استقرّت الرواية السائدة عربياً عن الحرب السورية، خلال السنوات الماضية، على كونها مأساة حلّت بشعب، خرج ضد نظامه الاستبدادي مطالباً بالحرية، فتعرّض لمختلف صنوف القمع والإجرام، من قتل المتظاهرين السلميين، مروراً بالتهجير الواسع، وصولاً إلى الإبادة بالأسلحة الكيميائية. إلا أن استقرار هذه الرواية هش للغاية، ومليء بالإشكاليات، التي تعود كل مرة إلى الواجهة، تصريحاً أو تلميحاً، فالحرب السورية، وهي من أعقد الصراعات الاجتماعية والإقليمية في التاريخ المعاصر، لا تتيح كثيراً من المقولات المبسّطة، والأهم أنها تصطدم مع روايات أخرى دارجة في الثقافة العربية، وتخلخل استقرارها.
تحضر في الحرب السورية كل قضايا عصرنا، بكامل التباسها: الدور الغربي و»الإمبريالية» (ولكن كيف نقيّمها؟)؛ تحدي القطب الواحد عبر النفوذ الروسي (ما طبيعته ودوره حقاً؟)؛ المقاومة والممانعة (هل يمكن فصل وجودها في الجبهة السورية عن صراعها ضد العدو؟)؛ التطرف الديني والقومي (هل حَمَلتُه «مقاتلون لأجل الحرية»؟)؛ ثورات الانتقال الديمقراطي (أيمكننا التغاضي عن ميلها المحافظ والإسلامي؟)؛ الداعشية والميليشياوية (نبت غريب عن مجتمعاتنا؟)؛ مسألة الأقليات الدينية والإثنية (ضحية أم جلّاد؟)؛ التهجير ومسألة اللاجئين (هل تكفي «ثقافة الترحيب» للتعاطي معهم؟)؛ والكثير الكثير من المسائل الأخرى، التي ربما لا توجد في الثقافة العربية المعاصرة، سواء على مستوى تخصصي أو جماهيري، الأدوات الملائمة لتعقّلها وتفسيرها، ولذلك فقد يكون الأسلوب الأمثل للتعامل معها هو التناسي: فلننس سوريا، ولنكرر حكايات أخرى، أكثر سهولة، وأشد اتساقاً مع شبكتنا المفاهيمية، ومقولاتنا المُطمئنة.
إلا أن نسيان سوريا غير ممكن، ليس فقط بسبب «الموقع الجيوستراتيجي» للبلد، أو ملايين السوريين المنتشرين حول العالم، بل أيضاً لأن تلك الأسئلة الشائكة لا تتعلق بسوريا فقط، بل هي في القلب من كل جدل ممكن في المنطقة. لقد حلّت لعنة الحرب السورية في الثقافة المعاصرة على كل المستويات، من السياسة إلى تفاصيل الحياة اليومية، وهي لعنة منطوقة ومتداولة باللغة العربية، إذ لا لغة أخرى يمكنها أن تحمل كل هذا الثقل الاجتماعي والثقافي المحلي، وعلى متحدثي العربية أن يتحمّلوا حضورها، ولو على مستوى اللاوعي، عندما يتداولون أياً من مقولاتهم الحالية.
