تحت عنوان “ثلاثة جدران: حكاية المكان في الموصل القديمة”، يفتتح “متحف سجون داعــش” معرضه الأول في مقر اليونسكو في العاصمة الفرنسية باريس، بين 7 و14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، مقدّماً جولات ثلاثية الأبعاد لمبانٍ في الموصل القديمة، حوّلها التنظيم إلى سجون بعد إعادة بنائها افتراضياً، لتوثيق جرائمه ودعم جهود العدالة والمساءلة.

على إيقاع الموسيقي العراقي نصير شما، وباستخدام أحدث التقنيات الرقمية، يركز المعرض بالواقع الافتراضي على السجون التي كانت جزءاً رئيسياً من حكم التنظيم في سوريا والعراق، حيث اعتقل عشرات الآلاف، منهم كثيرون اختفوا قسرياً، ولم يُعرف مصيرهم حتى الساعة، في عمل توثيقي – بحثي – صحفي، ويقوم على أرشيف ضخم، يضم نحو 70 ألف وثيقة ومئات الشهادات المصورة.

تتيح الجولات المصورة بكاميرات بانورامية لزائر المتحف التنقّل في هذه السجون واستكشاف تفاصيلها، والاطلاع على شهادات المعتقلين والمعتقلات السابقين فيها، ومعرفة أساليب التحقيق والتعذيب، ما يعني إعادة بناء مسارح الجرائم التي ارتكبها التنظيم.

تأريخ موضعي
منذ عام 2017، بعد خروج التنظيم من مناطق سيطر عليها في سوريا والعراق، دخل فريق مؤلف من نحو 100 من الصحفيين الاستقصائيين والفنانين وصناع الأفلام والمعماريين وخبراء التصميم ثلاثي الأبعاد والقانونيين والمترجمين والمحللين والباحثين، إلى المباني التي تحولت إلى سجون، وكان دافعهم الأساسيّ البحث عن زملاء اختطفهم داعش في عام 2013. ورغم أن البحث لم يفضِ للعثور على أثرهم، لكنه قاد إلى اكتشاف عشرات الآلاف من الوثائق المهمة، وتوثيق مئات الأسماء التي كتبها المعتقلون على الجدران.

أُرشفت جميع تلك المواد وحُفظت، وبدأت عمليات تصوير السجون بكاميرات 360 درجة، وحفظ جميع الوثائق التي وجدت فيها، وتسجيل شهادات ناجين وناجيات منها. أدت هذه العملية في المحصلة، على مدى ثمانية أعوام من التوثيق والتحليل، إلى تبلور مشروع “متحف سجون داعش”، ورفع الوعي العالمي بجرائم التنظيم، وإحياء ذكرى الضحايا، ورفع أصوات الناجين والناجيات، والكشف عن جرائم داعش بتوثيق المواقع بتقنيات ثلاثية الأبعاد، ووضع هذه الجرائم في سياقها التاريخي والسياسي، ومناصرة جهود العدالة، وبناء مجموعات من الأدلة تخدم الإجراءات القانونية المتخذة، أو التي قد تتخذ لاحقاً ضد عناصر التنظيم.

 

 

 

نجا مرتين
ينشر المتحف مجموعة من الأَبحاث والتّحقيقات حول سجون “داعش”، والأَنظمة التي اتَّبعها في مَجالَيْ القضاء والسجون، والتي تسعى إلى استكشاف الظروف الغامضة التي غَيبت عشرات الآلاف من المختطفين، اعتماداً على مئات الشهادات والوثائق والأدلّة المُحلّلة جنائيّاً، إضافة إلى تحقيقات عن المَقابر الجَماعِيّة والمجازر، ودوافع وسياقات وأشكال المقاومة التي أَبدتها مجتمعات رَزَحت تحت حكم التنظيم.

