Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • تحطيم ثنائية ذكر/أنثى قصّة الخروج من الطبيعة… دارا عبدالله…… المصدر: الجمهورية .نت
  • مقالات رأي

تحطيم ثنائية ذكر/أنثى قصّة الخروج من الطبيعة… دارا عبدالله…… المصدر: الجمهورية .نت

khalil المحرر نوفمبر 9, 2024

في إحدى قاعات مكتبة غريم «Grimm» التابعة لجامعة هومبولدت في برلين، توجد النسخ الأولى من كتابٍ صدر عام 1897. الكتاب تحقيقٌ استقصائي يرصد آراء ثلاث مجموعاتٍ مستهدفة: أساتذة جامعيّون رجال، ومعلّماتٌ نساء في المدارس الثانويّة، وكتّابٌ ومثقفون معروفون. عنوان الكتاب سؤاله، وسؤال الكتاب عنوانه، إذْ للكِتاب عنوانان، رئيسي: المرأة الأكاديمية، وثانوي: تقييمات أساتذة جامعيين بارزين ومعلمات وكتّاب حول أهليّة المرأة للدراسة العلمية والمهن الأكاديمية. من جمعَ الآراء ونشرَ الكتاب وخلَّدَ هذه الوثيقة التاريخية الفريدة، هو الناشر والكاتب الألماني آرثر كيرشهوف (1871- 1921).

جاوب على سؤال الكتاب 100 أستاذ جامعيّ رجل من كل التخصصات في جامعة هومبولدت بكلمة «نعم» أو «لا» مع التبرير. بعض الأسماء مُحِيَت من الذاكرة، ولم تتجاوز عتبةَ شاهدة قبرها، وبعض الأسماء خُلِّدَت علمياً وعالمياً، ولا يزال صيتُها يدوي في الحاضر. في الكتاب أسماء لها حيثيّة ألمانية محلية مثل اللاهوتي البروتستانتي وأستاذ الكتابات الحاخاميّة هيرمان شتراك (1848- 1922)، وفيلسوف القانون الذي صكّ مصطلح «النظرية العضويّة» في الدساتير أوتو غيركي (1841- 1921). بالمقابل، ثمّة أسماء تجاوزت نطاق المحلية الألمانية، وصار لها صيتٌ كونيّ، كعالم الفيزياء المشهور ماكس بلانك (1865- 1943).

لم يكن المرأة الأكاديمية العملَ الوحيد الذي تصدّى لسؤال أحقيّة المرأة في العمل الأكاديميّ والنشاط البحثيّ، أو إذا كانت قادرة بالأساس على القيام بعمليات التفكير والتعلّم. ألمانيا تأخّرت في السماح للنساء بدخول الجامعات. في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع العشر، أي قبل تاريخ صدور المرأة الأكاديميّة بحوالي عشرين عاماً، تجاوزت كيانات مثل سويسرا وفرنسا وبريطانيا نقطة السماح للنساء بالدخول إلى الجامعات. في ألمانيا، وفي بدايات فترة الإمبراطوريّة البروسية، كان مسموحاً للنساء ارتياد الجامعات كمُستَمِعَات فقط لا كمُتكلّمات. وبعد تأسيس الإمبراطورية الألمانية عام 1871 ساءت الأوضاع أكثر، إذْ حُرِمت المرأة كلياً من دخول الجامعة حتى كأُذنٍ مستمعة، وأحكمت الجامعات إغلاق أبوابها أمامهنّ. ألمانيا تأخّرت كثيراً، إذْ، ولأوّل مرّة، في عام 1896، تحت أعين جميع رجال المجتمع ومصحوباً باهتمام إعلاميّ صاخب، حصلت أوّل ستّ فتيات من برلين على الحقّ في التقدّم إلى امتحان شهادة الأبيتور (البكالوريا بلغة التعليم السورية) في مدرسة بحيّ شتيغليتز Steglitz في برلين.

أخيراً، وفي عام 1908، رُفِعَ الحظر وسُمِح للنساء بدخول الجامعات في ألمانيا.

أُذنٌ مُستمِعَة وفمٌ مغلق
قراءة الكتاب الآن، أي بعد مرور أكثر من 100 عام، تُظهر تشابهاً بنيوياً بين أفكار مؤيدي ومعارضي دخول المرأة إلى الحقول الأكاديمية العليا في ذلك الوقت وفي يومنا هذا. منذ تلك الأيّام وحتى الآن، حَجرة البناء الأساسية عند رافضي حقّ التعليم العالي لدى النساء هو أنّ المرأة متعارضةٌ بطبيعتها الأصلية مع المعرفة العلمية، ونقصها الأبديّ محكومٌ بقوانين الطبيعة. حتى مؤيدو دخول المرأة إلى الجامعات دافعوا عن أفكارهم مع البقاء في الإطار الفكري لخصومهم، أي الطبيعة، إذْ طالبوا بحقّ المرأة في التعليم انطلاقاً أيضاً من طبيعتها.

من جهته، حذَّر ماكس بلانك من فكرة دخول المرأة إلى الجامعات، وفي تبريراته أشار إلى ندرة امتلاك المرأة اهتماماً بالعلوم الطبيعية، ولكن هذا غير مستحيل. الآن، إذا صدف وأحسّت امرأةٌ ما أنّ بداخلها رغبة في تعلّم الفيزياء النظرية، فسيَسمح لها بلانك بالدخول إلى محاضراته كفمٍ مغلق وأذنٍ مُستمِعَة. حدّد بلانك شروطه لهنّ: ألا يخلّ انضمام النساء بالنظام الأكاديمي العام، وأنّ قبوله لهنّ مشروطٌ وقابلٌ بشكلٍ دائمٍ إلى الإلغاء. فتح بلانك نافذة أملٍ صغيرةٍ أمامهنّ، لكنّه دعا إلى عدم تكبير قصّة دخول المرأة إلى الجامعات بتحويلها إلى نقاشٍ عامّ، لأنّ النساء يتعارضْنَ بطبيعتهنّ مع فهم العلم التجريبي. كتب بلانك: «رغم أنّي لستُ متأكّداً بالمطلق، إلا أنّ الطبيعة فرضت على المرأة وضعيّة أن تكون أماً ملتزمة وربّة منزل. وأيُّ تجاهل وكسرٍ لقوانين الطبيعة ستكون عواقبه وخيمة وأضراره المستقبليّة جسيمة. ضرر تعليم المرأة سيظهر بشكل واضح في الأجيال الجديدة».

والحال، فإنّ بلانك حمامة مقارنةً مع الصقور على يمينه، إذْ صاغ بعض المعارضين لحق النساء بالتعليم العالي آرائهم بشكلٍ أكثر جذريّة وحِدّة. طبيب الأعصاب ويلهام إرب (1840- 1921) حذّرَ من الأضرار الوراثيّة بعيدة المدى الناجمة عن دخول المرأة إلى عالم الأكاديميا. الرغبة بالعلم سوسة نفسيّة ستترسّخ في جيناتها، وستنقلها كفيروس مُعدٍ إلى أقرانها. التفكير العلميّ يتطلّب اتزاناً وبُعْدَ نظر، والمرأة لن تنقل إلّا قصر نظرها وطابعها الهيستيري- العصبي من جيل إلى جيل قادم.

ورغم أنّ النقاش يدور حول القابليّة الروحية والبنية العقلية للمرأة، إلا أنّ إطار الحديث عند البعض هبط إلى المنطقة التشريحية تحت بطنها. كلام قليلٌ في أجوبة الجميع حول العقل داخل رأسها، في حين أنّ غالبية الفرضيَّات تركَّزت على استثناء جسدها. عالم التشريح الألماني المقارن، ثيودور بيشوف (1882- 1807) طرح فكرة أنّ النساء غير قادرات بطبيعتهنّ على ممارسة الطب، بسبب قياسات الهيكل العظمي وضعف العضلات واضطرابات الدورة الشهريَّة. ممارسة الطب تتعارض مع أجمل أوجه الطبيعة الأنثوية، وهي الرحمة والتواضع والخجل.

