يحمل الحديث عن الشام (بمعناها الأوسع) أو لنقل بلاد الشام، أشجانا عديدة. فهذه البقعة الجغرافية، التي ظلّت لقرون طويلة مكانا يقصده طلبة العلم والرحالة والتجار والمتصوفة، ليتغنوا بمدنها وأنهارها، تسقط اليوم واحدة تلو الأخرى. من حلب ودمشق إلى القدس وبيروت وغزة، وحتى القاهرة القريبة، التي أخذت أحزمة الفقر تحاصرها من كل زاوية، ولذلك لا يبدو غريبا أن يندفع البعض في ظل هذا التدهور، إلى الحديث عن ماضي مدن بلاد الشام، وما عرفته من تطور حضري وديني في فترات زمنية مختلفة. بيد أنّ هذه القراءة للماضي، رغم أهميتها، تبدو متحيزة أحيانا. فهي وإن حاولت الدفاع عن ماضي هذه المدن التي تشهد إبادة كاملة، لكنها أيضا تتعامل مع التاريخ بانتقائية. فهي لا تركز سوى على الزمن البطولي، بينما لا توفر لنا بالمقابل قراءة كافية لواقع هذه المدن وتطوراته، وما عرفته أيضا من قلاقل وحروب وانقسام ودمار واسع. فعلى صعيد مدينة دمشق مثلا، توحي بعض كتابات المؤرخين المعاصرين، وكأن المدينة عاشت فترة من الرخاء والاستقرار في زمن العثمانيين فحسب، بينما تبين لنا بعض اليوميات التي دونها بعض الدمشقيين آنذاك، أنّ واقع المدينة لم يكن مستقرا دائما، وأن الصراعات المحلية بين نخبها لم تتوقف، وأن المدينة ظلت تعيش توترا مستمرا بين القوى المحلية والسلطة المركزية.
وربما التركيز على رسم صورة أخرى غير صورة الاستقرار، هو ما شغل الروائي الراحل خيري الذهبي، وحاول التقاطه في آخر نصوصه المنشورة بالعربية. كان الراحل قد حاول في السنوات الأخيرة قبل وفاته، أن يبيّن لنا من خلال سيرته وعدد من النصوص الروائية، أنّ مدينة دمشق (ومدن الشام عموما) من القدس إلى بيروت، التي شهدت تطورات حضرية، مع نهاية القرن التاسع عشر، لم تكن مدنا للتجارة والعقلانية فحسب، كما تحاول بعض السرديات قوله عن المدن وأبنائها. إذ اكتشفنا من خلال الذهبي أن هذه المدن أيضاً كانت مدنا للمجانين والجنون، وأن الصوفية وعالمها اللا عقلاني وقصصها، لطالما حفظت لأهل المدينة القدرة على استعادة الحق في التخيل وفق تعبير الأنثربولوجي أرجون أبادوراي، وهذا ما يكفل الدفاع عنها.
وقد عاد الذهبي وترك لنا قبل وفاته عدة أوراق عن تاريخ دمشق وبلاد الشام عموما، صدرت بعنوان «عود ثقاب قرب حقل جاف» دار المحيط للنشر. ومن العنوان نكتشف أنّ الشام هي بمثابة مكان قابل للاشتعال على مدار التاريخ، وأنّ مدن بلاد الشام لم تعش حالة من الاستقرار الدائم، بل لطالما عاشت فترات عصيبة، ومذابح وحروب إبادات واسعة. وقبل الخوض في أفكار الذهبي هنا، وجبت الإشارة إلى أنّ المتابع لمقالات الذهبي في هذا الكتاب وغيرها، ينبهر من إطلاعه الواسع على تاريخ هذه المنطقة، وقراءته لنصوص العامة، وكل ما كتب تقريبا عن هذه المنطقة. وربما ما جعله أيضا يبدع ويتفوق أحيانا على المؤرخين في قراءتهم لتاريخ هذه المنطقة، خياله الروائي، الذي جعله دائما يفاجئنا ويشعرنا بحالة من الغبطة، والحزن في الوقت نفسه. وذلك لفقداننا هذا العالِم الدمشقي ومهاراته في إعادة قراءة تفاصيل جديدة عن مدينة دمشق وباقي مدن الشام، ولاسيما ما يتعلق بهوامش المدينة والحروب والكتابة.