صنفت هذه الشهادات والوثائق في ملفات، أبرزها ملفا سجن الأحداث والملعب. في سجن الأحداث، يتذكر محمد العطار العبيدي أن القاضي الذي حاكمه هو بشّار الصميدعي، الخطيب في جامع “السيدة عائشة” في حي الوحدة قبل دخول التنظيم إلى الموصل، وكان من أتباع التيار السلفي، ممن خالفهم العطار. كما يتذكر أن التحقيقات والتعذيب وعمليات القتل كانت تنفذ في المساء، “أما بعد منتصف الليل، فكانت يأتي عناصر مفرزة الموت، ومن ينادون باسمه يُؤخَذ إلى القتل، ويرمى في الخسفة (حفرة في جنوب الموصل)”. وبحسبه، كان بعض السجانين عراقيين من الموصل، وبعضهم الآخر من الجزيرة العربيّة ومن ليبيا، وهؤلاء كانوا أقسى معاملةً.

أصدر القاضي قراراً بإعدام العطار، فنقل إلى المنفردة وألبس بدلة الإعدام البرتقالية تحضيراً لإعدامه. وفي يوم تنفيد الحكم، تعرض مبنى السجن للقصف، فأصاب أحد صواريخ طائرات التحالف الدولي إحدى قاعات السجن، فقُتل عشرات المعتقلين. نقل العطار إلى سجن القائمقاميّة، حيث حوكم مرة ثانية، ونُقّل بين عدّة سجون، ثمّ أُطلِق سراحه إثر توقيعه تعهدّاً خطّياً بألا يغادر الموصل.

هكذا قيدوني وعذبوني
أما صدّام حازم مطر فيتذكر سماعه عند دخوله السجن صراخ الرجال والنساء تحت التعذيب، وكيف سُحِب إلى التحقيق معصوب العينين، وكيف قيدوا يديه وراء ظهره وعلقوه بهما إلى السقف حتى انخلعت كتفه، مؤكداً أنه سمع طلقات الرصاص، ويعتقد أنّ غيره أُعدِم تحت التحقيق. ويروي صدّام أن ضابطاً سابقاً في الجيش، برتبة لواء ركن، يبلغ نحو 70 عاماً، فارق الحياة وهو نائم بجانبه، نتيجة التعذيب.

يتحدّث صدام عن أساليب التعذيب التي تعرّض لها، من الجلد على ظهره بالكابلات الكهربائيّة، إلى الفلق على قدميه والتعليق بالسقف، والصلب على لوح خشبيّ وجلد. كما هُدد بالإتيان بزوجته وأبنائه، وإخضاعهم للتعذيب واغتصابهم.
وتعرّض معتقلون آخرون، بحسب ما يذكر في شهادته، لأساليب أشد قسوة ووحشية، مثل ثقب الجسم والأطراف بالمثقب الكهربائيّ.

يقول صدّام إن الطعام كان متوفرّاً في السجن بشكلٍ منتظم، وشمل البيض والدجاج والماء والعصائر، أما الرعاية الصحية فكانت معدومة، باستثناء رعاية بعض أصحاب الأمراض المُزمنة. كما يذكر أنّ السجن تضمن ستة أو سبعة مراحيض، لم تكن تكفي لعدد المعتقلين الكبير، لكن توفّرت فيها المياه إضافة للصابون بشكلٍ دائم، وقد نظّموا دور الاستحمام في ما بينهم.

وعند مثوله للمرة الأخيرة أمام القاضي أصرّ على أقواله، فاكتفى القاضي بجلده 40 جلدة ثم أطلق سراحه، عندها أعطاه زملاؤه في السجن رداء يلبسه لأنه اعتقل بثيابه الداخليّة.

ويتحدّث صدام بالكثير من الألم عمّا أصاب الموصل مع سيطرة التنظيم الذي حولها سجناً كبيراً، أما عن نفسه، فما زال يحمل ذكريات قاتمة، وما زالت آثار التعذيب ظاهرة في جسمه، مثل الخلع في كتفه، والكسر في رجله، وندوب الجَلْد على الظهر.

 

 

 

قتلوهم أمامي
كان سجن الملعب البلدي (النقطة 11) في الرقة السورية أمنيّاً، ضمّ معتقلين من الناشطين السياسيّين والمدنيّين، وممن اتهموا بالتخابر ضد التنظيم أو القتال ضدّه، بينما اعتقل آخرون لامتلاكهم خطوط إنترنت، أو حسابات في وسائل التواصل الاجتماعي. وسجل “متحف سجون داعش” مقابلات مع 11 معتقلاً سابقاً فيه، بين عامي 2014 و2016.