اللاتوافق لا يتولد من طبيعة المرأة إزاء الحقيقة العلمية، بل من طبيعة الحقيقة العلمية إزاء المرأة. الحقيقة العلمية تبقى مُغلقةً أمام المرأة، لأنّ الحياء والخجل والتحفُّظ نزعاتٌ محفورةٌ في طبيعتها، ونَيلُ الحقيقة العلمية يتطلّب كلاً من نزعة المبادرة وقوّة الاختراق التي يمتلكها الرجال فقط. بيشوف حجَّمَ المرأة جنسياً، إذْ أكّدَ أن ردود فعلها على المتعة الجنسية مقارنة بالرجال تكون عادة أقلّ حرقة في شدّتها. الطبيب الليبرالي المعروف رودولف فيرشو (1821- 1902) «رفع» من شأن المرأة على طريقته، وذلك بقوله إنّ الأمر الوحيد الذي يجب الإشارة إليه عند الحديث عن النساء هو المبايض. حقيقة أنّ لا قيمة للنطفة دون بويضة، أي تبعية الرجال للمبايض، هي الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تُقدَّر وتُؤخَذ بعين الاعتبار عند الحديث على المرأة. أهمُّ ما في المرأة، هو فقط الخاصيَّة التي يعتمد عليه الرجل.

في المرأة الأكاديمية، جاءت أشدّ الآراء تطرفاً في معارضة دخول المرأة إلى الدراسات العليا من العدو العلمي الأكثر خطورة على النساء: الطبيب الرجل المختصّ بطب النساء.

والحال، فإنّ الهجوم على «المرأة الأكاديميّة» جاء من كلّ حقول المعرفة والعلم. الاقتصادي لورينز شتاين (1815- 1890)، الذي دَرَس ودَرَّسَ في جامعة هومبولدت، وفي سياق حديثه عن حق المرأة في العمل والتعليم، أكّد أنّ المرأة التي تكون طوال الوقت على كرسيّ مكتب أو منصة قضاة يمكن أن تكون فعّالة ومفيدة فعلاً، لكنّها تخسر بشكلٍ أوتوماتيكي غريزة أساسية بداخلها: الأمومة. المرأة العاملة لا يمكن أن تصبح أُمّاً، وسانده فوراً زميله في الجامعة، المؤرّخ هاينرش تريكه (1834- 1896)، وذهب أبعد من ذلك، إذْ قال إنّ مساواة النساء بالرجال ستؤدّي إلى انحلال الحبّ المنزلي وخللٍ بالتكاثر، وسيتحوَّل الزواج إلى مجرّد مُساكنة.

المؤرّخ القانوني، أوتو غيركي، أشعل صفارات الإنذار معلناً النفير العامّ، إذْ ربطَ بين السماح للنساء بدخول الجامعات وانهيار الإمبراطوريّة البروسيّة من الداخل! هنا جواب غيركي بالحرف: «نساء يعملنَ كمحاميات؟ كاتبات عدل؟ مُدّعيات عامّات للدولة أم مسؤولات حكوميّات؟ هذا مسارٌ ومُنحدَرٌ خطير، أيُّ خطوة فيه لن تؤدّي سوى لسقوط أكيد في خطوات أعمق. إمّا الكل أو اللاشيء، ونهاية هذا المُنحدَر هي إلغاء الفروقات بين الرجال والنساء في الحيّز العام. نحن نعيشُ في زمنٍ جدّي، والشعب الألماني يجب أن يكون مشغولاً بشيء آخر، غير محاولات طائشة ومتهورّة تُفكّر بالسماح للنساء دخول الجامعات».

بالتأكيد، لا يندرُ في كتاب المرأة الأكاديمية وجود عددٍ قليلٍ من علماء وأساتذة دعموا، بلا شروط ودون تردّد، حقّ المرأة في التعليم والدخول إلى الجامعات والتقدُّم لنيل شهادة الأبيتور. المشكلة هي بقاء الداعمين في حدود الساحة البيولوجية للنقاش، إذْ انطلقوا من طبيعة المرأة نفسها من أجل الدفاع عن حقها في التعليم. الرأي الأكثر تقدميّة في الكتاب يأتي من اللاهوتي البروتستانتي والعالم بالكتاب المقدس والوزير في الإمبراطورية البروسية، هيرمان سودن (1852- 1914). دافع سودن عن حق المرأة بالتعليم لأنّها قادرة على إحقاق التوازن بين عملها خارج البيت ومهامها الأساسية كأم وربة منزل، مُضاعِفاً الثقل على كاهلها. جاء سودن ليكحّلها فأعماها، إذْ أكّد عدم صحة مقولة أنّ حق الدراسة سيصيب الميول الطبيعية الأنثوية بالتلف. مهام المرأة التقليديّة كأم بارّة وزوجة مخلصة متجذّرةٌ بعمق في طبيعتها، ولا يمكن أنّ تُخدَش بالدراسة. سودن حذَّرَ في الوقت نفسه من مغبّة المساس بطبيعة المرأة بفرض قوانين إلزاميّة التعليم، إذْ لا يجب أن تُملَى على المرأة أي وظيفة تتعارض مع طبيعتها.

لمَ نفضُ الغبار عن كتاب المرأة الأكاديميّة الآن؟ بالتأكيد ليس القصدُ تصفية حسابات قديمة عمرها أكثر من 130 عام. المرأة الأكاديمية يفتح سؤالاً أساسياً. عموماً، تُلاحظَ نزعتان في أجوبة الأساتذة الرجال: الأولى بقاء في الإطار البيولوجي- الطبيعي للمرأة وطبائعها الجسدية الجوهرية، والثانية تحذيرٌ من انزلاقٍ إلى نهاية مُنحدَر تُلغَى فيه الفروق الجنسيَّة. الرافضون الجذريّون خافوا من تفسّخ المجتمع وتفتيت الأواصر البشريّة، وبشّروا بالانهيار الكلي للنظام الاجتماعي إذا ما مُسَّت قوانين الطبيعة. ولكن بمجرّد أن سُمِح للنساء بدخول الجامعات، حتّى صرن يتقاطرْن بسرعة، كسرعة تسرّب الماء الضاغط من ثُقبٍ ظهر للتوّ. في التسعينيات، سجّلت ألمانيا، ولأوّل مرة في تاريخها، نسبة تسجيل أعلى من الطالبات الإناث في جامعاتها. وبعد عام 2000 بدأت نسبة الأستاذات الجامعيات تتجاوز عتبة الموت السريري.

في أقل من مئة عام، تغيّرَ بشكل جذري نظامٌ عمره آلاف الأعوام. ماذا حصل بالضبط؟ ثمة احتمالان، إمّا حصلت طفرة جذريّة في طبيعة المرأة ألغت الصفة التصادميّة بينها وبين العلم، أو أن طفرة جذريّة حصلت في طبيعة العلم نفسه. وإذا كان الاحتمال الثاني، والذي يبدو على الأرجح، صحيحاً، لِمَ تتجلّى هذه الطفرة الجذرية في تغيير جذري في الأدوار الاجتماعية للجنسين؟

هيمنة الروح على الجسد
طبيعةُ من هي التي تغيّرت بالضبط؟ المرأة أم العلم؟ سؤالٌ يتطلّب الإشارة إلى بناء فكري نما على تقليدٍ يعود إلى أفلاطون. كلاهما، الأفكار الروحية والأفكار العلمية، تنبثِقُ في الغرب من البناء الفكري نفسه. هذا البناء الفكري هو بناء لغوي أوَّلاً. اللغة كقوانين تجريديّة تُعبّر عن نفسها في الأبجديّة المكتوبة وأصوات الأحرف. اللغة كنظام يسمح بالإشارة إلى أشياء العالم وأحداثه عن طريق الرموز والإشارات. في هذا البناء الفكري- اللغوي خللٌ حسّاس، وهو تداخل وتراكب ثنائيّة الروح – الطبيعة (أو الجسد) في اللغة، مع ثنائيّة الذكورة – الأنوثة في نظام العلاقة بين الجنسين.