وكما نجح في الكشف عن صورة الجنون والمجانين في الشام، كاسرا بذلك صورة المدينة العقلانية وأولادها الباردين، الذين لا يهتمون سوى بالتجارة وفق السردية العقلانية، نراه في هذا الكتاب يكشف عن الشام الهامشية. فخلافا للفترات الأموية والنورية (نور الدين الزنكي) يرى الذهبي أنّ دمشق والشام عموما عاشت على الهوامش ولم تكن مركزا رئيسيا. وعلى الرغم من أنّ هذه القراءة قد تثير نقاشات واسعة حول دور المدن الشامية في فترات معينة، لكن الذهبي هنا لا يقصد من فكرة تهميشه لهذه الجغرافية التقليل من أهميتها، بل يعتقد أنّ الشام ظلت تدفع ثمن تمزّقها الجغرافي والثقافي وعجزها عن تشكيل دولة كبيرة موحدة. وهذا بالمناسبة ما نراه حتى يومنا هذا. فالشام الجغرافية اليوم هي مقسمة بين عشرات الجماعات والطوائف والميليشيات، والتي يمتلك كل منها سرديته ومظلوميته الخاصة.
يعتقد الذهبي أنه منذ روما، التي قامت بإعادة تشكيل مؤسسة الدين ليصبح دينا دولتيا، فعقدت «مجمع نيقيا» لتوحيد الرأي حول المُختَلف عليه في الدين، رفض الشاميون التخلّي عن رؤاهم للدين الذي نشأ في أحضانهم والانضواء تحت وحدة الدين الدولة. والغريب أنّ الصليبين القادمين من دول كبرى موحدة تقريبا في أوروبا خضعوا للجغرافية الشامية غير القادرة على صنع دولة موحدة، وهكذا تمزقوا في إمارات لم تستطع تشكيل دولة صليبية موحدة أبدا، فشكلوا إمارة أورفة، وإمارة أنطاكية، وإمارة طرابلس، وإمارة بيت المقدس.
ومع قدوم المماليك، نراهم يتعاملون مع الشام وكأنها أملاك، ومخافر أمامية يتخلّون عنها عند الهزيمة، أو التهديد الأول من الغازي، حتى إذا استسلمت وقُتِل رجالها، واستبيحت نساؤها، ونُهِبت ثرواتها عادوا لجمع الخراج. وقد نختلف هنا بعض الشيء مع التعميمات التي يرسمها الذهبي عن المماليك، بوصفهم فرسانا لا يملون من الاقتتال في ما بينهم. وهي بالمناسبة صورة حكمت رؤية باحثين كثر للمنطقة، مثل الفرنسي ميشيل سورا، الذي تأثر بعبد الله العروي، وجاء ليقول لنا إن فترة السبعينيات والثمانينيات في سوريا ليست سوى امتداد للمدينة المملوكية وصراعات قادتها! بينما يكشف لنا المؤرخ الفرنسي جوليان لوازو في كتابه الشيق «المماليك من القرن الثالث عشر حتى السادس عشر» أنّ فكرة الاستقرار لدى المماليك كانت هي الطاغية على فكرة الصراع المستمر. كما كشف أنّه رغم محاولات السلاطين منع جنودهم من الاستقرار في المدينة، والبقاء في القلعة، إلا أنهم رفضوا ذلك، وفضلوا العيش مع العامة، ما أدى إلى حدوث تحول حضري كبير في مدن مثل دمشق والقاهرة. كما نكتشف أن تمارين الخط المدرسي التي قام بها صغار المماليك في مدارسهم، تظهر تنوع المؤلفات التي كانت توضع بين أيديهم.
من قصص الأنبياء، وحياة محمد، ودواوين شعر ديني، ومقالات في فن السياسة، ومرايا الأمراء، ما يوحي بأننا أمام أشخاص لم يكونوا مقاتلين فحسب، بل أيضا امتلكوا حسا ثقافيا، بمعايير ذاك الزمن. لكن وإن تجاوزنا هذه الجزئية، وعدنا لخيال الذهبي الممتع والشيق، نقف معه عند خليله البديري (أو البدير) في القرن الثامن عشر، الذي صاحبه لثلاثين سنة، وقرأ يومياته لأكثر من عشر مرات. إذ نرى هذا الحلاق فعلا يشكو حال دمشق، التي أخذت تدفع ثمن الانكشارية والقبوقولية، ما انعكس على حياة الفقراء والعوام فقرا وجوعا وقحطا وطاعونا وقتلا بالخنق.
ولذلك، نرى أنّ مركز السلطة وبيت المال لطالما غادرا الشام، إما إلى القاهرة المملوكية، أو إلى إسطنبول العثمانية، تاركين دمشق للهامشية والتآكل الذاتي. ولولا إنّها كانت المحطة الأخيرة على طريق الحج، وكان الحجاج مضطّرين إلى التوقف فيها، لاضمحلت إلى قرية أو اندثرت، كما اندثر كثير من المدن التي غادرتها القوافل.
