بعد 7 تشرين الأول بأسبوع تقريباً، انتهت معزوفة السؤال الأول السقيم والمحشو بالبلاهة: “هل تدين حماس؟ هل تدين الإرهاب؟”. فقد بدأت تصل الصور من غزة وهي تحمل ما يفوق رعباً صور الهجوم على المستوطنات الإسرائيلية وثكنات غلاف غزة.

بكمّ خيالي من الحقد والكراهية والعداوة المطلقة، شنت إسرائيل حرباً شعواء واستثنائية بعنفها وهمجيتها، وربما لا يمكن مقارنتها سوى بحرب بشار الأسد على الشعب السوري، أو حرب بوتين على الشيشان. وبزمن أبعد، تشبه الانتقام النازي من انتفاضة وارسو عام 1944.

كل ما يمكن وصم حماس به بدا هزيلاً إزاء ما اقترفته وتقترفه إسرائيل، وعلى نحو يصعب معه تدريجياً إدانة حماس أو التشدق بإدانة الإرهاب. وإلى حد أن البروفسور الإسرائيلي، عومير بارتوف، أحد أهم الباحثين في “الهولوكوست” وتاريخ الإبادات، لم يتردد في وصف حرب غزة بأنها ليست فقط تنطوي على جرائم حرب أو تطهير عرقي، بل هي “حرب إبادة” مكتملة المعنى. وفي حديثه مع التلفزيون الألماني، وصف بدقة الفارق بين “معاداة السامية” و”نقد إسرائيل”.

مراسل CNN المزهو بنفسه وهو يدخل “مغامراً” إلى غزة في مدرعة إسرائيلية، سرعان ما سيمتقع وجهه، عندما يخرج منها ليرى ما لا يمكن لكاميرا احتواؤه من دمار شمولي، فيما يدله ضابط إسرائيلي على مدخل نفق وألواح شمسية تغذيه بالكهرباء، مشيراً إلى مدرسة قريبة ومستشفى على بعد مئتي متر. إلا أن المراسل التعس، راح يكرر لاإرادياً السؤال: لكن لماذا كل هذا الدمار؟ وبمعنى ضمني: أمن أجل بضعة كلاشينكوفات وألواح شمسية ونفق، ترمون ما يوازي قنبلة نووية، وتقتلون 11 ألف إنسان جلهم من الأطفال والنساء؟

لم يعد كل الإعلام الغربي يسأل عن إدانة حماس والإرهاب، صار مشغولاً بتبرير أو تسخيف أو إنكار الحقائق المروعة، بوصفها “اضطراراً” لا مفر منه طالما أن حماس تختبئ بين السكان أو في المدارس والمستشفيات.. وكأن جغرافية غزة بحجم ولاية تكساس أو كأن حماس كائنات فضائية. فإن وقف أي امرئ في أي مكان بغزة، فسيكون إما قرب مسجد أو مدرسة أو مستشفى أو بناية سكنية (غزة من أكثر مناطق العالم اكتظاظاً).

على أي حال، وبعد 41 يوماً، وتهجير مليون ونصف مليون إنسان، وتسوية مناطق بأكملها بالأرض، وإعدام الحياة في بلدات وتجمعات سكانية، ومذبحة آلاف الأطفال، حقق الجيش الإسرائيلي هدفه الكبير: الدخول إلى مستشفى الشفاء.

هنا، سيكتب التاريخ عن أتفه انتصار عسكري استلزم كل هذا الإجرام وكل هذه المستودعات من الذخيرة “الذكية”: جهاز كمبيوتر، وبضعة كلاشينكوفات، وبدلات عسكرية.. وسكين (نعم، راح الضابط الإسرائيلي يشير إليه كغنيمة كبرى). وحدث هذا الانتصار- الفضيحة بعد محادثات على أعلى مستوى بين واشنطن وتل أبيب وعواصم غربية أخرى، ليعطى الضوء الأخضر لـ300 ألف جندي إسرائيلي ومئات الدبابات والمدرعات لاقتحام المستشفى.

ما لم تستطعه حماس في معاركها داخل غزة بإلحاق الخزي والعار بالعدو، فعله الجيش الإسرائيلي بنفسه داخل مستشفى الشفاء. فضيحة من العيار الذي سيلحق بتاريخ إسرائيل ضرراً لا يمكن إصلاحه. وستكلل ما يتراكم من أدلة دامغة على سياسة “الإبادة”.

لكن لماذا تفعل إسرائيل هذا كله، بغزة وبالضفة؟

بالتأكيد، ليس مجرد انتقام، وبالطبع ليس له صلة بتحرير محتجزين ورهائن. بمراجعة غير متحاملة لكل السياسات الإسرائيلية منذ أواخر التسعينات –على الأقل- هناك حلم إسرئيلي يجري تنفيذه بتصميم وعناد: من النهر إلى البحر. الشعار الذي يرفعه كثر من مؤيدي حركات المقاومة والممانعة وحماس والجهاد وغلاة المؤيدين للحق الفلسطيني، هو برنامج عمل إسرائيلي مضاد: لا فلسطيني ولا فكرة فلسطين.. فقط إسرائيل اليهودية تماماً من النهر إلى البحر.

الإسرائيليون على قناعة متزايدة أن لا أمان لهم إلا بإبادة الوجود الفلسطيني، قتلاً أو تهجيراً. قناعة تضمر حرباً استئصالية طويلة الأمد.

هذا تلقائياً يجعلنا، نحن الذين تأمّلنا أو ظننا بإمكانية السلام وفق حل الدولتين، نقول: إذا كان لا بد من عقيدة “من النهر إلى البحر” فلتكن فلسطين لا إسرائيل.

وهذا بالضبط، ما سيذهب إليه الفلسطينيون والعالم العربي والمسلمون مجدداً، بعد عقود من التسليم الواقعي بوجود إسرائيل واستعداد لتقبل دولتين وشعبين على أرض فلسطين التاريخية.

هذا بالضبط ما سيشهده العالم لمئة عام أخرى.