منذ «تأمّلات» ديكارت هيمنَت القناعة بأنّ الروح والجسد صنْفان مُنفصلان مُتناقضان. العالم الروحي- الفكري محكومٌ بقوانين منفصلة عن قوانين عن العالم المادي- الفيزيائي، ولا يمكن التوافق بينهما، والصيغة الوحيدة الضامنة للتوازن والاستقرار هو سيطرةٌ عقلانية وتَحكّمٌ واعٍ من الروح على الجسد. الذكورة مُعادِلة للروح والمطلق والمجرّد، والأنوثة مُعادِلة للجسد والعرضيّ والخاصّ. «اللعبة اللغوية»، بتعبير فيتغنشتاين، داخل كلمة «شخص» Mensch تقول شيئاً. لِمَ كلمة «شخص»، بادعاءاتها التجريديّة والمطلقة والعابرة للجنسين، تتماهى أكثر من المفرد المذكّر منه مع المفرد المؤنّث؟ ألا تضمر كلمة «شخص» بقناعِها الكونيّ انحيازاً ضمنياً لصالح المفرد المذكّر؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فلمَ غُربة المفرد المؤنّث وإحساسها بالإقصاء من كلمة «شخص»، إلى درجة أنّ الإشارة إلى المفرد المؤنّث تتطلّب استخداماً مباشراً ومُحدَّداً لضمير المفرد المؤنّث؟

وكأن «اللعبة اللغوية» داخل كلمة «شخص» تقول ما يجب أن يُقال حول البناء الفكري: كل ما لا يحتاجُ إلى تحديد هو ذكر، وكل ما يحتاج إلى تحديد هي أنثى.

علاقة الهيمنة بين الروح والجسد تجسَّدت مرئيّاً في العلاقة بين الجنسين داخل الإطار السياسي- الاجتماعي. على الذكورة أن تتحكم بالأنوثة تماماً كما تُشرفُ الروح على الجسد. وبتطابق ثنائيّة الروح – الجسد مع ثنائية الذكورة – الأنوثة، سرعان ما تولّدت ثنائيات أخرى لعبت أيضاً أدواراً اجتماعية بين الجنسين، مثل ثنائيات: عقلاني/ غير عقلاني، إيجابي/ سلبي، فاعل/ مفعول به، وطبعاً الثنائية الأكثر شهرة: سوي/ هيستيريّ. البناء الفكري اللغوي الذي يماثِل الذكورة بالروح والأنوثة بالجسد بقي راسخاً في صُلب الثقافة الأوروبية من فجرها اليوناني إلى الحداثة. ولأن الحديث يدور حول البناء ككل، أي حول اللغة التي يستخدمها الجميع بدون استثناء، فإنّ تداعياتها على العلاقة بين الجنسين تظهر في كلّ السياقات الإنسانية، كنسيّة أو سياسيّة أو فنيّة أو طبعاً علميّة.

مُطابقة الذكورة بالروح والأنوثة بالجسد ظهرت في كلّ من الرؤى العلمانيّة والدينيّة حول مفهوم «الجسد الاجتماعي». دينياً، وفي الرواية المسيحية الأوروبية، عمليةُ تنصيب المسيح كـ«رأس» للكنيسة تُحوِّله مباشرة إلى روح، والكنيسة تصبح «عروساً». علمانياً، تُرجِمَت علاقات التبعيّة السياسيّة بين الملك والشعب إلى لغة علاقات الهيمنة بين الذكورة والأنوثة. المؤرّخ الألماني المعروف إرنست كانتورفيتش (1895-1963) يذكر بالأمثلة، في كتابه ثنائيّة الجسم الملكي، أنّ الملوك في العصور الوسطى بنوا علاقة مزدوجةً مع الشعب: الملك ممثّل سياسي مطلق للروح الجماعيَّة، والملك «متزوّجٌ من جسد الأمة». النظريات الأولى في علم الاجتماع في ألمانيا، التي حدّدت شكل العلاقة بين الجنسين داخل الأسرة، حوَّلت الثنائيّة إلى قانون تحت سقف البيت. الكاتب الألماني الساخر ثيودور هيبل (1741- 1796) صاغ الأمور بأوضح طريقة ممكنة، إذْ كتبَ في نصٍّ له نُشر عام 1774 عن الزواج، قائلاً: «داخل الأسرة، على الرجل أن يهيمن على المرأة، تماماً كما تُهيمن الروح على الجسد».

على مرّ القرون، تحوّلت الثنائية من نظام رمزي داخل اللغة إلى قوانين حتميّة داخل الواقع الاجتماعي. صار البناء الفكري المُشيَّد على عقيدة أنَّ الذكورة روح والأنوثة جسد جزءاً من واقع الأشياء، وبُنِيَ عليه العلم في أوروبا، حتّى حصلت الطفرة الجذريّة في بدايات عام 1900. ومن مسار الأمور، يبدو أنَّ دائرة الاشتباه تتقلّص باتجاه الثنائيَّة، إذْ يبدو أنّ شيئاً حصل داخلها أدّى إلى هذا التحوُّل الجذري، أي التشكيك الجذري ببناء فكري بقي مُستقرّاً لمدة أكثر من ألفي عام. التغيُّرات الجذريّة في الذهنيّات بطيئةٌ عادة في التاريخ. السرعة المُلفِتة للتحوُّل قادمة ربّما من سرعة بُطلان الافتراض، إذْ بمجرّد زوال الضباب عن الطابع الثقافي – الاجتماعي في نظام العلاقة بين الجنسين، تَفقدُ التصوُّرات حول قوانين الطبيعة والحتميَّة البيولوجية، فوراً وبسرعة وبشكل انقلابي غير تدريجي، طاقتها الإقناعيّة.

الخروج من الطبيعة لا يمكن إلا أن يكون سريعاً وفورياً، لأنّ الأمور إما محددة من الطبيعة أو لا.

والحال، فإنّ أمران ساهما في تحطيم الثنائيّة وإذابة علاقة الذكورة بالروح والأنوثة بالجسد، وهُما: معرفة علميَّة تجريبيَّة أكثرُ تفصيلاً حول نظريّة الإخصاب، ومفهوم فكري جديد لـ«جسد المجتمع» Gemeinschaftskörper. هنا سرد لحكاية الخروج من الطبيعة. لطريق الخروج ضِفّتان: الأولى، الكشف العلمي الذي فكَّ لغز الإلقاح وفصم الجنسانية عن التكاثر، والثانية بروز مفهوم تواصلي للجسد خلقته وسائل النقل. الضفّة الأولى علمية والثانية فكرية. للحكاية عناصرها: مسرحها هو هنا، برلين، وزمنها هو من النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، أمّا أبطالها، فهم: النساء والمثليون-ات واليهود.

التوقّف هنا وهناك، والابتعاد عن الطريق، للتلصّص على بعض النقاشات الفلسفية، ضروري. لربّما في النهاية، تكتمل بعض أجزاء الحكاية.

لغزُ الإنجاب وتحطيم الثنائيّة
علمُ الجنين والمعرفة العلميّة الحاليّة حول قصّة الإنجاب أمورٌ حديثةٌ نسبياً. حتى عام 1657، أي قبل انتشار أبحاث عالم الأجنّة الإنكليزي ويليام هارفي (1578- 1657)، كانت النظريات حول الإخصاب متضاربة وغير مُفسَّرة علمياً وليس لها أساسٌ تجريبي. رفضَ هارفي قصة الإخصاب كشعاع يخترق بطن الأم أو كقوةٍ إلهيّة داخل النطفة، ودفع بالنقاش بالاتجاه الصحيح على الأقل. كان له تأثيرٌ فلسفي، إذْ عارض هارفي مقولة أرسطو بأنّ الحياة تنشأ بشكل تلقائي من مادة غير حيّة، وأكّد أن الحياة تأتي حصراً من الحياة، ودافعَ عن مقولته الأشهر: «كل شيء يأتي من بيضة».

رغم أنّه لم يلاحظ أي بويضات في أبحاثه التي أجراها على النظام التناسلي للثدييات، لأنّ التكنولوجيا المخبرية لم تكن متوفّرة في عصره، إلا أنّ هارفي حسم مسألة المنشأ البويضي لأيّ كائن على سطح الأرض. في بحثٍ نشره عن الغزلان عام 1651، حدّد مكان الإخصاب في الرحم. لم يتمكّن هارفي من تأكيد التحام النطفة مع البويضة، إذْ حتّى نهايات القرن السابع عشر، كانت نظريّة التشكُّل الجنيني المُسبَق هي السائدة في أوروبا. إمّا النطفة أو البويضة تحتوي على كائن صغير نهائيّ النمو ومُكتمل التكوين، ويتضخَّم بشكل تدريجي في الرحم. فقط في بدايات القرن التاسع عشر، وبتطوّر علم الخليّة وتكنولوجيا الفحص المجهري الخُلوي واكتشاف الإباضة (البويضة اكتُشِفَت قبل الإباضة)، رُدِمَت الفجوات النهائية في قصة الإلقاح. في عام 1875 جاءت الإجابة: لا، لا يوجد كائن قَبْلي نهائي يظهر فجأة بقدرة قادر في البويضة أو النطفة، والإخصاب انصهار نواة نطفة مع نواة بيضة في عمليّة تفاعل ديناميكي معقدة.

