حتّى وقت قريب، كانت معادلة القوّة في الشرق الأوسط محصورة بثلاث قوى إقليمية رئيسية: إيران، إسرائيل وتركيا. وهي دول تمتلك نفوذاً عسكريّاً، امتداداً أيديولوجيّاً وقدرة على التأثير خارج حدودها. اليوم، ومع تحوّلات السياسة السعوديّة والتطوّرات الأخيرة، تدخل الرياض على الخطّ كقوّة رابعة، لا من باب القوّة الصلبة فقط، بل كدبلوماسيّة توظّف الثقل الاقتصادي والنفطي لإعادة التوازن في الإقليم.
تجعل هذه الخريطة الجديدة من السعوديّة لاعباً لا يُمكن تجاوزه في أيّ نقاش في مستقبل المنطقة، من إيران إلى غزّة، ومن مضيق هرمز إلى البحر الأحمر.
تبرز المملكة العربية السعودية كقوّة دبلوماسية صاعدة تقود جهوداً طموحة لتهدئة الصراعات وإعادة تشكيل خريطة النفوذ في المنطقة
طهران ورقة بيد الرّياض؟
يأتي لقاء وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، في 3 تمّوز 2025، ليعكس دوراً سعوديّاً متنامياً كلاعب إقليمي محوريّ يحاول التوسّط بين إيران وواشنطن، في وقت ما زال ملفّ التطبيع مع إسرائيل محلّ شدّ وجذب.
كانت إيران لعقود تمثّل التهديد الأكبر لأمن السعوديّة، عبر وكلائها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. لكن اليوم، في ظلّ التحوّلات الجيوسياسية، تحوّلت طهران إلى ورقة تستطيع الرياض استخدامها بذكاء.
بعد القصف الأميركي والإسرائيلي للمواقع النووية الإيرانية، أصبحت إيران في وضع دفاعيّ، وتبحث عن ضمانات وحوار مع واشنطن لتفادي مزيد من التصعيد.
السعوديّة، التي باتت تحظى بعلاقات مباشرة مع طهران، أصبحت القناة الوحيدة التي يمكن لإيران عبرها الوصول إلى الغرب. وبعد لقاء الأمير خالد مع ترامب، ذكرت تقارير أنّ اتّصالاً جرى بين رئيس الأركان الإيراني والأمير خالد. بهذا المعنى، لم تعد طهران خصماً، بل أصبحت أداة تفاوض سعوديّة في أيّ حوار مستقبلي مع واشنطن، أو حتّى مع إسرائيل، التي تراقب وتتحسّس من تحالفات جديدة تقودها الرياض.
تحت إدارة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، أعادت المملكة صياغة سياستها الخارجية بأسلوب يوازن بين الطموح السياسي والمصلحة الاقتصادية، متسلّحة بـ”رؤية 2030″ التي تشترط استقراراً إقليميّاً حقيقيّاً.
بعد اتّفاق 2023 بوساطة صينيّة، نجحت الرياض في تخفيف حدّة التوتّر مع طهران، على الرغم من بقاء ملفّات خلافيّة مثل اليمن ودعم إيران للحوثيّين. اللافت أنّ هذا التقارب صمد حتّى بعد اندلاع حرب غزّة وتزايد الضربات بين إسرائيل وإيران.
كما استضافت السعودية قمماً بشأن غزّة، دعمت محادثات اليمن، وساهمت في احتواء النظام الجديد في سوريا ودمجه في المجتمع الدولي، بينما أدان الأمير محمّد بن سلمان علناً السلوك الإسرائيلي في غزّة ودعا إلى احترام سيادة إيران، في موقف أثار الانتباه إقليميّاً ودوليّاً.
بدعم من صندوق الاستثمارات العامّة وأسعار النفط المرتفعة، نسجت المملكة علاقات مع الصين وروسيا، ورفضت المشاركة في تحالف عسكريّ تقوده واشنطن ضدّ الحوثيّين، مفضّلة لعب دور الوسيط لا الخصم.
منذ عودة ترامب إلى السلطة، لعبت السعوديّة دوراً متقدّماً في فتح خطوط اتّصال بين طهران وواشنطن. فلقاء الأمير خالد مع ترامب حمل دلالات تتجاوز التنسيق الثنائي. وصفقة الأسلحة الضخمة بقيمة 100 مليار دولار ومناقشة اتّفاق دفاعيّ يعزّز الشراكة بين البلدين تقوّيان الدور السعودي كقوّة إقليمية.
على الرغم من الضغوطات الأميركية، رفضت المملكة الانضمام إلى الاتّفاقات الإبراهيمية دون تقدّم ملموس في القضيّة الفلسطينية، حتّى يكون الاتّفاق نتاج حلّ سياسي لا صفقة وقتيّة.
السعوديّة، التي باتت تحظى بعلاقات مباشرة مع طهران، أصبحت القناة الوحيدة التي يمكن لإيران عبرها الوصول إلى الغرب
الرّياض تفرض نفسها
على الرغم من الأهميّة الاستراتيجيّة التي توليها واشنطن لهذا الملفّ، لا يبدو أنّ الرياض مستعدّة للتطبيع في المدى القريب، لاعتبارات داخلية وخارجية.
– فلسطين أوّلاً: تشترط السعودية قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وهو مطلب تعزّز بعد حرب غزّة، التي وصفتها الرياض بـ”الإبادة”.
– توازنات إقليميّة معقّدة: التقارب مع إيران، وضربات إسرائيل المتكرّرة في سوريا وطهران، يجعلان من التطبيع مسألة محفوفة بالتعقيد.
– رأي عامّ رافض: أغلبيّة السعوديّين يعارضون أيّ تطبيع دون حلّ عادل للفلسطينيّين، وهو ما يجعل أيّ خطوة أحاديّة مخاطرة سياسية كبيرة.
إقرأ أيضاً: شركة سعوديّة تُرسّم الحدود اللبنانية – السورية..
في عام 2025، تبدو السعودية في موقع غير مسبوق. لقد تحوّلت من دولة تطوّقها الأزمات إلى قوّة تصوغ التفاهمات. من خلال وساطتها بين إيران وأميركا، وانخراطها الحذر في ملفّ التطبيع، وتعزيز موقعها بين القوى الإقليمية الكبرى، تفرض الرياض نفسها كصانعة توازن جديدة.
في مشهد إقليمي بات يحكمه رباعيّ النفوذ (السعودية، إيران، تركيا، إسرائيل)، لم تعد المملكة وسيطاً ومنسّقاً للمفاوضات وحسب، بل قوّة مستقلّة ترسم سياسات وتفرض شروطاً. ومع استمرار جهودها لتحقيق توازن بين المصالح، تبدو المملكة على طريق لعب دور مركزيّ في إعادة تعريف الشرق الأوسط.