ملخص
بعد روايته “قناع بلون السماء” (دار الآداب) التي فازت بجائزة البوكر العربية العام الماضي أصدر الروائي الفلسطيني الأسير باسم خندقجي رواية جديدة بعنوان “سادن المحرقة”، وهي الجزء الثاني من ثلاثية تحمل عنوان “ثلاثية المرايا”.

داخل أقبية الزنازين لا ينتهي الطريق إلى التحرر، بل هو يبدأ. في تفكيك الوعي وإعادة بنائه تتجلى ذروة تحرر الكاتب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي، وهو ما ظهر في رواية “قناع بلون السماء” (2023) الحائزة جائزة بوكر العربية في دورتها ال 17. وقد أعلنت الناشرة رنا إدريس في حينها أن هذا العمل هو الجزء الأول من “ثلاثية المرايا”، التي تعكس الوعي بالذات، الوعي بالآخر، والوعي بالعالم. ومن أجل تكثيف الوعي بالذات يرتدي نور الشهدي الفلسطيني، الباحث في علم الآثار قناع أور شابيرا الأشكنازي، المحامي والجندي في لواء المظليين عبر توظيف الهوية الزرقاء للانضمام إلى بعثة آثار دولية تعمل في التنقيب.

وفي حين يبدو الهدف هو التنقيب عن آثار مريم المجدلية، إلا أن المسعى الأساس هو التنقيب عن السردية الفلسطينية التي طمرت تحت خطاب كولونيالي واندثرت بفعل هيمنة المركز. مع تقدم التنقيب يزداد وعي نور بالذات، حتى يبلغ أعلى نقطة في قدرته على مواجهة سماء الحيفاوية بالحقيقة. سماء هنا هي المرآة العاكسة لحقيقة نور.

ومن أجل الوعي الآخر كان لا بد أن نستمع إلى سردية أور شابيرا في “سادن المحرقة” (دار الآداب، 2024). وطبقاً للمعجم العربي فإن السادن هو البواب أو الحارس أو الحاجب، وباقتران المفردة مع المحرقة، يمكننا فهم نقطة التعيين التي تنبني عليها شخصية أور الأشكنازي المصاب بأعراض ما بعد الصدمة، عقب ما وقع له في 2006 في لبنان ثم 2008 في غزة.

 

الوجه الآخر

أور هو الوجه الآخر لنور والمناقض له في آنٍ واحد، المحتل المهزوم سلفاً، المأزوم دائماً، المحمل قسراً بتراث المحرقة عبر أجداده الذين يحملون وشم أرقام الموت على أذرعتهم، لكنه أيضاً أور الذي نشأ وترعرع في الكيبوتس ثم انتقل إلى تل أبيب والتحق بلواء المظليين كما التحق أخوه جدعون بوحدات الجيش أيضاً وقتل في مخيم في رام الله عام 2010. تبدأ الرواية من المنتصف، إذ نقابل أور الذي يخضع لجلسات علاج نفسي مع الطبيبة هداس ويدون يومياته بضمير الغائب، “تفاجأت هداس من أسلوب كتابتي بضمير الغائب، لم أبح لها حينذاك بالتساؤل الذي حاصرني قبل الشروع بالكتابة، ضمير الغائب أهو طوق نجاة من هاوية الواقع أم الانتحار في هاوية الماضي؟”، يتعملق الغياب والهرب من الصدمة بتغلغل اللغة العربية في أحلام أور “الذي لم يكن حضور العرب في حياته سوى ظلال خرساء باهتة لا وجوه لها، مجرد أهداف ومخربين وإرهابيين… هو الجندي ابن الجندي ابن الجندية شقيق الجندي حفيد الجندي والجندية الناجيين من المحرقة”. وإمعاناً في المواجهة، يقرر أور تعلم اللغة العربية مع مريم العربية من يافا، بما يجعل مريم المعادل الموضوعي لسماء في “قناع بلون السماء”.

في الحوارات التي غالباً ما تكون محتدمة بين مريم وأور يوظف خندقجي تقنية أخرى تضاف إلى تقنية كتابة اليوميات، وهي الإشارة لأعمال أدبية تناولت القضية الفلسطينية، ومنها “باب الشمس” للروائي إلياس خوري، وذلك عبر تكليف مريم لأور المقارنة بين نص الرواية الأصلي والترجمة العبرية. بهذا تدخل “سادن المحرقة” في حوار مع أعمال أخرى في محاولة لفهم وعي الآخر، وذلك عبر الترجمة كفعل رمزي، وعبر الاقتباسات التي يختارها أور من “باب الشمس” لتعبر عن وعيه الملتبس المأزوم من قبيل، “حين ينتهي الموقت ينتهي كل شيء وأنا الآن في موقتك، أزور بلادك، وأعيش حياتك، وأسافر في الوهم”. وفي الدرس التالي تطلب منه مريم قراءة مقال صحافي مرة بالعبرية ومرة بالعربية، ليتضح أنه المقال الذي بنت عليه عدنية شبلي الجزء الأول من روايتها “تفصيل ثانوي”. وبهذا يكتسب أور وعيه بذاته من مسار حياته وتراث عائلته ومن رؤية الآخر، وباتساع الصورة يزداد اقترابه من المرآة العاكسة له: نور.

