري).
ثانياً: أُصيبت المعارضة السوريَّة جراء التطورات والتغيرات الثوريَّة التي حدثت في المناطق الكُردية “بِرُهاب الكُرد”، وعملت على تمييزهم وإقصائهم بتهمٍ عدة: الكُرد انفصاليون، الكُرد أذيال الاستعمار، وخونة. العِداء على أساس سياسي.
ثالثاً: حارب تنظيم الدولة الإسلاميَّة أيضاً الكُرد في سوريا بتهمة أنَّهم كفار. العِداء على أساس ديني.
ويُضاف إلى ذلك البعد التاريخي لأشكال مُعاداة الكُرديَّة خلال القرن العشرين، حيثُ لدينا عِداء الترك التاريخي تجاه الكُرد، وهو عِداءٌ من نوعٍ مُختلف وخاص واستثنائي للغاية. نوعيَّةُ وخصوصيَّةُ واستثنائيَّةُ هذا العداء تكمن في أنَّه يستهدف الكُرد على صعيد الجوهر والوجود؛ أي أنَّه ليس عداءً على أساسٍ عرقي كما في حالة البعث في العراق وسوريا، أو سياسي كما في حالة المعارضة السوريَّة الحالية، أو على أساس ديني كما في حالة داعش وحسب.
إذ أرى أنَّ معظم حرب قنديل في العقود المُنصرمة تركز ليس في تحرير الأرض والجغرافية، وإنَّما في إثبات وجود الكُرد في وجه إنكار الدولة التركيَّة. فالقضية كانت كما عبر عنها أوجلان: “ومسيرة نضال الأعوام الثلاثين الأخيرة متجسدةً في PKK، قد جرى خوضها – فقط وفقط – من أجل قضية الوجود بالنسبة للكُرد. أي أنَّ هذا الكفاح كان بأحد المعاني بغية حسم سؤال: هل الكُرد موجودون أم لا؟” (أوجلان 2018: 70). إذ لا قضية سياسيَّة واجتماعية لشعبٍ غير موجود. فالإبادة الفيزيائيَّة المُمنهجة والمُوسعة والمُنظمة التي تعرض لها الهنود الحمر على يد الاستعمار الأوروبي أحالت ذاك الشعب من حالة “الوجود” إلى حالة “اللاوجود”، ولذلك فلا جدوى من الحديث عن قضية شعب الهنود الحمر الآن.
وبتتبع تاريخ مُعاداة الساميَّة في فترة الحكم النازي فسنرى الأمر نفسه ماثلاً أمامنا بوضوح. فمُعسكرات الاعتقال النازيَّة (بالألمانيَّة: Konzentrationslager) كانت بمثابة مصانع (Fabrik) تم فيها تحويل اليهود من أناس موجودين ولهم قضية إلى مجرد رماد. وما حديث النازيين عن الحل النهائي للمسألة اليهوديَّة (Endlösung der Judenfrage) إلَّا تعبيرٌ ساطع عن هذه الحقيقة.
ولطالما أرادت الدولة التركيَّة أيضاً وضع حلٍ نهائي مُشابه للقضية الكُرديَّة (Endlösung der Kurdenfrage), ولو لم تُعبر عنه حرفياً كما في حالة النازيَّة.
لذلك فأرى أنَّه من الخطأ الفادح أن نُقارن أربيل بقنديل بالقول: أربيل حررت الجغرافية (إقليم كُردستان العراق)، أمّا قنديل فلم تحرر شبراً من الأرض، وذلك لاختلاف السياق، واختلاف طبيعة العِداء وخصوصيَّة واستثنائيَّة وفرادة موقف الدولة التركيَّة من الكُرد.
المصدر:
أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية: القضية الكُردية وحل الأمة الديمقراطية، ديرك: مطبعة هركول.