إثر كلّ جريمةِ تهجيرٍ جماعيّ، ترتكبها إسرائيل في حقّ الشعب الفلسطيني، كما هو الحال الآن في قطاع غزة المنكوبة، مع الترحيل القسري لساكنيها من الشمال صوب الجنوب، تخطر في الذاكرة أعمال إسماعيل شموّط الفنية، وفي مقدّمتها لوحة “إلى أين؟” المنجزة عام 1953.

يبدو زمن اللوحة ملتبسا، سديميّا، يتماهى مع منتصف ظهيرة الحرب، جحيمها بالأحرى، إذ تتخلّف البلدة في ما وراء قامة الأب الذي يحمل على كتفه أصغر أبنائه، ممسكا بيد الثاني على يمينه، في ما يلحقه ثالث منكس الرأس. هي أربعة وجوه فجائعيّة، تنضح بمأساة تهجيرهم الفوري، وقد بلغوا بريّة لا ينقشع في يبابها العميم سوى شجرة عزلاء، عارية حدّ اليباس تتقاسم باعتدالٍ مشهد النكبة مع الأسرة المُرحّلة عُنوة إلى المجهول.

 

قراءة ثانية

هذا ما تفصح عنه اللوحة بملء واقعيّتها، وإذا ما احتكمنا إلى قراءة ثانية للوحة بملء تخييلها فيمكن رصدها على هذا النّحو القصصي:

 

غالب الظنّ أنّ الشجرة زيتونةٌ تكالبَ عليها العراء، تقف كشريان مفجوع في الخلاء الصّلب. حيث يدبُّ الرّجل المنكوب، مع أطفاله الثلاثة، يتقدمّهم العكّاز بمقبضه المعقوف كرأس  طائر جارح، في ما خيالٌ هلاميٌّ لقرية سرابيّة تتناءى خلفهم وقد أمست في ذمّة الغبار.

 

شجرة الزيتون 

أصغرُ الأطفال، المحمولُ على كتف أبيه الأيسر، لا يصدّق أنّ أمّه قضت نحبها بوحشيّة، تحت أنقاض البيت المُهدّم (بيتٌ لم يكن آيلا للسّقوط، ولا كانت هزّة أرضية طائشة وراء انهياره الكامل، بل غارةٌ إسرائيليّة همجيّة دكّت القرية فجرا).

أوسطُ الأطفال الذي يتخلّفُ وراء الأب الشّاحب، ناكسا رأسه كراية حداد، يمسك بحفنة قلبه المذعور كعصفور فالت لتوّه من مصيدة، بل مذبحة. لا يصدّق أن حصان الدّار الأبيض، الذي يجرّ عربة أبيه، قد لفظ أنفاسه اللاهبة على تخوم الصباح (حصانٌ لم يكن في أرذل العمر، ولا كان التّعب المفرط أو تعاقب الجوع الموسميّ وراء كبْوته النّهائية، بل رصاصاتٌ غاشمة استهدفت ما بين عينيه القهوائيين، أزهقت عنفوانه أمام مرأى طفلة الجيران).

أكبر الأطفال الذي ينظر بعينين غائرتين ذهولا، إلى وجه الأب المنكوب، لا يصدّق تماما أنّ والده ترك جثّة أمّه بلا دفن تحت أنقاض البيت، والحصان مضرّجا بالدم  قريبا من البئر، والقرية مخضّبة ببرقوق تشرين.

 

الطفل الأكبر 

يمسك الأب منهوب القسمات، على يد طفله الأكبر بصرامة من يدرك يقينا أن ولده البكر سينفلتُ منه في أيّما لحظة، مُقفلا إلى القرية التي داهمتها آلة البطش وانتزعتها بجُرم من أصحابها تحت مرأى شمس أوّل النهار.

أكبر الأطفال هذا، يرفع نظرته المنقوعة بالدهشة، زارعا إيّاها في وجه أبيه المكدوم، ويأبى الأب إلا أن ينظر أمامه، في عبوس مسترسل، يستشرف الوجهة الغامضة، هاربا بذبالة عينيه من نصل عيني ولده اللتين تسألانه بحرقة جارفة:

– إلى أين؟

يتمسّك الرّجل بعكّازه، معقوف المقبض كرأس  طائر جارح، كأنه سيغرسه في أرض أخرى، غير أرضه التي تركها غصبا، حتّى يورق ويزهر، ويؤول إلى شجرة تذكّره بقريته الخضراء.

كابوس

ينخرط الطفل الأصغر الذي يعلو منكب أبيه الأيسر، في نوم متعسّر، غير مسلّم بأنّ ما حدث، حدث بالفعل، إذ الأمر لا يعدو أن يكون كابوسا من ألبوم مناماته الشائهة التي تصخب كلّما بالغ في شُرْب حليب المعزاة، وِفْق ما كانت أمّه، تقول له عند كلّ مبْزغِ صباحٍ. لا يفتأ يُهسْهِس لنفسهِ: لا بدّ أن يستفيق بعد بُرهةٍ، وتقع نظرته الأليفةُ على سقفِ الغُرفةِ الخشبيّ، ملاذ الرتيلاء قبل أن تنزلق على ساعة الحائط المعطلة وتنحدر صوب الإبريق المرغّى على شعلة الغاز.