لعل أكثر ما يثير الارتباك في الحكاية، أو الحكايات السورية، أنه لا ضحايا هنا! نتحدث عن حرب أدت إلى قتل وتهجير ما يقارب العشرة ملايين إنسان، وهو ما يزيد عن كل ضحايا الصراع العربي الإسرائيلي مثلاً، ولكن لم يعد بالإمكان إسقاط دور الضحية التقليدي عليهم بضمير مرتاح. كثير من «الناجين» يبدون أكثر تركيباً من أن يشملهم التعاطف البسيط، كما أنهم لا يؤدون الدور الذي يجب أن يؤدوه في ثيمة الظالم والمظلوم، المعممة في كل الروايات المتسقة عن قضايا منطقتنا، فضلاً عن أنهم قد يتكلمون بما يشوّش تلك الروايات. هل مشكلة سوريا إذن أنها بلا «ضحايا»، بالمعنى الذي تفهمه ثقافتنا المعاصرة؟ وما إمكانيات التعامل مع مسألة مربكة لهذه الدرجة؟
ضد «الانعزالية»
يبذل عدد من المثقفين والكتّاب السوريين جهداً ملحوظاً لإعادة سرد الحكاية السورية، بما يتسق مع المقولات المألوفة في المنطقة، خوفاً على أبناء بلدهم من «الانعزالية»، أي خشية أن تصدر منهم أصوات منفصلة، أو شاذة، عن إجماع مفترض في «الأمة». هكذا أصبح «الأسديون صهاينة»، و»السوريون فلسطينيين»؛ والاستعمار والاستبداد متواطئين، ومواجهتهما قضية واحدة. قد يكون هذا حلاً بلاغياً جيداً، إلا أن المحاججة البلاغية لم تعد كافية لتجاوز الإشكاليات الأكثر عمقاً. ليس من المقنع بالتأكيد أن نقوم بصياغة تشبيهات واستعارات، حول ظواهر شديدة الاختلاف، ثم نلصقها في جمل ذات حمولة عاطفية عالية، على أمل التأثير في انفعالات بشر، يتعالى صخبهم في مواجهة ما لا يفهمونه.
تحليل مفردة «انعزالية»، كما تم تداولها في الثقافة السياسية العربية المعاصرة، لا يقودنا إلى المواقف المحايدة أو المنسحبة من الصراعات فحسب، وإنما إلى رفض فئات معينة الاندماج في مشاريع سياسية وعسكرية في محيطها الكبير، لأسباب مختلفة، منها أن تلك الفئات تملك تعريفاً مغايراً لهويتها عن السائد حولها؛ أو لأنها قد ترى تلك المشاريع تستهدف وجودها السياسي والاجتماعي نفسه. ما يجعل «الانعزاليين»، من منظور خصومهم، أقرب لـ»طابور خامس»، أو جسماً غريباً يهدد وحدة الأمة في قضاياها العادلة، ولذلك كان هذا النعت مدخلاً لحروب أهلية طويلة، هدفها إعادة «الانعزاليين» إلى رشدهم، فإما أن يتبنّوا القضية، بكل ما يرافقها من أثمان، وهيمنة سياسية واجتماعية؛ وإما أن يتعرّضوا لنوع من الاستئصال، السياسي على الأقل.
إلا أن الحالة السورية الراهنة لا تتطابق مع طائفة أو فئة ذات تعريف مغاير للذات. فما الذات العربية أصلاً دون سوريين؟ أي دون الكتلة البشرية، التي لعبت أدواراً أساسية في صياغة أيديولوجيات القومية العربية، والإسلام السياسي، والقضية الفلسطينية، واليسار العربي بكل تياراته، بما فيها الناصرية وما بعدها. «الانعزالية» السورية اليوم، إن وجدت، لا تهدد السوريين أنفسهم بحروب استئصال، بل على العكس، تهدد جانباً كبيراً من الأيديولوجيات العربية المعاصرة بالتفكك. هل المثقفون المتشكّون من «الانعزالية» يخافون على السوريين من الإقصاء على المستوى العربي حقاً، أم يخشون على الأيديولوجيات التي شكّلت وعيهم، ورأسمالهم الرمزي، بوصفهم مثقفين ومؤثّرين في الرأي العام؟
بعيداً عن هذا السخط الأيديولوجي، الذي يثيره «سوريون» لا نعرف من هم بالضبط، فإن المشكلة قد لا تكون في تعبيرات وممارسات، قد تبدو شاذة عن «الأمة»، فهذا النوع من التعبيرات والممارسات موجود في كل الدول الناطقة بالعربية، وإنما في عدم إمكانية تماهي «السوريين» مع الحكايات الضعيفة، التي خُصصت لهم: الأسديون ليسوا صهاينة، ومن يقول بذلك لا يملك أي مفهوم عن النظام السوري أو الصهيونية؛ والمعارضون ليسوا مجرد ضحايا «العالم» الذي خذلهم، ومن يصرّ على هذا لا يقدّم إلا تجهيلاً بطبيعة الصراعات الاجتماعية والدولية. عندما لا يتطابق السوريون مع حكايتهم المفترضة نفسها، يصيرون أشبه بصوت فصامي في قلب «الأمة». وربما تكون «انعزاليتهم» أقدم من الحرب الحالية، التي تشهدها المنطقة، فهي تبدأ مع تجاوزهم العفوي للإطار السردي الذي رُسم لهم: الثورة السورية بحد ذاتها.