ومنه، فإنّ المعرفة متى أزاحت بتقدُّمها أَخيلة وأوهاماً، تفتح المجال فوراً لأخيِلة وأوهام جديدة. المعرفة لا تُلغي القدرة على التخيّل، بل تُعيد رسم حدود الممكن فيه. كلّما ازدادت المعرفة دقّة في علم التكاثر وعملية الاستنساخ والخريطة الوراثية، كلّما توضحت طرقٌ جديدة أمام التغيّر الانحيازيّ والتدخّل المُخَطِّط. الحلم بالتجديد المُحسِّن للنسل سحيق، ويعود إلى جمهورية أفلاطون. دعا أفلاطون إلى تقليل الصدفة، وتخيّلَ التكاثر البشريّ خاضعاً لتحكّم عقلاني، إذْ فقط «الأفضل» لهم الحقّ في إنتاج الذريّة.

الوجه الكابوسي من جمهوريّة أفلاطون هو أنّه حتّى أولاد «الأفضل» يُسحَبون فوراً من أمهّاتهم لحظة الولادة، ويتم تربيتهم على يد مُرضعاتٍ حكوميّات. أولاد الأفضل ينتمون إلى الدولة كلياً. فكّر أفلاطون بالخطأ الناجم عن الولادات السريّة ضد القانون، والإنجاب المُنفلت من رقابة الدولة. حلّه صريح: للدولة الحق بالتخلّي عن أي طفلٍ يخرج من أرحام «الأضعف». في زمن أفلاطون، كانت أفكار التحكّم العقلاني بالإنجاب مجرّد خيالات حول «يوتوبيا» مُفترضة، ولكن في زمن التكنولوجيا المخبرية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والتي نقلت حادثة الإلقاح من داخل الرحم إلى أنبوب الاختبار، صارت جملة أفلاطون: «التخلّي عن أولاد الأضعف»، تعني تحييدهم مخبرياً، أي قتلهم.

أعطى نزعُ السحرِ عن الإخصاب للجنسانيّة بارقة أمل للخروج من الطبيعة. الخروج من الطبيعة بمعنى التفكير في الجنسانيّة والتكاثر كظاهرتَيْن منفصلتَيْن. للتكاثر شرطٌ جنسي معين، وهو حصول إيلاج حميمي بين جسد رجل وجسد امرأة. مطابقة الجنسانيّة بالتكاثر، تشّد الأولى إلى الشرط الجنسي للثانية. المطابقة تلغي أي مشروعيّة لنشاطٍ جنسي خارج التكاثر، وتُهيمن الغيريّة الجنسيّة بصفتها الإمكانية الجنسيّة المسموحة الوحيدة. في العقيدة الكاثوليكية الجنس الفموي مُحرَّم بالمطلق، لأنه خروجٌ من مقتضيات الإنجاب وتبذيرٌ لترياق الحياة.

قبل فكّ لغز الإخصاب، كانت الجنسانيّة عَرَضاً جانبياً وملحقاً ثانوياً بالتكاثر. بتّت المثلية الجنسيّة بالأمر بشكل نهائي، إذْ أوضحت أن الجنسانيّة ليست قوّة توليد للبشر، بل هي دافع مستقل ونزعة قائمة بذاتها. وبمجرّد أن حسَمت المثلية الجنسيّة عدم ضرورة القصدية الإنجابية للسلوك الجنسي، في هذه اللحظة بالذات، نشأت في برلين علوم الجنس Sexualwissenschaften. علوم الجنس في برلين هي الاتجاه البحثي الذي يمكن اعتباره أساس التحرر الجنسي، ليس فقط في ألمانيا وأوروبا، بل في العالم.

سهّل فكُّ الارتباط بين الجنسانية والتكاثر الخروجَ من التصنيفات البيولوجية، أي الخروج من الطبيعة. الخروج من الطبيعة بمعنى إعادة تعريف الجنسانيّة كظاهرة اجتماعية – ثقافية تعمل بالرموز والإشارات.

تُعزَى عراقة النزعة التجريبيّة الجنسيّة في برلين الممتدة حتّى اللحظة إلى علوم الجنس، إذْ كان ناشطو وعلماء الجنس البرلينيّون من أوائل من صكَّ مصطلح «الجندر» Geschlecht، أي الجنسانية كنوع مُشكَّل اجتماعيّاً. في مطلع القرن العشرين، وبالتوازي مع نقاش «المرأة الأكاديمية»، وصلت علوم الجنس إلى حالٍ جديدة على يد عالمَي الجنس المثليَيْن اليهوديَيْن إيوان بلوخ (1872- 1922) وماغنوس هيرشفلد (1868- 1935).

لبلوخ وجهان: بحثي، إذْ درس الطابع الثقافي – الاجتماعي للجنسانية من خلال رصد اختلافاتها في حقب وسياقات تاريخيّة مختلفة (تجريم المثليّة، زنا المحارم، أعراف الجنس)، وحقوقي، إذْ رأى في المثلية الجنسيّة أو في الازدواجيّة الجنسية تنوّعاً طبيعياً في السلوك الجنسي، ولا يجب تحويلها إلى مشاعر ذنب ملتهبة أو تصنيفها كاضطرابات نفسيّة. هيرشفلد أسَّسَ عام 1897 معهدًا أسماه اللجنة العلمية الإنسانية، إذْ تُعدّ أوّل منظّمة في التاريخ تُدافع عن الحق بالتحول الجنسي. عند هيرشفلد، الأمر ليس فقط خروجاً عن الطبيعة، بل سيادة جنسانيّة كاملة عليها، والحق بانتزاع زمام المبادرة والشروع في تحويلها.

كان هيرشفلد سابقاً لعصره بنصف قرن، إذْ كرّسَ جُزءاً من وقته للذهاب إلى المحاكم كعالِم مختص واستشاري قانوني لتبرئة المتهمين بالشذوذ الجنسي، وناضل في الدفاع عن حق المرأة بالإجهاض! كيهودي ومثلي، تضاعفت أسباب إزالته عند اندلاع «الرايخ الثالث». عام 1933، عندما وصلت النازية إلى السلطة، كان من أوائل المستهدفين، إذْ أُغلِق معهده فوراً، ورُبِطَت مثليّته بيهوديّته. أَحرقَ النازيون كل كتبه، وفرّ إلى باريس ليموت من الأسى والشوق إلى برلين بعدها بعامين. مع بلوخ وهيرشفلد كفّت الجنسانيّة عن كونها شأناً بيولوجياً، وكان بالنسبة لهما النقاش حول أحقيّة المرأة بالدراسات العليا تفكيراً بدائياً في الماضي ونزولاً في المستوى.

بعد أن اطّلع جاك لاكان (1901- 1981) على أعمال بلوخ وهيرشفلد، أعلن أنّ الجنسانية ليست حركة هرمونيّة سببيّة داخل البيولوجيا، بل هي فقط وظيفة تعمل بالإشارات والرموز.

إذن، وبالتوازي مع الجدل حول أحقية المرأة بالتعليم العالي، كان الصراع حامياً بين تعريفين للجنسانيّة: التعريف الطبيعي – البيولوجي والتعريف الثقافي- الاجتماعي. التعريف الثقافي- الاجتماعي أعطى التبرير لمّا سمّاه هيرشلفد بـ«الطرف الثالث». الطرف الثالث هو روح أنثى تسكن جسد رجل، أو العكس. صار من الممكن أن تكوني رجلاً بيولوجياً، ولكنّكِ تفكرين وتشعرين وتحلمين كامرأة. التكتيك هو تحطيم الثانية بإضافة ثالث. ما يربط بين نقطتين هو مستقيم، وما يربط بين ثلاث نقاط هو سطح، أي طيف. إضافة الخيار الثالث إلى ثنائية الجنسانية، لم يجمّدها حصراً في ثلاث خيارات فقط، بل جعلها عرضةً لعددٍ غير متناه من الخيارات، لأنّ أي خيارٍ يمكن أن يكون الثالث. أنتَ تتفق مع الآخر على ثابتَيْن، وتحدّدان معاً الثالث المتغيّر.