 

الطفل الأوسط 

كذلك الولد الأوسط الذي يتخلّف وراء الأب، ممسكا بعصفور قلبه المذعور، لا يريد أن يرفع رأسه، حتّى لا يُصدم حقّا، بأنّه في صحراء، شائعة القحط. ما يزال يمنّي النّفس، كي يتوقّف الأبُ مستدركا، ويصيح فيهم بالعودة الطّارئة إلى القرية الخضراء، مكذّبا شيطان الهلوسة المُرعبة، الصّادح بما حصل بذلك الفجر الأسود.

وكأنّ الأمر لا يعدو أن يكون حكاية خلاسية من حكايات أمّه التي ورثتها عن جدتها الغرّاء، تلك التي كانت تقصّها عليهم في ليالي سطوة الجوع واستبداد الرّعب.

يكاد يجهش بالبكاء الممتنع، لأنّهم فوّتوا عليه نهارا مغتبطا جنّد له ليلة الأمس كلّ ما يحتاج من احتفال: زهرةٌ يرعاها على التلّة كي يهديها إلى طفلة الجيران وحذاء للرّكض وراء الفراشات.

 

 الأب الذي يمسك بيدٍ مجفلة على العكّاز، كأنه يمسك بقشّة نجاة أمام سطوة غرق كاسح. كأنمّا يمسك بما تبقّى من قريته وذاكرته، وربّما بعكس ذلك كلّه، هي ليست إلا ما تجمّد من الألم العاتي في قبضته، قبل السّقطة الخائرة في كلّ الأحوال

 

 

حجر السؤال

وحده الطفل البكر، خالدٌ بنظرته اللاذعة صوب وجه أبيه الفاقعِ خيبة. فيما يصرّ أبوه أن يلوذ باللاشيء مترامي الأطراف أمامه، متحاشيا وخز الإبر المشحوذة في عيني ولده الشقيّ، الولد الكبير الذي يرشقُه بحجر السُّؤال القاصم للظّهر:

– إلى أين؟

منذ ساعات يدبّ الرّجل المنكوب مع أطفاله الثلاثة في الظهيرة الآهلة بقيظ ألف سنة، وكأنّه يراوح المكان، أو لا يمشي بهم إطلاقا كيفما هُيّئ لهم العكس، إذ حركته حثيثا، حثيثا، لا تنزاح به قيد أنملة، لأنّ الشّجرة العزلاء ما تزال واقفة لا تبرح المقام ذاته بمحاذاته إلى الخلف على اليمين، والقرية التي تركها غصْبا، أو طُرد منها عسفا، بذلك الفجر الفاتق، لا تزال تلوح وراءه كخيال هلامي يعتور رأسه المشدوخة، أو كطيف هذيان الحمّى يعتري أذهان صغاره المشروخين.

الأب الذي يمسك بيد مجفلة على العكّاز، كأنه يمسك بقشّة نجاةٍ أمام سطوة غرقٍ كاسح. كأنمّا يمسك بما تبقّى من قريته وذاكرته، وربّما بعكس ذلك كلّه، هي ليستْ إلّا ما تجمّد من الألم العاتي في قبضته، قبل السّقطة الخائرة في كلّ الأحوال.

لم يكن قميص الطّفل الأصغر على منكبه الأيسر، أحمرَ. يتذكّر الطفل الأصغر في غفوته التي نصفها حضور ونصفها غياب. كان قميصه أبيض تماما بلون حليب المعزاة التي لم تسلم من وحشيّة القتل، ودمها المراق بذلك الفجر الصاعق، ما ضرّج قميصه ويقظته الجنينيّة معا.

حافة الصحراء

هو الآن يحاول أن ينام بالفعل، إلى حين بلوغ حافّة الصّحراء، على أمل أن يستيقظ ويفتح عينيه على الواحة التي وعده بها أبوه الممتقع الوجه.تعب من تكرار السؤال الملحاح، إن كان سيجد أمّه هناك أيضا، وظلّ السّؤال عالقا في ذمة الغبار.

الطفل الأوسط، لم يعد يذكر لون قميصه السابق، ورأسه المنتكس كبيرقِ الأمّة، يعيد ترتيب مشهد الفجر الدموي، وهو يجسّ آخر صهيل الحصان المغدور، في نبضِ  قلبه المذعور. يتساءل كيف داهمتهم الصّحراء، بشمسها المجوسية وقد تركوا قرية هائمة على كفّ أكتوبر.

الأبُ المنكوب الذي ازرورقت عباءته من فرط العرق والغبار، يسند قامته إلى عكّاز يسبقه إلى غده، هاربا بجرح عينيه من الجرح المضاعف في عيني ابنه البكر، محكما القبضة على يده، كأنّ يد الطفل الأكبر عكّازه الثاني المعوّل عليه أمام سطوة غول المجهول. يدبّ لا يزال موهما الأطفال بوجهة سديدة، إلى حين العودة في زمن غير مسمّى إلى القرية الموعودة. في ما الطفل الأكبر، لا يأتمن الطريق الغامضة على هباء وجهتها، ويرنو إلى وجه أبيه الملبّد، الوجه الذي يزهر في خشبه أقحوانُ الخيبة. يهرق الولد الكبير في نظرته المرّة، السّؤال الحارق ذاته، كأنّما يدقّ ناقوسا أخيرا في وجه أبيه الذي يتصنّع عدم الاكتراث:

– إلى أين؟