ملخص
أميركا، على رغم كل شيء تبدو منذ حرب غزة كأنها القوة الدولية الوحيدة القادرة على التحرك والفعل في الشرق الأوسط، لا الصين ولا روسيا، والعواصم العربية المؤثرة محكومة بالعمل مع واشنطن على أمل الحصول على خطوات عملية في المنطقة.
ليس من السهل أن تخرج أميركا من معركة الرئاسة، ولا أن تشفى من حمى الحملات الانتخابية التي تكلف المليارات، فهي عملياً كرنفال انتخابي مستمر.
يصل الرئيس إلى البيت الأبيض ليبدأ معركته الرئاسية المقبلة، ولا يكاد يسخن مقعد العضو في مجلس النواب التابع للكونغرس حتى تدهمه الانتخابات النصفية، فتنتهي عضوية الجميع كل عامين ومعها عضوية عدد من السيناتورات في مجلس الشيوخ وعدد من حكام الولايات ومناصب أخرى.
أما الكرنفال الرئاسي الذي يستمر أكثر من عام، فإنه صار حدثاً مملاً مرهقاً كثير الكلفة، إلى جانب كونه موسم أكاذيب مزدهراً، وأما ما جرى في خيار 2024 بين المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس والمرشح الجمهوري دونالد ترمب، فإنه تجاوز كل أنواع السقوط التي عرفتها الحملات السابقة، هبوط مخيف في المستوى وسجال بين أعداء، لا بين شركاء متنافسين سيعملون معاً في الكونغرس وسواه، وهزال في المضمون وتبادل كلمات مثل اللكمات بين من وصفها ترامب بأنها “ماركسية وفاشية وغبية” ومن وصفته هاريس بأنه “مهووس بالسلطة وخطر على أميركا والديمقراطية”، وقمة السجال حديث القمامة عن ناخبين وجزيرة.
أقل ما يتوقعه المراقبون بعد ظهور النتائج هو الاندفاع في العنف السياسي وصولاً إلى الحرب الأهلية ومروراً بتدمير النظام الانتخابي والنظام القضائي، لكن الحرب الأهلية هذه المرة، إذا وقعت، تخاض في أميركا دخلت “مرحلة اللاعقل” مع مجموعات واسعة تؤمن بنظريات المؤامرة، كما يقول أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة بوسطن جوناثان كوشنر.
ومن الوهم أن تتكرر المعادلة التي تكرست في الحرب الأهلية في القرن الـ19، وهي بحسب أستاذ التاريخ الأميركي في جامعة ييل ديفيد بلانت، أميركا ماتت في الحرب الأهلية ثم ولدت من جديد على نحو أفضل، ففي ذلك الوقت كان الرئيس واحداً من أهم الشخصيات الأميركية وهو أبراهام لينكولن، وكان الصراع بين ولايات الشمال وولادة الجنوب حول الانفصال وموضوع العبيد.
أما اليوم، فإنها حرب بين متطرفين من نوعية الذين هاجموا مبنى الكونغرس لمنعه من إعلان رئاسة جو بايدن، لا يعرفون ماذا يريدون، وبين أقليات محرومة من أمور عدة، فضلاً عن أن المتنافسين دون المستوى، حتى نائبة جمهورية في الكونغرس، فإنها ادعت أن الإعصار الذي ضرب فلوريدا هو من صنع الإدارة الديمقراطية.
الحملة الانتخابية كانت نوعاً من التراشق بالعناوين من دون مشاريع تفصيلية محددة، الهجرة والاقتصاد والإجهاض، وكذلك حروب أوكرانيا وغزة ولبنان، والتنافس في الشرق الأقصى مع الصين، والمزايدة في دعم إسرائيل، لكن النقاش بقي في حدود العموميات.
ولا توقف أمام أهم المتغيرات في أميركا، وهو التغيير الديموغرافي وتنامي أعداد الهيسبانيك والآسويين، إذ إن أميركا تتحول من “أمة أكثرية بيضاء إلى أمة تعددية” كما تسجل المسؤولة سابقاً عن التخطيط السياسي في الخارجية الأميركية آن ماري سلوتر.
لا خطة فعلية عملية لمعالجة التحدي الخطر أمام أميركا الجامعات المهمة، وهو ما اختصره آمي زينار في “فورين أفيرز” بمعادلة واضحة “المعرفة قوة وأميركا تفقد المعرفة”، ولا مشاريع عملية من أجل تحضير الأميركيين لمواجهة المحور الجديد القائم بين الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية سوى تسميته “محور الاضطراب” ثم التردد في المواجهة، ولا شيء سوى عنوان عام للتحدي المستقبلي أمام أية إدارة، وهو “التنافس في عصر الاعتماد المتبادل” على حد التعبير الذي استخدمه جايك سوليفان مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن.
ولا أحد يبدو خائفاً من أميركا، يقول مدير الاستخبارات ووزير الدفاع الأميركي سابقاً روبرت غيتس، مما يجعل الأميركي خائفاً مما يعرفه ولا يعرفه، ولن يوقف خوف الأميركيين وعد جمهوري باستخدام دبلوماسية العلاقات الشخصية ومبالغات ترمب في القول إنه لو كان رئيساً لما حدثت حرب أوكرانيا ولا عملية “طوفان الأقصى” ولا حرب غزة، وادعاء القدرة على وقف حرب أوكرانيا بمكالمة هاتفية، ولن يوقف أيضاً حديث الديمقراطيين عن البراغماتية التي ترى “ذا إيكونوميست” البريطانية أنها إشارة إلى نقص الأفكار ويمكن أن تقود إلى خطر”.
وبالنسبة إلى السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، فإن الناخبين العرب والمسلمين، خصوصاً في ولاية مهمة ومتأرجحة مثل ميشيغان، لم يتمكنوا من الحصول حتى على وعود بدعم الحق الفلسطيني وإنهاء حرب الإبادة في غزة ولبنان، ولذلك اختاروا الخروج من الخيار بين السيئ والأسوأ، لكن خيارهم لن يبدل شيئاً في السياسات على افتراض أنه أثّر في نتائج الانتخابات.
فلا استقرار في الشرق الأوسط من دون دولة فلسطينية، ولا دولة فلسطينية بحسب قرار الكنيست الأخير، وأي انتظار لوعد أميركي بتطبيق “حل الدولتين” هو نوع من انتظار غودو.
لكن أميركا، على رغم كل شيء تبدو منذ حرب غزة كأنها القوة الدولية الوحيدة القادرة على التحرك والفعل في الشرق الأوسط، لا الصين ولا روسيا، والعواصم العربية المؤثرة محكومة بالعمل مع واشنطن على أمل الحصول على خطوات عملية في المنطقة.
ولا مبالغة في قول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تكساس غريغوري كوز إن “أميركا أثبتت تحت الإدارات الديمقراطية والجمهورية أنها أفضل بكثير في تدمير الدول من بنائها”، وغداً يوم اختلاط البدايات والنهايات.