«الطرف الثالث» أنشأَ فكرة الطيف الجنسي.

عمليّة التوفيق بين التعريفين غدت مستحيلة، والخلاف على تحطيم الثنائيّة وصل إلى النقاشات بين التقدميين داخل الحركة الإصلاحيّة الجنسيّة نفسها في برلين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. جميع رموز الحركة اتفقوا، طبعاً، على ضرورة الإلغاء الفوري لكل القوانين التمييزية التي تُجرّم المثلية الجنسية في الدساتير والقوانين. لكن برزَ داخلها صوتان فكريان؛ الأول ممثل بالمحامي الألماني المثلي المعروف بنضاله في الدفاع عن حقوق المثليين كارل هاينرش أورليكس (1825- 1895)، الذي تبنّى رأيَ أن المثلية الجنسية فطرية وتنشأ بالولادة ومقررة مسبقاً من الطبيعة. الصوت الثاني مثّله طبعاً هيرشفلد وبلوخ، اللذان رفضا قطعاً فكرة أن المثلية الجنسيّة قرار بيولوجي أو قدر من الطبيعة، بل هي صناعة اجتماعية تجري في إطار سياسي- تاريخي. بالنسبة ليهرشفلد، السيادة الكاملة يجب أن تكون للنفس على البيولوجيا، وليس للبيولوجيا على النفس.

حتّى الموقف التقدمي الذي يفهم المثلية الجنسية كحدث فطري، يعزز ضمنياً سيادة الطبيعة، ويعوقُ تحقّق إرادة التحوّل. إرادة التحوّل كخروج عن الثنائيّة واحتجاج على الطبيعة ورفضها كمصير، وإعلان حقّ الحركة إلى أي «مكان» داخلها.

يتقاطع سؤالا المثلية الجنسية والمرأة الأكاديمية في مفصل مركزيّة الطبيعة. من ناحية، ما إذا كانت المثلية الجنسية حتمية بيولوجية (وبالتالي غير قابلة للتغيير)، أم أنها عملية ثقافية تجري في إطار سياسي – تاريخي؟ ومن ناحية إذا ما كان استبعاد المرأة من حقّ التعليم العالي مُبرَّراً بطبيعتها البيولوجية (وبالتالي غير قابل للتغيير)، أمّ أنّ حرمانها قرار اجتماعي – ثقافي قابل للمساومة والتغيير؟

في الوضعَيْن، النضال هو من أجل الخروج من الطبيعة.

البريق اليهودي للثقافة
والحال، فإنّ لرغبة الخروج من الطبيعة تداعيات على الحياة السياسيّة والثقافية الاجتماعية، وإحداها الجدل حول «طبيعة اليهودي». تراكبَ الاستقطاب حول طبيعة اليهودي على الاستقطاب حول طبيعة المرأة، إذ دخل اليهود المشهد لمّا دار الجدل حول حقّ النساء اليهوديات بدخول الجامعات وتقلُّد المناصب العامة وممارسة مهن أكاديميّة. في ذلك الوقت، كان مسموحاً فقط لليهود الذكور دخول الجامعات، لكن كطلاب فقط، إذْ لم يتقلّدوا مناصب تعليميّة بارزة لفترة طويلة.

أشهر مثال في تاريخ جامعة هومبولودت هو الكاتب وعالم الاجتماعي الألماني جورج زيمل (1858- 1918). سُمِحَ بمحاضرات زيمل لأنّه لم يعد بالإمكان إنكاره، وفي الوقت نفسه أُبعِدَ عن منصب الأستاذية الكاملة في الجامعة ليهوديّته. محاضرات زيمل اكتظّت بالطلاب، إذْ عمّقَ من مستوى النقاش فلسفياً في نصه حول فلسفة «الغريب». ألمحَ بحدّة أنّ السؤال حول طبيعة اليهودي يمكن أن يصاغ بمفردات ومنطق السؤال حول طبيعة المرأة. هل اليهودية حتميّة عرقية أو نزعة بيولوجية، أم أنّ اليهودية هي جملة من التصورات والمفاهيم حول «الغريب»؟ ثمة فرق بين الآخر والغريب. الآخر هو الثاني، أما الغريب فهو الثالث. الغريب هو اللامألوف لشخصين، بعد أن وضعا أُسسَ المعياري والصحيح.

الطريف في التاريخ الألماني هو أنّ المعادين للسامية ابتلعوا الموقعين معاً. فمنهم من اعتقد أنّ اليهود عرق بيولوجي ثابت قادر على إفساد أي روح، ومنهم من تبنى سرديّة «الروح اليهوديّة» الثابتة الجوهرية والقادرة على إفساد أي جسد. حذّرَ الكاتب الألماني المعروف بنظريته المتكاملة المعادية للسامية، ثيودور فريتش، في كتاب له بعنوان التعاليم المسيحية المعادية لليهودية من الاختلاط البيولوجي مع اليهود. ينبّه من مغبّة جريان الدم اليهودي في العروق الألمانية، بقوله: «احفظ دمك نقياً، واعتبرها داخل نفسك جريمة أن تُفسد عرق شعبك الآري بالعرق اليهودي. الدم اليهودي جرثومة نشطة توثّر على الجسد، وتُهيمن حتّى أجيال متأخّرة».

بالمقابل، لم يندر وجود معادين للسامية ممّن اعتقدوا أنّ «الروح اليهوديّة» هي جوهر فكري لا يمكن التصالح معه. الجوهر اليهودي ثقافي بالأصل، لأنّ اليهودي يُقنّع هيمنته بالثقافة. الثقافة طريق اليهودي الخفيّ للتغلّب على نقصه الكميّ والانقضاض على الأفكار داخل الرأس. في روايته المقسمة إلى ثلاث أجزاء، خطيئة ضد الدم، يصيغ الكاتب الألماني والمسؤول النازي البارز، أرتور دينتر (1876- 1948) التصور حول الجوهر الثقافي الخطِر اليهود: «لا يخلق العرق الروح، بل العكس، تخلق الروح العرق. العرق – الجسد هو التمثل المادي والمظهر الأرضي لروح الإنسان. الروح اليهودية تتجسّد دوماً على شكل فكر وثقافة، والثقافة هي البدعة اليهودية الشيطانية ومنبع خطورتها على الأعراق الآرية».

على التقويم الألماني، توجد قصيدة مجهولة الكاتب تربط اليهود بالثقافة. النصوص مجهولة الكاتب تترسّخ أكثر، لأنّها مُلكيّة الجميع. تقول القصيدة:

الثقافة؟

ابتعد عن هذه الكلمة الشريرة،

وليكُن بريق جوهرها اليهودي ساطعاً لك.

لا يمكن لرجل جوهرهُ ألماني،

أن يصبح مثقفاً.

أنوثة اليهودي: المشاركة الأفلاطونية والالتباس الجنسي
والحال، فإنّه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ يتعاظم القلق من الأجندة اليهودية المدسوسة في ظاهرة الثقافة. بالنسبة للألمان، لم يكن اليهودي الأرثوذكسي مصدراً للخوف أبداً. حدود اليهودي الأرثوذكسي مرسومة بلحيته المجدولة وطبعه الانعزالي ونصف قبّعته. الخطر الحقيقي هو في اليهودي الاندماجي الذائب في المجتمع الألماني المضيف. صعّبَ اليهودي المنصهر القدرة على رؤية غرابته بوضوح، وصار وكأنّه واحدٌ منّا. على الأصل أن يكون بارزاً، كي يكون اليهودي قابلاً للتحديد. الآن، في سياق الإشارة إلى النواة اليهودية الاندماجيّة، تمّت الاستعارة من قاموس ألماني عريق من المصطلحات الجنسية، إذْ أسس الخطاب اليميني الألماني لعبارة «أنوثة اليهودي». مزجت «أنوثة اليهودي» أنماطاً من العنصرية المعادية للسامية حول لا مرئيّة اليهودي بنمط غير محدد من الأنوثة مُفصَّل على مقاس اليهود.

في كتابه الجنس والطبيعة، ينكش الفيلسوف والكاتب النمساوي أوتو فاينينغر (1889- 1903) قصة الجوهر اليهودي الأنثوي. فاينيغر انتحر بعمر 23 عاماً، وترك أثراً هائلاً على النازيّة. نادى بمقولة أنّ اليهودية مشبعة بأنوثة يجب التحقق بشأنها، وكتب: «أميلُ بسلاسة شديدة إلى نسب قسطٍ أعلى من الأنوثة إلى اليهودي الرجل مقارنةً مع الرجل الألماني الآري. أميلُ شعورياً إلى الافتراض بوجود جوهر أنثوي، يشارك أفلاطونياً، في تأسيس أجساد أشدّ اليهود ذكورة». في الجمهورية يتحدّث أفلاطون عن مفهوم المشاركة التأسيسيّة Metexis، إذْ ظنَّ بوجود عالمين: عالم المُثُل المجرّدة وعالم الأشياء المادية، والمُثُل المجرّدة تُعبّر عن نفسها دوماً في الأشياء الماديّة. فكرة الكرسي هي مَثل مجرّد تؤدّي إلى تدخّل بالطبيعة وإنتاج شيء مادي هو الكرسي.

في حالة اليهودي، الأنوثة هي المَثل المجرد الذي يعبّر عن نفسه في جسد اليهودي الرجل.

ألمحَ الكاتب الألماني شديد التطرف، الأنثروبولوجي وعالم الآثار أوتوه هاوزر (1874- 1932)، في كتابه تاريخ اليهوديّة، إلى وجود عبث جنسي في العرق اليهودي، ودعا إلى ضرورة وجود عملية علمية مُنظَّمة وعلى نطاق واسع، تُحيّد الفوضى الجنسية في العرق اليهودي. كتب بحسم: «لا يوجد شعبٌ فيه هذه النسبة العالية من النساء المسترجلات والرجال المؤنثين مثل الشعب اليهودي. انطلاقاً من هذه الفوضى الجنسية، تندفع الكثير من النساء اليهوديات إلى مهن الرجال، إذْ صِرْن يدرسْنَ كل ما يمكن أن يدرسه الرجال. أي شيء، كالقانون والطب واللاهوت، بل يمكن أن يمارِسْنَ السياسة ويصبِحْنَ ممثّلاتٍ لشعوبٍ وجماعات. ولكن ثمّة نقطة مُلفتة عند النظر لهؤلاء العاملات اليهوديات، إذْ نرى بوضوح ضموراً في الخصائص الجنسية الثانويَّة. عند الثلثين تقريباً: الثدي مطموس والذقن مسودّة باللحية وشعرُ الرأس غير قابل للنمو».

اختلط الرعب من إلغاء الفروق الجنسيّة بين الرجال والنساء، مع القلق من تلاشي الفروق بين الألماني الأصلي واليهودي الاندماجي. اليهودي يخلقُ التباين: داخل عرقه، بين الذكورة والأنوثة، وخارج عرقه، بينه وبين المجتمع المُضيف. من يمتلك القدرة على إزالة الفروق بين الرجال والنساء ستكون مسألة طمس الحدود بينه وبين الألمان شربة ماء. في المخيّلة النازية: الاندماج اليهودي فعلٌ جنسي. المؤرّخ والاقتصادي الألماني فيرنر سومبارت (1863- 1941)، أحد أبناء وآباء جامعة هومبولدت، حذَّرَ من التزاوج الجنسي بين الألمان واليهود، لأنّه «ضد مصلحة الطرفين». كتب: «أتمنى، ومن أجل مصلحة شعبنا الألماني، أن تتحرّر ألمانيا من قبضة الروح اليهودية. التحرّر من نير الروح اليهودية ضرورة تاريخيّة حتى نكمل تطورنا بنقاء داخل عِرقنا. أتمنّى أن تتوقف عملية التهويد الواسعة لمناحي حياتنا وثقافتنا. العزلة لصالح الجميع، إذْ من المؤكّد أن اليهود أيضاً سيُعانون ويتضرّرون من هذا التزاوج غير الطبيعي».

غريبا الثقافة: الأمومة الروحية وصدع الوجود
في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، انشغل المهتمّون بشؤون النساء واندماج اليهود بسؤال مُشترَك: هل الجسدان، أي الجسدي اليهودي والجسد الأنثوي، بناءان ثقافيان- اجتماعيان أم قراران بيولوجيان من محكمة الطبيعة؟ غالبية النساء واليهود ضغطوا باتجاه التعريف الثقافي- الاجتماعي، إذْ أنَّ الروحان تتشوّقان للخروج من الطبيعة. النساء للوصول إلى التعليم العالي والمهن الأكاديمية والمناصب السياسية، واليهود لمسح الصور النمطية التي دمغها المعادون للساميّة على أجسادهم.

معلماتٌ نسويات مناضلات، مثل هنريتا شرادر بريمان (1827- 1899) وهيلين لانغ (1848- 1930)، دعَمْن المقاربة الثقافية – الاجتماعية للجسد، مباشرة وعلناً، في سياق شعارهم «الأمومة الروحية». «الأمومة الروحية» حَمْلةٌ أطلقتها المعلِّمَتَان لإقناع النخب السياسية وصناع القرار في ألمانيا بحق النساء في التعليم. إخراج الأمومة من الحيّز المنزلي الخاص، وجعلها طاقة رعاية اجتماعية شاملة. الأمومة إيديولوجيا لا بيولوجيا، وعلى المرأة ألا تنغلق في غرفة نوم طفلها، بل هي جاهزة لتخيّل أنَّ أي طفلٍ هو طفلها. الأمومة منبع الأخلاق الأول، ونشرُها عن طريق إدماج النساء في التعليم سيُساهم إيجابياً في البناء الاجتماعي، ويرفع من مستوى الأخلاق الوطنيّة في ألمانيا.

أشدُّ المدافعات شراسةً عن الأمومة الروحية هي لانغ، إذْ أيّدت فرض العزوبة على النساء العاملات في سلك التعليم. يجب عدم التشويش على الأمومة الروحية بأي أمومة فيزيائية – شخصيّة. تعقيم الجسد ذاتياً سيخلق أمهات روحيّات محايدات عاطفياً. جوهر المرأة الروحي يؤهّلها للترفع عن المتعة الحسّية الجسدية، ويضعها في موقع متقدم لفهم روحاني لا مادي للمسألة الجنسانيّة. الأمومة الروحية التي نادت بها الحركة الإصلاحية النسوية في ألمانيا، وضعت الأسس الأولى للفروع التعليمية والمهن التدريسية في مجال التربية الاجتماعية.

الأمومة الروحية حوّلت الرعاية الاجتماعية إلى المصير التعليمي والمهني الأكثر توقّعاً من النساء، منذ ذلك الوقت وحتّى يومنا الحالي.

من الطرف الآخر، جاءت مساعي اليهود للخروج من الطبيعة نحو فهم ثقافي- اجتماعي للجسد، أقلّ مباشرة وأكثر التباساً. دوماً طُرِح في ألمانيا التساؤل: إذا لم يكن اليهودي مهجوساً بخلع رداء الطبيعة، لِمَ كلّ علماء الجنس الذين يرفضون المقاربة البيولوجية يهود؟ قد يُرَدّ على هذا التساؤل بأنّ معظم علماء اليهود، وفي سياق تفكيرهم لإخراج الجنسانية من الطبيعة، يمهّدون الطريق بشكل غير مباشر لتحرير اليهودي من النعوت البيولوجية العنصرية التي التصقت بجسده. الجسد اليهودي كان مكبّ نفايات عنصرية، وعلوم الجنس بتأكيدها الترميز الثقافي للجسد، سحبت البساط من تحت الفهم البيولوجي، وبالتالي سهّلت تفكيك الصور النمطيّة الموشومة على جسد اليهودي.

في مقالٍ غريب ومؤثّر نشره جورج زيمل في عام 1911 بعنوان الثقافة الأنثوية، شخَّصَ فيه وجود غريبَيْن في الثقافة الألمانية: الجسد اليهودي والجسد الأنثوي. زيمل تأمّل في الطابع الذكوري للإنتاج الثقافي. الثقافة هي تراكُم تاريخي تدريجي لسلسلة من القيم الموضوعية الحيادية. الآن، لأن الثقافة انبثقت من عقل الرجل وشَرطه، فإنّ الثقافة الموضوعية غير حيادية، بل هي امتداد للثقافة الذاتية الذكورية. الرجال أسَّسوا كل التمثّلات الموضوعية للذاتية الثقافية: الفنون والصناعات والعلوم والأديان والتجارة والدولة. في المقابل، لا تزال الثقافة الأنثوية مُحتقنة في ذاتها، وفائض الذكورة الوجودي يعرقل عليها «موضَعَة» نفسها.

