الشيخ نعيم، وقد بات أميناً عاماً، ليس معذوراً إذا كان لا يعلم أن هذه الحرب ليست حرب تموز 2006. مشكلة كبيرة إذا كان الشيخ يظن أن هذه الحرب، إذا توقفت غداً، ستكون انتصاراً. هي ليست انتصاراً لا للحزب وقد فقد من فقد، وخسر ما خسر، ولا لنظرية الردع وتوازن الرعب وقد شهدنا بؤسهما، ولا لحماية المدنيين وجنى أعمارهم.
“وقته معه الشيخ نعيم قاسم”، لديه متّسع منه ليحلل ويناقش ويتلو آيات من الذكر الحكيم، لا بأس بطولها، مستنبطاً منها اسماً للحرب الحالية بعد أكثر من سنة على اندلاعها، وقبل مرور شهرين على وقوع الكارثة.
سماها، بعد تشاور، “أولي البأس”. لا بأس. في خطاب الحرب الأول له بعد انتخابه أميناً عاماً، ألقى بهدوئه ورزانته المعهودين، محاضرة تثقيفية دينية يخبر فيها الحضور الافتراضي، حيث هو هذا الحضور، أن الأمور على أحسن ما يرام، تقريباً.
قدّم الشيخ نعيم السير الذاتية للصف الثاني في القيادة، فهذا خريج هندسة، وذاك خضع لدورات، وذلك حارب في لبنان وسوريا. ضرب أرقاماً بأرقام، وجمعها وقسمها ووصل إلى مجموع يطمئن بأن العدو أيضاً يتألم. قال إنه سمع عن استغراب إسرائيل، فما هذا الرصاص الذي يستخدمه الحزب؟ وأجاب أنه غير متوافر في الأسواق. رصاص فيه إيمان وتوكّل على الله.
هذا إيمان لا يلام عليه رجل الدين. لا يلام لا عليه ولا على غيره مما قاله في الساعة الطويلة البطيئة من خطابه. الشيخ نعيم انتخب أميناً عاماً في أحلك لحظات الحزب، مضطراً لا بطلاً، بعد سلسلة من جرائم الحرب الإسرائيلية المتناسلة واحدة من الأخرى، بدءاً من البايجرز وانتهاء باغتيال السيد هاشم صفي الدين، مروراً بالطبع بالغارة التي قتلت السيد حسن نصر الله وكسرت ظهر الحزب نصفين.
البيئة التي فقدت أمانها !
خرافية المسؤولية التي ألقيت على كاهل الشيخ بغتة، كان لا شك زاهداً فيها، ليس في ظروف كهذه ولا في غيرها. لطالما كان ممتناً لمنصبه نائباً للأمين العام، هانئاً في ظل سيّد كان قبل اغتياله قد تخطت علاقته ببيئته الحاضنة صفة الزعامة ومنصب الأمانة العامة، وتخطت الحزب ولبنان والقدس والولي الفقيه. تحول إلى أيقونة، طالما هي بخير، فكل ما ستراه البيئة سيظل جميلاً. أيقونة خلط فيها السيد أبوّته للبيئة ببنوّته لها، فما يقوله هو الطريق، إلى سوريا أو القدس أو بيروت لا فرق. أعطته كل ثقتها وحبها وذوبانها فيه.
أيقونة افتُقدت في أول ساعة من الليلة الظلماء. ومع فقده، فقدت البيئة أمانها، عمود خيمتها. الكتف الصلبة التي إليها تستند. فقدت الوجه الذي تصدّقه، إذ يعدها بأنها ستنتصر حتماً وستعود إلى بيوتها حتماً، وتشعر بالفخر، وهو يسمّيها أشرف الناس. سيد كان كل مجدها، إنه نتاجها الذي به تفتخر وبه تواجه، ولا تصدق الوعد إلا إذا وعدها هو به. والوعد لن يبقى على حاله، إذ يستعاد نسخاً ولصقاً حرفياً من الوكيل عن الأصيل، بعد 18 سنة على قوله أول مرة، وفي ظروف غير الظروف، وفي حرب غير الحرب.
هل هي “نكبة كبرى” ؟
الشيخ نعيم معذور، إذ إنه يشعر أن واجبه رفع معنويات البيئة الحاضنة، وقد نزحت بمئات الآلاف، بينما تتعرض حياتها لسحق ممنهج لا تعكس شدته إلا تلك الصور المقيتة لاقتلاع قرى برمتها في ثوان، وبكبسات أزرار. لكنه ليس معذوراً على ظنه بأن البيئة الطيبة القلب تصدق ما تسمعه منه ولا تصدق ما تراه العيون. ليس معذوراً في اقتصار آلياته في رفع المعنويات على تطييب الخواطر وإنكار الواقع واللجوء إلى الغيبيات للتيقّن بأن هذه الحرب، “أولي البأس”، ستكون حرب تموز ثانية: تدمر إسرائيل كل ما تطاوله يدها الهمجية، ولا تحقق أي إنجاز في الميدان، وتضطر لوقف النار، بينما البيئة تصبر فتنل نصراً حتمياً وإعادة إعمار… وهكذا.
الشيخ، وقد بات أميناً عاماً، ليس معذوراً إذا كان لا يعلم أن هذه الحرب ليست حرب تموز 2006. مشكلة كبيرة إذا كان الشيخ يظن أن هذه الحرب، إذا توقفت غداً، ستكون انتصاراً. هي ليست انتصاراً لا للحزب وقد فقد من فقد، وخسر ما خسر، ولا لنظرية الردع وتوازن الرعب وقد شهدنا بؤسهما، ولا لحماية المدنيين وجنى أعمارهم، ولا لعقيدة الصراع، ولا للحلف مع الأخ الكبير الذي يبدو في أحسن نواياه عاجزاً قليل الحيلة، وفي أسوأ الظن به تاجراً يحضر السوق.
هذه الحرب التي شنتها إسرائيل على الشيعة اللبنانيين، بذريعة أو من دونها، هي حتى اللحظة نكبة تامة على الطائفة وعلى لبنان، تخطت مفهومي النصر والهزيمة وتكتيك المفاوضات والميدان. هذه الحرب نكبة كبرى الآن، وستظل تكبر مع دوران العقارب.
ورطة بالطبع إذا كان الشيخ نعيم قاسم يعلم أنها كذلك وينكر، لزوم المشاعر، لكن الكارثة إذا كان لا يعلم. إذا كان الشيخ، لأسبابه الغيبية، على يقين بأن النصر حتمي، مهما كان شكل اليوم التالي للحرب، فالبيئة والحزب ولبنان والشيخ نعيم في طامة عظيمة ستطم الجميع، ولن ينجو من ثقبها الأسود أحد، حتى الغيب وعلومه الغامضة.
إقرأوا أيضاً: