في حوار مع “القدس العربي” سنة 2018 سُئل الباحث اليهودي المناهض للصهيونية إيلان بابيه، ما هو أبرز خطأ ارتكبته الحركة الوطنية الفلسطينية تاريخياً؟ فأجاب: “ارتكبت أخطاءً عدة، ولكن من المهم التذكير بسياقها. لديّ شعور أنّه لو لم يرتكب الفلسطينيون أي خطأ فإنّهم سيجدون أنفسهم بالمكان ذاته اليوم. هذا لأنّ الفلسطينيين واجهوا ائتلافَ قِوى لم يكن أي شعب يستطيع أن يسجّل مواجهة أفضل منه. الولايات المتحدة والدول الأوروبية قالتا للفلسطينيين: الآن أنتم ستسددون ثمن كل ما فعلناه لليهود. القيادة الفلسطينية ليست على ما يرام، وفسادها أحياناً يقتلني، والوحدة الفلسطينية الداخلية مرعبة. ولكن لنفترض أنّهم تحاشوا كل ذلك، فإنّ النتيجة تكون ذاتها. احتمالهم الوحيد هو كاحتمال السود في جنوب إفريقيا، حينما تدخّل العالم ومارس ضغوطاً حقيقية لتغيير موازين القوى وغيّر الواقع، والعالم الآن ليس مستعداً بعد لذلك”.
هذه الخلاصة القاسية هي أحد الوجوه الحقيقية في ما يجري من مجازر في قطاع غزة منذ أكثر من أربعين يوماً، أظهر فيها الغرب الرسمي ازدواجية فظيعة في المعايير، وبؤساً أخلاقياً عند تغطية الآلام الإنسانية للأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، مقارنة مع ما صنعته مع اللاجئين الأوكرانيين عندما استهدفتهم آلة الحرب الروسية.
بشاعة المشهد في غزة أصبحت معها مشاهد 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مجرد لعب أطفال، وليس كما قال البعض في لحظة حماسة، إنّها عملية غيّرت قواعد الاشتباك وإنّها أسقطت الهيبة المصطنعة للجيش الإسرائيلي، بل ما يُشاهد اليوم وبغض النظر عن تجديد تعرية الوجه الدموي لإسرائيل، ما هو سوى خسارة أخرى أمام القوى الغاشمة، وكما كل الحروب السابقة مع إسرائيل فإنّ النتيجة هي التهجير وخسارة الأرض وذلك منذ 1947.
صحيح أنّ المناخ العام المتعاطف والغاضب لا يسمح بالقيام بقراءة نقدية لمجمل الأحداث منذ بدايتها إلى توغل القوات الإسرائيلية في قطاع غزة واقتحامها مقاراً سيادية لحركة “حماس” وإحكامها حصار القطاع، لكنّ الواجب يقتضي إثارة هذا الوضع ومساءلته مساءلة جادّة بعيداً من منطق الجمهور الذي قد ينخدع اليوم كما انخدعنا بالأمس بالصحّاف الذي كان يحدّثنا عن دحر العلوج الأميركان، بينما كانت قوات المارينز الأميركية قد أحكمت قبضتها على بغداد، وكان الجنود الأميركيون يُسقطون تمثال صدام حسين فيما المواطنون العراقيون يضربونه بنعالهم، أو كما انخدعنا سابقاً بصوت القاهرة وخِطَب جمال عبد الناصر قبل أن تظهر النكسة صريحة وواضحة.
يقول المفكر الفرنسي إيمانويل تود Emmanuel Tood: “يُخطئ المثقف هدفه الأساسي، إذا استكان إلى خطاب العامة، ووافق الجمهور في كل ما يذهب إليه صوناً للإجماع الوطني”، قال تود ذلك في لحظة فاصلة من حياة فرنسا، عندما تحوّل الإرهاب في حادثة “شارلي”، إلى حافز لإجماع وطني قسري مُسيج بشمولية قاتلة تناقض المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية من حرّية التعبير والرأي، فكان إيمانويل بذلك حالةً فريدة، غرّدت خارج السرب وطرحت على فرنسا الشعبية والعالمة أسئلة عميقة تتعلّق بالهوية وبالوعي السوسيوثقافي والديني للمجتمع الفرنسي، وقد جاء ذلك متضمناً في كتابه المثير “من يكون شارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية”.
قد يكون الإجماع، سواء الوطني أو القومي أو الديني، مسألةً حيويةً ومهمّة في تاريخ الشعوب في لحظات فاصلة من مسيرتها، وبغض النظر عن الصور التي يحملها التاريخ عن نماذج الإجماع، فإنّ بعضاً من صورها كانت من دون شك خادعة ومنعت أصواتاً من التعبير عن نفسها، وحرمت كثيراً من القضايا العادلة، من وجهات نظر، لو تمّ الاستماع إليها في حينها، لتغيّر كثير من صور التاريخ ومصير جماعات وأفراد.