تفكيك الثورة
قد يمكن رصد كثير من الانتقادات لثورات ما يعرف بـ»الربيع العربي»، من زاوية سذاجتها السياسية، أو الخيارات الخاطئة التي اتخذها المعارضون للأنظمة، إلا أنه من الصعب أن نجد تشكيكاً بالعدالة المطلقة لتلك الثورات، سوى من طرف المؤيدين المباشرين للأنظمة، الذين لا يملكون، بطبيعة الحال، كثيراً من الشعبية.
إلا أن الحديث عن «عدالة مطلقة»، في الحالة السورية بالذات، لا يبدو أكثر من استعراض ناشطي، أي محاولة عدد محدود من الناشطين صياغة رواية مبسّطة، قابلة للاستهلاك، عمّا حدث في بلدهم، فيما يدرك كثيرون ممن عايشوا الحرب مدى تعقيد ما شهدوه من أحداث، وأن الجهات التي يناصرونها ليست بالضرورة الطرف الطيب أو البريء في الحكاية. لقد أصابت الحرب السورية مفهوم «القضية مطلقة العدالة» نفسه، والتصنيفات المشتقة عنه، في مقتل؛ كما أنها ألقت ظلالا من الشك على الممارسات، التي تبرر نفسها بأنها «مقاومة للظلم».
تفكك إطار أيديولوجي ضخم مثل «الثورة السورية»، لن يمرّ دون عواقب كبيرة، إذ سيشكك بكل أساليب إنتاج المعنى والدلالة في الثقافة العربية المعاصرة: لا توجد قصص بسيطة للدرجة التي ربّتنا عليها «الأمة»، وأيديولوجياتها.
هل «الخروج» ممكن؟
ما تزال المواقف الأيديولوجية شديدة الاختزالية هي السائد، بين السوريين وغيرهم، حتى لو قلّت قدرتها على الإقناع، وبدت أشبه بتكرار منافق، أو هراء خاوٍ من المعنى. يصعب أن نجد جدلاً أو صراعاً بين منظومتين فكريتين مختلفتين حقاً في اللغة العربية المعاصرة، فما يجري أقرب لاضمحلال المنظومة الواحدة نفسها. بعبارة أخرى: قد يكون «السوريون»، الذين يلومهم كثير من المثقفين والمتداخلين في الحيز العام، مجرّد وهم، ينتجه انحلال المقولات السائدة، والتهامها لذاتها، خاصة أنه لا يوجد تيار سوري فكري أو سياسي، يخالف حقاً ما يمكن وصفه بـ»صحيح الأمة».
يلاحق أنصار «القضايا العادلة» بعض التعبيرات غير المتسقة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو إبداء فئات ما فرحها وتأييدها لحدث معيّن، يثير غضب الآخرين، وكل هذا لا معنى جديّاً له، أو يمكنه إنتاج تغيير ملموس في سير الأحداث. ربما كان الأجدى أن يبحث هؤلاء في ممارساتهم وأيديولوجياتهم نفسها، ليفهموا أسباب فشلهم في فرض هيمنتهم، ضمن واقع لا يحقق لهم إلا الخيبات.
الخروج الفعلي من الأيديولوجيات الفاشلة، وعلى رأسها القومية والإسلام السياسي والناشطية، يتم الآن، ببطء، ولا يمكن إيقافه. وهو نتيجة عوامل اجتماعية وسياسية، لم يختلقها «السوريون» أو غيرهم، فالحروب، والتهجير، والانهيارات الاقتصادية، وسقوط الدول، ستجبر البشر على التفكير بشكل مغاير. إنها سيرورة بدأت مع الحرب السورية، وتستمر اليوم في فلسطين ولبنان، وقد تصل غداً إلى دول أخرى. أغلب حكاياتنا لم يعد لها معنى للأسف، لأن البنى التي أنتجتها شديدة الرثاثة، وعاجزة عن الاستمرار. وعندما ينقشع غبار الحروب، قد نجد أنفسنا في العراء، بكل المعاني، وسنضطر حينها لسرد حكايات جديدة عن أنفسنا والعالم.
٭ كاتب سوري