كمثالٍ حيّ، يفكّر زيمل بالشِعر النسائي. الأدوات اللازمة لكتابة الشعر، كقاموس المفردات والرموز التعبيرية وشكل العلاقة مع الشخصي، كلها نمت وتطوَّرت وفق معايير ذكورية. لأنّ الرجال وضعوا أسس وأصول التعبير عن النفس، يُخلق توتّر بين المحتوى الشخصي الأنثوي والقالب الشكلي الذكوري. بعينه الأدبيّة الحساسة شعرَ زيمل بهذا التوتر عند قراءة الشعر النسائي الألماني، وتحدّثَ عن وجود صدع في الوجود يتّضح عند قراءة قصائدهنّ.

لدينا نموذجان وجوديّان: ذكوري يميل للموضوعية والإنتاج الثقافي الخارجي، وأنثوي يميل إلى الكمال الداخلي والاستجابة للشخصي.

الجسد التواصلي: المجتمع العصبي العابر للبيولوجيا
الشوق للخروج من الطبيعة بإعادة تعريف الجسد اكتسب في ألمانيا، أكثر من أي مكان آخر في أوروبا، أهمية سياسية واجتماعية بالغة، إذْ تزامنَ مع النقاش حول مفهوم الجسد الاجتماعي. الحداثة والتصنيع خلقتا مفهوماً موازياً للجسد الاجتماعي. القلق على الجسد الاجتماعي الألماني جعل معارضي تحرير المرأة متطابقين إلى حد كبير مع معارضي استيعاب اليهود اجتماعياً. تأخَّرَ تَحرُّر النساء في ألمانيا لأنّ النقاش حول طبيعتهنّ الجسدية اقترن مع النقاش حول طبيعة اليهود الجسدية، وصار مصيرهنّ مرتبطاً بحلّ المسألة اليهودية. القضيتان مترابطتان، لأنّ تحرُّر النساء واستيعاب اليهود أمران يشكلان مساساً بقوانين الطبيعة، وربّما يفكك المجتمع ويحوّله إلى «كومة رمل». كتب المؤرّخ القانوني أوتو غيركي، الذي ربط بين تعليم النساء واستيعاب اليهود والانهيار المحتمل للإمبراطورية البروسية: «الوحدة الأساسيّة الأولى في الجسد الألماني هي الأسرة. في النهاية، يعتمد المصير الوطني على صحة وقوّة الأسرة، والمرأة تؤدّي المهام الوطنية الحقيقية المطلوبة منها بأنّ تكون أماً بارّة وزوجة مخلصة».

الانشغال بفكرة الجسد الاجتماعي اشتدّ في ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. الجسد الاجتماعي هو نقل منطق الترابط وعلاقات البيولوجيا التي تحكم الجسد الفردي، إلى فكرة المجتمع ككلّ. في الإسلام إشارة إلى شيء شبيه بقول محمد: «مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم، كمَثَل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى». ومثلما ينظم الدم العلاقة التواصلية بين الأعضاء في الجسد الفردي، تنظم أعراف الدم العلاقة التواصلية بين الأفراد في الجسد الاجتماعي. أعراف الدم كحدّ فاصل، هي فكرة مترسخّة في جميع الثقافات. أعراف الدم ترسم حدوداً أخلاقية عند إزهاقه قرباناً للآلهة، أو حدوداً سياسية عندما تصبح أخوّة الدم أساسَ علاقة المواطنة، أو حدوداً جنسية بمنع زنا المحارم والجنس المثلي. المفهوم الألماني التقليدي للجسد الاجتماعي ينطلق من فكرة وجود دم واحد مُشترَك يجري في عروق الجسد الاجتماعي للأمة.

والحال فإنّ ترسُّخ الحداثة وتطور التصنيع ساهما في بروز مفهوم جديد للجسد الاجتماعي، ينافس الفهم الدموي القائم على عقيدة الجسد الواحد. وسائل التواصل التي خلقتها التصنيع والحداثة شكّلت ما يمكن أنْ يُسمّى بـلغة هابرماس «الجسد الاجتماعي التواصلي». الفهم التقليدي للجسد الاجتماعي وضعَ الدم المشترك الجاري في العروق الآرية في المقدمة، في حين لا يجمع بين أفراد المجتمع التواصلي أي حيثيّة عرقية أو دم موحد، بل نظام «عصبي»، يتكون من شبكة كثيفة من طرق النقل ووسائل التواصل. سيالة الأعصاب في النظام التواصلي هي الأفكار والرؤى والتصوّرات والثقافات. الجسد التواصلي شبكي وفكري بالأساس، ووسائل النقل والتواصل التي تنقل المحتوى بين أماكن متباعدة، تصبح رفيعة وغير مرئية أكثر فأكثر. وتاريخ التطوُّر من الآلة البخارية إلى شبكة الإنترنت ربما يلمِّح إلى النزعة اللامادية المتأصّلة في الجسد التواصلي.

الانتماء الطوعي إلى المجتمع الشبكي- العصبي نافسَ الانتماء القسري إلى مجتمع الدم الواحد. الجسد التواصلي يتواصل بالرموز والإشارات، في حين الجسد الدموي يتواصل سببيّاً بقوانين الدم. الفهم التواصلي الجديد للجسد الاجتماعي سجَّلَ نقطة لصالح أنصار التعريف الثقافي- الاجتماعي للجسد. التأمّل في الحركة السلمية التي انتشرت في أوروبا وقت الحرب العالمية الأولى كمثال مبكّر عن الجسد التواصلي. الحركة السلمية كجسد فكري تواصلي مُؤلَّف من شبكة عابرة للثقافات والأمكنة، تربط أناساً يشتركون في تأييد فكرة السلام. ليس غريباً أن حركة السلام لم تجد أي أتباع لها في المناطق الناطقة بالألمانية، إذْ خاف السكان الألمان من أيّ شكل من أشكال الجسد التواصلي- الشبكي العابر للحدود.

أيّ جسد لا مادي مُشتبهٌ محتملٌ في أن يحلّ محلّ الجسد البيولوجي المترابط بالدم.

ليس مجازفة القول إنّ الغالبية العظمى من النصوص المعادية للساميّة، والتي تنطلق من مذهب الجسد العُضوي للجماعة، مكتوبة باللغة الألمانية. قبل بضع سنوات من اندلاع الحرب العالمية الأولى لجأ الصحافي النمساوي اليهودي، وأشهر دعاة السلام في التاريخ، ألفريد فريد (1846- 1921)، إلى استعارة النظام العصبي للإشارة إلى الجسد التواصلي اللامادي الذي أفرزته حركة السلام حول العالم. كتب فريد: «ضمانة السلام هي السكك الحديديّة والسفن البخارية التي تعبر العالم وتحمل ثقافة السلام وفكرة الإنسانية إلى أبعد الأماكن. طرق المواصلات تحمل الأفكار، كما تنقل الأوردةُ الدمَ إلى أجزاء الجسم. الأعصاب الدقيقة للعالم المتحضّر هي التلغراف والهاتف».

والحال فإنّ القضيّة بقيت مُعلَّقة بين مفهومَيْن للجسد الاجتماعي، واحد بيولوجي قائم على الانتماء العرقي الموثق بالتسلسل، وآخر لامرئي مُتخيَّل على شكل شبكة عصبية تنقل أفكاراً. الجسد التواصلي خُلِقَ بمعيّة وسائل النقل التي خلقتها ثورة التصنيع. المُثير في الأمر هو أنّ الحداثة خيّطت جسداً واحداً بين الأزمات المحليّة المتباعدة. وسائل النقل لا تنقل فقط الأفكار التقدمية والرؤى النيّرة، بل مشاعر الكراهية والتصوّرات العنصرية أيضاً. وسائل التواصل عمّقت الجانب الكوني- المؤامراتي من ظاهرة معاداة السامية، إذْ حرّرت الأفكار المعادية للسامية من إطارها المحليّ، وصارت اليهودية الآن فكرة كونية مخربة، تجسد نفسها في كل الإيديولوجيات العابرة للدولة كالشيوعية.

على الرغم من ذلك، انجذب اليهود تلقائياً إلى التعريف التواصلي للجسد الاجتماعي، لأنّه على عكس الجسد المجبول بالدم، يفتح، على الأقل، فسحة أمام الاندماج الثقافي.