عادةً ما يحصل خلط غير مبرّر بين الإجماع على قضية، من حيث عدالتها ورمزيتها، وبين طرق تدبيرها… مناسبة هذا القول هو ما يعرفه الشعب الفلسطيني في غزة من إبادة جماعية وتدمير، سيعود بالقطاع عقوداً طويلة إلى الوراء، ناهيك بالقصص الإنسانية المؤلمة التي تكثف خسارات لا تُعوّض. والسؤال هو، هل كانت قيادة الجناح العسكري لحركة “حماس” تقدّر حجم الردّ الإسرائيلي؟ أم أنّها كانت مأخوذة بالحماس وتطارد نصراً إعلامياً تبخّر سريعاً؟ فإذا لم تكن القيادة العسكرية تتوقّع ما يحدث، فهذا دليل على أنّها تعاني قصوراً مزمناً في التقدير السياسي وعدم الكفاءة، أما إذا كانت تتوقع ذلك، فإنّها تتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية عمّا يحدث.
حركة “حماس” تعاملت مع قطاع غزة بازدواجية المقاومة والسلطة/الدولة، فهي منذ 2007 تتصرّف كحاكم مطلق في القطاع، من الترتيبات الأمنية مع الجيش الإسرائيلي إلى التصرّف في نصف ميزانية السلطة الفلسطينية التي تُحوّل إليها من إسرائيل، إلى التحكّم الكامل في ممرات التهريب وأسعار السلع. وبما أنّ “حماس” تصرّفت منفردة في اتخاذ قرار الحرب، سواء تعلّق الأمر بالداخل الفلسطيني أو في ما يُعرف بمحور المقاومة الذي تنصّل من عملية “طوفان الأقصى” كما كشف ذلك بوضوح زعيم “حزب الله” حسن نصر الله وأكّده مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي في لقائه مع إسماعيل هنية، معنى ذلك أنّ تبعات قرار الحرب تتحمّلها “حماس” وحدها، إذ لا يمكنها تارةً التصرّف بمنطق الدولة وتارةً أخرى بمنطق المقاومة، مثل ما صرّح القيادي في “حماس” موسى أبو مرزوق عندما سُئل عن السبب الذي جعل “حماس” التي بنت قرابة 500 كلم من الأنفاق التي تضمّ مخابئ مقاتليها وورش تصنيع الصواريخ ومخازن المؤن والأدوية، تعجز عن بناء ملاجئ للمدنيين ممن يشكّلون اليوم حطب الحرب، إذ قال إنّ “حماس” “بنت الأنفاق لحماية المقاتلين من الطيران الإسرائيلي، أما سكان قطاع غزة فـ75 في المئة منهم هم لاجئون ومسؤوليتهم تقع على الأمم المتحدة بل وعلى الاحتلال الإسرائيلي، من خلال ضرورة احترامه لاتفاقية جنيف الدولية الخاصة باللاجئين”. هذا المنطق هو ما يجعلنا نفهم حديث إسماعيل هنية عن كون المقاومة بخير، إذ لا يهمّ سوى سلامة المقاتلين في الأنفاق، أما أعداد القتلى من المدنيين والتدمير الكامل للبنية التحتية وحرمان الناس من مساكنهم وممتلكاتهم التي تمثل تعب العمر، فلا قيمة لها ومصير هؤلاء بيد إسرائيل المجرمة…
“حماس” تطالب اليوم بالهدنة بعدما وصلت القوات الإسرائيلية البرّية إلى قلب غزة وحاصرت أهم مرافقها الصحية والسيادية. “حماس” التي قال زعيمها في غزة يحي السنوار في أول تصريح له بعد “طوفان الأقصى”، إنّ الرهائن سيُطلق سراحهم فقط إذا أفرجت إسرائيل عن كل الأسرى الفلسطينيين في سجونها، والحال أنّ المفاوضات اليوم لا تتجاوز الحديث عن أعداد متساوية تضمّ نساءً وأطفالاً، بل إنّ إسرائيل هي من يماطل في إتمام الصفقة.
قطاع غزة الذي لم تكن القوات الإسرائيلية تدخله وليس فيه مستوطنات، أضحى اليوم خراباً، وما يُخطّط له أسوأ مما يجري في الضفة الغربية والقدس الشرقية. والسؤال إذاً، ما هي المكاسب التي تحقّقت للشعب الفلسطيني بعد عملية “طوفان الأقصى”؟ صحيح أنّ “حماس” قادرة على مقاومة القوات الإسرائيلية لشهور أخرى، لكن ما هو الثمن الكامل الذي يجب على أهل غزة دفعه جراء ذلك؟