بمعزل عن حرب غزة، وقبلها، ظل النظام في إيران يظهر كلاعب إقليمي رئيس ومهيمن، في أجندة الصراع الدولي والإقليمي في الشرق الأوسط، لا سيما مع هيمنته على عواصم بلدان عربية عدة، بحسب تصريح شهير لبعض قادته (القصد بغداد، وبيروت، ودمشق، وصنعاء)، لكن مكانته تلك استمدت قوتها من ميليشيات طائفية، مسلحة، تشتغل أذرعاً إقليمية له، وتستند إلى عصبية اجتماعية وأيديولوجية (دينية/مذهبية) في البلدان المذكورة، ساعده في ذلك امتلاك إيران ثروة متأتية من الريع النفطي.
بيد أن النظام الإيراني ما كان ليحقق ذلك من دون عوامل أهمها: أولاً، تفكك النظام العربي، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية (1991). ثانياً، انهيار النظام في العراق (2003)، وقيام الولايات المتحدة (إبان حكم بول بريمر) بتسليمه إلى إيران، بعد حل الجيش وكل أجهزة الدولة. ثالثاً، الاستثمار الأميركي (وضمنه الإسرائيلي) في السياسات الإقليمية لإيران، ما تمثل بالتساهل مع برنامجها النووي، قياساً لوأدها ذلك البرنامج في العراق في مهده (1981)، والسماح عند دخولها سوريا (بعد العراق) للانخراط في الصراع السوري، دفاعاً عن نظام الأسد، تبعاً لوجهة نظر في إسرائيل ترى طمأنينة بوجوده، أكثر من غيره، أو وفقاً لرأي بترك العرب يقتلون بعضهم بعضاً، “دعوا الحرائق تحرق بعضها بعضاً” (أليكس فيشمان وتوماس فريدمان).
كان ذلك التمهيد مقدمة لنقاش مقالة جهاد الزين: “هل يمكن السماح لإيران بأن تحكم الشرق الأوسط عبر القضية الفلسطينية؟” (“النهار”ـ 16/11). طبعاً لا أقصد من ذلك التقليل من قوة إيران، لكن الغرض التوضيح أن تلك القوة مستمدة من المعطيات الخارجية، أكثر مما هي مستمدة من قواها الذاتية، الاقتصادية والعسكرية، إذ هي لم تثبت في الحرب أمام نظام صدام حسين في العراق (سابقاً)، ومن حيث القوة الاقتصادية فإن ناتجها المحلي السنوي هو نحو 400 مليار دولار، فيما في إسرائيل (الصغيرة بعدد السكان والمساحة والموارد) 500 مليار دولار، وفي تركيا 800 مليار دولار، أي أن تركيا أقوى عسكرياً واقتصادياً.
جانب آخر في قوة النظام الإيراني ينبع من تجرّئه على المعادلات الإقليمية والدولية، بيد أن نظام الأسد (الأب) كان يتجرأ، أيضاً، على النظامين الدولي والإقليمي، من دون أن يكون ذلك دلالة قوة، إذ في كل المنعطفات الدولية والإقليمية اتخذ خط مسايرة التوجهات الأميركية؛ وهذا أمر معروف؛ بل إن هذا ما فعلته القيادة الإيرانية، وما تفعله الآن، بنأيها بنفسها عن حرب غزة، قولاً وفعلاً، عدا عبارات التضامن، والإنشاءات الاستهلاكية.
أيضاً، ثمة كوريا الشمالية التي تبدو أكثر جرأة من أي أحد على النظام الدولي، لكن ذلك ليس مقياساً، ولا يعني أن كوريا الشمالية التي يحلو لرئيسها “اللعب” بالصواريخ، أقوى من كوريا الجنوبية، عسكرياً واقتصادياً وإدارياً، والتي تعتبر من الدول العشر الأولى في العالم.
على ذلك، فمن المهم وضع قوة إيران في الميزان الصحيح، بعيداً من المبالغات، أو الشعارات التي يدعيها النظام القائم، الذي لا يفعل شيئاً إزاء اعتداءات إسرائيل المتوالية عليها منذ سنوات، مكتفية بتحريك أذرعها في هذا البلد أو ذاك، تجنباً لتحمل المسؤولية.
تلك كانت ملاحظتي على اعتبار جهاد الزين أن إيران “أقوى دولة سياسياً في العالم المسلم”، فيما ثمة تركيا وماليزيا وإندونيسيا، مثلاً، فهو يرى أنه “كان يكفي سماع كلمة الرئيس الإيراني في القمة العربية الإسلامية الأخيرة و”الأوامر” العشرة التي ختم بها كلمته حتى نتأكد أنه يعتبر نفسه موسى العصر ونجيَّ الله في وجه إسرائيل”، لكن المعروف أن تلك القمة عقدت للرد على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، وإذا بالرئيس الإيراني بلع كل الشعارات والادعاءات التي كان نظامه يدعيها منذ زمن طويل، التي تتضمن تهديد إسرائيل بالفناء، ووحدة الساحات، لتحالف المقاومة والممانعة، أي أن الرئيس الإيراني، حتى مع “وصاياه” العشر تلك، ظل، من الناحية العملية، تحت السقف المعلن للنظام الرسمي العربي.