الطبيب الصهيوني وقوة الإعادة
وفي لحظة ارتباط صورة الجسد التواصلي بالجهاز العصبي دخلت كلمة «العصبية» إلى قاموس النعوت السلبية في ألمانيا. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، راجت عبارات مثل «المجتمع العصبي» و«عصبية الحداثة». العصبية هي وليدة الحداثة، لأنّ العيش في المدن الكبرى والقلق الدائم من الالتزام والإدمان على الإيقاع السريع، يفسد الأعصاب. العصبية ككلمة صارت مرادفاً لأمراض نفسية واضطرابات ذهنية. منذ منتصف القرن التاسع عشر، كان يُقال عن برلين بأنّها مدينة كبيرة نسجت شبكة علاقات جنسية غامضة بين بعض الناس العصبيين. أكثر من باريس ولندن، كانت برلين مركزاً للمجازفة الجنسية وكسر المعيار وتجريب الغريب وتوسيع حدود النفس. عصبيّو برلين الغامضون كانوا الرجال المتأنقين بأزياء النساء والمثليين والنساء في ملابس رجالية. صُوِّرَ «غرباءُ» برلين كمنحرفي حداثة مصابين بوباء العصبية.

استُلَّت كلمة العصبية من القاموس مرّة أخرى لوصف النساء الناشطات في الفضاء العام، وخصوصاً المدافعات عن حقّ المرأة في التصويت والتعلّم. العصبيات هنّ من خرجْن إلى الشوارع بمظاهرات دفاعاً عن حق النساء بدخول الجامعات. أحد علماء اللاهوت المُستطلَعة آراءهم في المرأة الأكاديمية يربط بين ارتفاع العصبية وإدخال النساء إلى التعليم. طبيب آخر يقول شيئاً أكثر غرابة، وهو أنّ النساء أكثر اجتهاداً من الرجال في التعليم، ولكن هذه نقمة لا نعمة. الطبيعة الأنثوية أضعف في تَحمُّل الإثارة العصبية القادمة من التعليم مقارنة مع الطبيعة الذكورية. تعليم النساء حتماً سيؤدي إلى تطوير اضطرابات عصبية لدى النساء المُعرَّضات. المرأة التي تُنهي تعليمها، تمرُّ بحياة القلق الدائم من الواجب والتوتر العصبي قبل الامتحانات، وحين تتخرّج، يجب أن تأخذ شهادتين: واحدة في دراستها، وأخرى في العصبية.

تعليم النساء هو إنتاج عصبيات وإفلاتهنّ في المجتمع.

النساء اللواتي تجرّأنَ وخرجْنَ إلى الشارع للمطالبة بالكرامة السياسية وحق الدراسة لسن معطوبات أنثوياً ومعارضاتِ لطبيعتهنَّ فقط، بل نُظِر إليهنّ وإلى نضالهنّ كأحد أعراض عصبية الحداثة. التسارع المضطرب الذي أفرزته الابتكارات التقنية للحداثة سينعكس حتماً على أعصاب المرأة، وآخر ما تحتاجه الأسرة هي امرأة عصبية معارضة لطبيعتها. في ألمانيا أكثر من أي مكان آخر في أوروبا، صدحت الأصوات المبكرة في حماية قوانين الطبيعة من ابتكارات الحداثة، وكان الدخول كالمشي على حبل لزج بين جبلين: كيف ستتم الاستفادة من ثمار الحداثة دون المساس بقوانين الطبيعة؟.

من جهة أخرى، أُلبِسَ رداء العصبية للأشخاص الذين يتحدّى شكلهم أي جهود تصنيفية في ثنائية الجنسانية التقليدية. المُلتبسون غير القابلين للتعريف يتهرّبون من الأنماط البيولوجية المعروفة للذكورة والأنوثة. برلين كانت عاصمة للمُلْتبسين، وفيها كلمة العصبية صارت مُرادِفاً لعدم القابلية للتحديد. اليهودي المندمج يتقاطع مع المُلتبَس جنسياً بعدم القابلية للتعريف، إذْ وُصِفَت محاولات اليهود الاندماجية بالعصبية، واعتُبرت أمراضٌ نفسية مثل الهيستيريا والفصام اضطرابات نفسية نموذجيّة يعاني منها اليهودي المُندمِج. الطبيب وعالم الأعصاب الفرنسي جان مارتن شاركوت (1825- 1893) أعاد الجوهر العصبي لليهود إلى قرون من زواج الأقارب؛ نتيجة العزل الاجتماعي المديد طوّرَ اليهودُ عوامل وراثية تتفعّلُ فوراً على شكل هيستيريا عصبية عند الاختلاط العرقي والخروج عن القاعدة.

قبل إسدال الستارة، ربما من اللّماح الإشارة إلى الطبيب الصهيوني اليهودي رافائيل بيكر، ومقاله العصبية اليهودية: نوعها ونشأتها ومكافحتها، التي ألقاها ككلمة في اجتماع للجمعية الأكاديمية الصهيونية عام 1918 في مدينة زيوريخ. أدانَ بيكر النزعة الاندماجيّة اليهودية وجعلها مسؤولة عن نشوء العصبية اليهودية. قَبِلَ بيكر بالصورة المرضية تماماً، وأشار إلى أنّ كلّاً من علوم الجنس، التي روجت للتحرّر الجنسي، والاندماجيين المتنصّلين من أصلهم اليهودي يتحمّلون المسؤولية الكاملة عن ظاهرة العصبية اليهودية. العصبية اليهودية تنشأ من فقدان الهوية وتَفسُّخ الجسد الاجتماعي اليهودي. بيكر نسخ كل السيناريو، وغير الأدوار فقط. اشتركَ مع النازيين، ليس فقط في دعم مقولة عدم قابلة التعريف اليهودي الاندماجي، بل فكّر باليهود كجسد اجتماعي لا تواصلي معزول بالدم.

ما يجمعُ أبطال قصّة الخروج من الطبيعة هو امتلاك إرادة التحوّل، ولكن ثمة عائقاً، إذْ تتسرب عقيدة القوى التي تحكم باسم الطبيعة إلى داخل النفس، لتعوقَ إرادة التحوّل. وربمّا يكون أبلغُ من أشار إلى الطاقة الذاتية الدافعة إلى الخلف، إلى الطبيعة، هو نصّ أنا الشاذ الأخّاذ لرئيف الشلبي، إذْ كتب: أُقنع نفسي أن ما يحدث لي امتحانٌ من الله لا بد أن ينتهي سريعاً، أو أن هذه مرحلة نفسية مؤقتة لا بدّ أن يعقبها في النهاية… المرحلة «الطبيعية».

مقالات مشابهة

Continue Reading

Previous: بكير أغيردير: مشكلة الأكراد لا تكمن فقط في تسليح حزب العمال الكردستاني راوين ستيرك …….RÛDAW…….Bekîr Agirdir: Pirsgirêka Kurdan bi tenê ne çekdanîna PKKyê ye Rawîn Stêrk
Next: التحرك القطري ضد حماس.. هل هو مرتبط بعودة ترامب؟ المصدر: الحرة / خاص – واشنطن

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • مقالات رأي

الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • مقالات رأي

اكرم حسين عن المواطنة المتساوية في سوريا…؟.المصدر:صفحة الكاتب

khalil المحرر يونيو 7, 2025

Recent Posts

  • الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب
  • الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة
  • تراجع التحويلات المالية إلى السوريين… تعرف على الأسباب نور ملحم …المصدر:العربي الجديد
  • دمشق الأبد في زمن ما بعد الأسد بشير البكر……..…المصدر: العربي الجديد
  • اكرم حسين عن المواطنة المتساوية في سوريا…؟.المصدر:صفحة الكاتب

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب
  • الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة
  • تراجع التحويلات المالية إلى السوريين… تعرف على الأسباب نور ملحم …المصدر:العربي الجديد
  • دمشق الأبد في زمن ما بعد الأسد بشير البكر……..…المصدر: العربي الجديد
  • اكرم حسين عن المواطنة المتساوية في سوريا…؟.المصدر:صفحة الكاتب

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • مقالات رأي

الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • الأخبار

تراجع التحويلات المالية إلى السوريين… تعرف على الأسباب نور ملحم …المصدر:العربي الجديد

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • الأخبار

دمشق الأبد في زمن ما بعد الأسد بشير البكر……..…المصدر: العربي الجديد

khalil المحرر يونيو 7, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.