وبالتالي نرى دمشق ومدن الشام في هذه الصورة، تعاني من هامشية وتدهور في دورها، وربما في هذا المشهد ما يخفف قليلا من حالة الحيف والحزن التي تعيشها نخب هذه المدن اليوم، وهي تراقبها كيف تتدهور من سيئ إلى أسوأ.
اللافت في قراءة الذهبي، ليست هذه الصورة الهامشية فحسب، التي يرسمها عن مدن الشام في فترات معينة، بل لأنه يرى أن هذه الهامشية بقدر ما عزلت هذه المدن، فهي في المقابل أتاحت الفرص لأهلها ليلعبوا ويقدموا أدوارا جديدة، خلافا للأدوار المحلية التي اعتادوها. وكمثال عن هذه القراءة، يقدم الذهبي مقارنة فريدة بين مثقفين من المدينة. الأول هو ابن صصري، وهو عالم دمشقي ألّف في نهاية القرن الرابع عشر كتابا بعنوان «الدرة المضيئة في الدولة الظاهرية». وفي هذا النص نرى ابن صصري مؤرخا مهموما بالمحلي، وبواقع مدينة هامشية مقارنة بالقاهرة. وقد عبّر هذا الموقع الهامشي والبعد المحلي عن نفسيهما من خلال نصه الذي حاول فيه تتبع أحوال العامة والمجاعة حتى أكل الناس الكلاب، مقابل مشهد ترف السلطان برقوق وحاشيته، قبل أن يأتي تيمور ويفر ابن برقوق إلى مصر تاركا دمشق لقدرها. في المقابل ومع غزو تيمور للمدينة، وجره للمئات من أبنائها، نكتشف شكلاً آخر من الكتابة، ومن الحس النقدي ومن قراءة العالم من منظور كوني. وهذا ما عبّر عنه مثقف دمشقي آخر هو ابن عربشاه، مؤرخ وأديب. فقد تغير العالم بعد غزوة تيمور ولم يعد الدمشقيون مع هذا التحول أبناء لمدينة طرفية عزلها النظام المملوكي عن العالم، كما في حال ابن صصري، بل هنا جدلية التاريخ تحكم. فابن عربشاه، هذا قد خرج إلى العالم، لقد جرّه تيمور معه إلى سمرقند من بين من جر من أسرى العالم الإسلامي الذي هده تيمور، وهدم أركانه بدءا من بلاد ما وراء النهرين، ووصولا إلى إيران الحالية وأذربيجان والهند وباكستان والعراق. لكن وعلى الرغم من هذه الظروف، نلاحظ أنّ مثقفنا الشامي (ابن عربشاه) كان مفتوح العينين بشكل مذهل، بما يذكر بعيني الجاحظ وابن خلدون، وها هو يتحدث عن اللغات والخطوط والأقوام التي عرفها في هذه الرحلة. فيقول: وفي الخط (شعب على حدود الصين) لهم خط يسمى دلبرجين.. وبهذا الخط يكتبون تواقيعهم ومراسيمهم). نرى في هذه الملاحظات التي دونها الذهبي كيف أنّ الحرب دفعت بالمثقف المحلي الذي مثله ابن صصرى إلى أن يغدو مع ابن عربشاه جراء الظروف مثقفا كونيا. وهذا ما يظهر أيضا، كما يرى الذهبي، من خلال عنوان نصه (عجائب المقدور في أخبار تيمور). فهو لم يجعل مدينته دمشق وما حصل لها مركز الكون والكتاب، بل نظر إلى ما فعله بها تيمور على أنه جزء من حركة كونية قام بها هذا الرجل لتغيير وجه العالم. فتيمور عدوه الذي هدم مدينته ومدائن الإسلام، إذ به يحدثنا عن حزمه وعن ضبطه لشعوب لا تضبط.
وبذلك نرى أنّ الحرب أحيانا بقدر ما تكون وبالا على المكان والذاكرة والبشر، إلا أنها قد تفتح الأبواب أيضا أمام مثقفيها لمعرفة العالم، دون أن يعني ذلك أنه لا بديل عن الحروب للتغيير كما يبشرنا بذلك بعض المنظرين في تاريخ العنف. وإنما قد تكون الحروب بمثابة دروس للنخب المثقفة لتقف قليلا وتقرأ ما يجري حولها، علها تتمكن من اقتراح حلول واقعية، أو على أقل تقدير تقدم قراءة أكثر وعيا لما يجري حولها. أما أن تبقى هذه النخب تلعب دور ابن صصري المحلي في تتبّع الفقر والموت والظلم، دون أن تحيط بتجارب غيرها، أو لا تلتف لها على أقل تقدير، فلا يعني سوى المزيد من الانسحاب من الواقع، ومن الغوص في الماضي الجميل والحاضر المأزوم.
كاتب سوري