يتذكر خليل أحمد الناصر كيف وقف 3 أيام كاملة في الممر لم يسمح له بالجلوس لحظة واحدة، إلّا للأكل والذهاب إلى الحمام. وكان يُساق إلى غرفة التحقيق المجاورة ثمّ يُعاد إلى الممرّ لتستمر عمليّات الضرب والتعذيب. في غرفة التحقيق، يتحدّث كيف كان المحقّقون يضغطون عليه مراراً ليسحبوا منه اعترافاً معيّناً، وهو يردّ عليهم بأنّه لا يعرف تهمته، فيعودون إلى ضربه وجلده وصعقه بالعصا الكهربائيّة.

ينتقل الناصر إلى الانفراديّة الضيّقة التي حُبِس فيها ثلاثة أشهر، ويشير إلى اسمه وقد حفره في الحائط مع خطوط عموديّة لعدّ الأيّام، كما يشير إلى شبكات مربّعات مرسومة على الحائط، وهي من ألعاب التسلية المعهودة.

ثم ينتقل إلى غرفة التعذيب، مشيراً إلى حلقة عّلق بها في السقف سبعة أيام، رأساً على عقب. ويشرح كيف كان السجّانون يضربونهم بأعقاب البنادق، أو يجلدونهم ثمّ يسكبون الماء البارد عليهم. كما يعدّد أدوات التعذيب التي وجدت في الغرفة كخراطيم المياه والعصي والجنازير و”الكمّاشة” التي اُستُعْمِلت لقلع أظافر المعتقلين.

يقول إن المشهد الأكثر إيلاماً كان في غرفة الإعدام، إذ يروي كيف أتوا به إلى هذا المكان، ورفعوا العصبة عن رأسه، وأجبروه على مشاهدتهم خلال قطع رؤوس أربعة مساجين، كأنّهم يتوعّدونه بالمصير نفسه، يتذكّر الشاهد بألم الاستغاثات الأخيرة للمعتقلين، مؤكداً أنّ هذا المشهد هو أشدّ ما تعرّض له من أنواع التعذيب.

قسوة السجانين
لا يذكر عبد القادر النافع أسماء المحقّقين، لكن اسم مسؤول السجن “أبو لقمان”، وعرف اسم اثنين من السجّانين: “أبو أحمد” الذي أحسن معاملتهم، و”الزرقاويّ” السيّئ المعاملة. ويؤكّد أنّ جميع السجانين كانوا من أهل المنطقة، إلا القاضي فكان تونسيّاً.

ينتقل النافع شاقّاً طريقه فوق أكوام الركام إلى الزنزانة الانفراديّة التي احتجز فيها، ويؤكّد أنّ بقاءه وحيداً هنا كان الأصعب عليه، “لكن مفاجأة سعيدة وغير متوقَّعة حدثت عندما أحضر عناصر التنظيم صديقاً لي من أيّام الدراسة، وزجّوا به في الزنزانة معي”.

أما محمد خالد إسماعيل فكان مقاتلاً ضدّ داعش، وسقط جريحاً فوقع أسيراً. يصف قسوة بعض السجّانين، مخصصاً التونسيين منهم، فكان أبو بصير التونسي يتلذّذ بتعذيب السجناء، وكذلك السجّانان أبو عائشة وأبو بكر وكلاهما من مدينة منبج بريف حلب.

ويروي إسماعيل: “كان أحدهم يبتكر طرقاً لتعذيب الأطفال المعتقلين، فيعصب أعينهم ويقسمهم فريقين، ثم يأمرهم بالركض، الفريق في اتّجاه الآخر، ليتصادموا وتصاب رؤوسهم. أو يدفعهم إلى الركض في اتّجاه معيّن حتى يصلوا إلى جدارٍ فيصطدمون به”. وفي حادثة أخرى، أبلغ السجانون المعتقلين أنهم سيحتفلون معهم ليلة رأس السنة، فأخرجوا قسماً كبيراً منهم إلى الساحة الخارجيّة عراةً إلا من سراويلهم الداخليّة، وجلدوهم خلال سكب المياه الباردة عليهم.

ويشبه محمد سجن الملعب بـ “غوانتانامو” أو “أبو غريب”، ويؤكّد أن الأيام الـ 15 التي أمضاها هنا بدت كأنها 15 عاماً من شدّة المرارة والتعذيب.