الملاحظة الثانية، تتعلق باعتقادي أنه من المبكر الاستنتاج أن إيران ستستطيع الاستثمار في حرب غزة، بحيث تغدو “الدولة الأقوى سياساً في المنطقة”، فثمة فرق هنا بين شعورها بذلك، وقدرتها على تصريف ذلك الرصيد المفترض على شكل إنجازات سياسية.
هنا، أيضاً، ربما يفترض ملاحظة أن إيران التي نأت بنفسها عن حرب غزة (وكذلك “حزب الله”)، بلسان المرشد الأعلى والرئيس ووزير الخارجية، أثبتت لكل الأطراف، الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والدولية، أنها أكثر عقلانية وانتظاماً مما يعتقد البعض، وأنها قوة استقرار، بما يتعلق بما تريده الولايات المتحدة، مؤكدة أنها طرف سياسي يبحث عن مصالحه، بعيداً من الشعارات والأيديولوجيات، وبمعزل عن رغبة عدد من الأطراف التي تمنت تورط إيران، أو الأطراف التي راهنت على مبدئيتها ومشاركتها؛ وهو أمر باركه البيت الأبيض بإعلانه أن لا دلائل على تورط إيران بحرب غزة.
وعلى أي حال، فمن المبكر الاستنتاج في شأن التحولات التي ستنجم عن حرب غزة، أو عن تلك النكبة الفلسطينية الجديدة، على الصعيد الفلسطيني والإسرائيلي والإقليمي والدولي، وضمنه علاقة الأنظمة العربية بإسرائيل، في الصراع أو التسوية أو التطبيع معها، وأيضاً مكانة إيران في النظامين الإقليمي والدولي، فبالتأكيد أن ما قبل تلك الحرب ليس مثل ما بعدها.
الملاحظة الثالثة تتعلق بالاستنتاج أن حرب غزة عطلت “الحساسية السنية الشيعية”، علماً أن سياسات النظام الإيراني هي المسؤولة، أساساً، عن إثارة تلك الحساسية التي لم تستطع إسرائيل إثارتها منذ قيامها، وبالتالي فإن مسؤولية إنهاء تلك الحساسية تتطلب تغيير تلك السياسات، إذ مهما كانت مكانة قضية فلسطين في العالمين العربي والإسلامي، فإنها لا تغطي على الجرح الذي فتحته إيران، لا سيما في العراق وسوريا.
باختصار، في اعتقادي ان النظام الإيراني يتحرك بطريقة محسوبة ووفق الهامش المتاح له، من الناحية العملية، رغم خطاباته وشعاراته غير المحسوبة التي تطرح للاستهلاك والابتزاز والمزايدة، والتي يستمد أهمها من محاولته امتطاء القضية الفلسطينية، ومن كونه يحمل عود ثقاب قرب آبار النفط.
وبشكل أكثر تحديداً، فإن النظام الإيراني الذي تساوق مع غزو الولايات المتحدة لأفغانستان، والعراق، يقدم نفسه كقوة استقرار في العراق وسوريا ولبنان، وفقاً للهامش الأميركي ـ الإسرائيلي المطروح، وما محاولاته خرق ذلك الهامش، في بعض الملفات، إلا لتعزيز مكانته في المساومة مع الولايات المتحدة، ومع الغرب عموماً.
في المقابل، فإن الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل)، انتهجت سياسة قوامها الاستثمار في السياسات الإيرانية في المنطقة، ما دامت تتقاطع مع سياساتها عملياً، بغض النظر عن الخصومة السياسية، وكانت نتيجة ذلك الاستثمار، أولاً، تصديع إيران لبنى الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي، عبر إثارة النزعة الطائفية، وتشكيل ميليشيات مسلحة تشتغل وفقاً للأجندة الإيرانية. ثانياً، استغلال التغول الإيراني في المنطقة، وفي اليمن، لإثارة مخاوف الدول العربية، لا سيما في الخليج، من الفزاعة الإيرانية. ثالثاً، إيجاد بيئة أمنية لإسرائيل لمدى بعيد، في المنطقة العربية. رابعاً، إعادة هندسة المشرق العربي، بحيث لا يكون ثمة أغلبية من نوع معين، باعتبار ذلك يشكل بيئة طبيعية لشرعنة وجود إسرائيل.
لنفكر قليلاً، هل سياسات إيران تلك أضرت بإسرائيل أم أفادتها؟ وهل الانتصار لفلسطين، أو مواجهة إسرائيل، تتم على حساب الشعبين العراقي والسوري؟ ثم كيف يمكن فهم انخراط فيلق القدس، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق و”حزب الله” في لبنان في الصراع السوري، مقبولاً، فيما (من ضمن منظور إيران و”حزب الله”) يتم النأي عن الصراع ضد إسرائيل؟
طبعاً، لا يمكن تفسير ما يجري بين إيران والولايات المتحدة بعقلية المؤامرة، أي بتوافق أميركي – إيراني، ولا بعقلية التبعية، أي تبعية طهران لواشنطن، وبالتأكيد ولا حتى بقصة “الدهاء الإيراني”، بل يمكن تفسيره وفق عقلية التشابكات والتقاطعات والمصالح السياسية الاستراتيجية.