المعادلة الكولونيالية

لا بد لأور من أن يلتقي وجهاً لوجه بنور، وكما قام نور من قبل بالتنقيب عن آثار مريم المجدلية في محاولة لتصحيح السردية، يقوم أور بالتنقيب عن نور في محاولة لاسترداد هويته، حتى يتمكن من الوصول إليه عبر ارتداء قناع مختلف. يسمح اللقاء الافتراضي بين أور ونور بمنح مساحة لصوت نور عبر المدونات الصوتية التي يسجلها. يستمع أور إلى هذه المدونات وهو لا يزال متحفزاً وساعياً إلى شيطنة الآخر، لكنه مشوش ومأزوم في الوقت ذاته، فالاقتراب من المرآة هو شعور مخيف، والطريق إلى المرآة ليس إلا إحدى وسائل تفكيك السردية التي شرحها نور في مدوناته الخمس. يستمع أور إلى المدونات وتتصاعد أزمته المشوبة بغضب أحياناً وتارة مقنعة بالاستهزاء، لكن الأكيد أن ثوابت السردية التي آمن بها أور قد بدأت تتخلخل. فقد أكد له نور في شكل غير مباشر أن الأنا لا بد أن تصنع الآخر، “يعني أنا بقدرش أتعرف على ملامحي الحقيقية إلا إذا كسرت المرآة. والمرآة هي المعادلة الكولونيالية اللي فيها طرفين واحد إيجابي وواحد سلبي… وواحد مسيطر، والتاني خاضع… يعني لو مش موجود هادا الكائن الكولونيالي المسيطر كان أنا مش موجود ككائن خاضع”. في مدوناته يسعى نور إلى الحصول على أجوبة “تستند إلى وعي تاريخي” عبر “تفكيك النظام الاستعماري الاستيطاني الصهيوني”. في المدونة الرابعة يشرح نور استراتيجية التفكيك التي لا بد أن تبدأ من الهامش، فالعلاقة بين المركز (العقل المعرفي الغربي) والهامش (الكولونيالي الخاضع)، هي صنيعة الحداثة الغربية التنويرية التي بدأت منذ عام 1770.

وفي هذا يتبنى نور/ خندقجي خطاب تقويض الاستعمار (الديكولونيالية) الذي انطلق من أميركا الجنوبية، ومن رواده والتر ميغنولو الذي يؤمن أن الاستعمار هو الوجه المظلم للحداثة الغربية، وأصبح له شأن كبير الآن في البحث المعرفي والأكاديمي. وبالمثل يعلن نور أن الإيمان التحرري يحتم “الكفر بحقيقة العقل الحضاري الغربي”. ولما لم يعد تيار دراسات ما بعد الاستعمار، قادرا على تفكيك المنظومة، أصبح لا بد من تقويض الاستعمار عبر نفض الصورة التي يعتنقها الهامش عن نفسه، وهو ما يحاول نور فعله في المدونات الصوتية. الطريق إلى التحرر هو تقويض المعنى الذي أقامه العقل المركزي: “أنا أسير نظام المعنى الخاص بالكولونيالية، أنا لست في تابوت، لست في صندوق. بل في قمرة صغيرة تكاد تتسع لي ولا تتسع لأحلامي. قمرة فيها ثقب صغير لا يراه الكائن الكولونيالي المسيطر، ثقب أنظر منه نحو العالم الذي أقصيت منه لا لأصور المشهد، بل كي أبحث عن ذاتي فيه، عن أناي الإنسانية، انظر محدقاً ليس بتلك التحديقة ذات النظرة الحلم المتسللة والهادفة لأن تصير الآخر، إذ أحدق بالآخر من دون أن يراني لا لأصيره، بل لأتحرر منه وأحرره مني”.

عندما ينتهي أور من الاستماع إلى المدونات الخمس، يقرر أن يلتقي نور (الآخر/ آخره) في حفلة إطلاق كتابه “سيرة كائنات كولونيالية” في الـ15 من مايو (أيار) 2022 (للتاريخ دلالة واضحة فيما يتعلق بالجدلية بين المركز والهامش)، “لن أتخلى عنك نور. لن أتخلى عن أخرى فمن أنا لولاك أنت. سألتقي بك سأحادثك فما الضير بذلك؟! الخوف… الذعر… الغضب… الصدمة! ماذا ستفعل… ماذا سأفعل؟”، بل يصل أور إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يتفق مع مريم على أن يذهبا معاً. في اللحظة الموعودة يتلقى أور خبر وفاة أبيه وكأن تراثاً ثقيلاً يلقى عن كتفيه، فيصبح مؤهلاً أكثر للقاء نور، فيهاتف مريم، و”بحزم صاف” يحملها رسالة تنتهي بها الرواية (موقتاً)، “قولي لنور الشهدي أننا سنلتقي يوماً ما ربما بعد أن أدفن أبي”، لكن النهاية لا تزال ملغزة، فقد استدعت ذاكرة أور خاتمة “باب الشمس”، “أقف، المطر حبال تمتد من السماء إلى الأرض، قدماي تغرقان في الوحل، أمد يدي، أمسك بحبال المطر، وأمشي وأمشي وأمشي”. وبسماعه طرقاً عنيفاً على الباب يقول، “أمد يدي في فضاء الشرفة كما لو أنني أصافح مريم”.

فعل المصافحة والاحتمالية الكامنة في “ربما” والأقدام الغارقة في الوحل والإمساك بحبال المطر (كمن يغرف من البحر) كلها صور، فهل تؤكد أن أور قد يكون على وشك كسر المرآة من أجل التخلي عن حراسة المحرقة، أم أن هذه الصور توحي بهزيمة جديدة لأور؟