أما وقد انتهى إضراب ممثلي هوليوود بعد 118 يوما على بدئه، فقد تنفست المؤسسات السينمائية على اختلاف أدوارها الصعداء وهبّت للعمل من جديد. ذلك أن المخاوف كانت سادت الجهات الإنتاجية والأستديوهات من مغبة النتائج المترتبة على استمرار الإضراب فيما لو لم تقبل نقابة الممثلين الأميركيين العرض المقدّم في مطلع هذا الشهر وأصرّت على مواصلة التوقف عن أي نشاط أمام الكاميرات أو خلفها.
الخسائر المادية كبيرة، ليس فقط لأنه كان ممنوعا على الممثلين ممارسة أي نشاط أمام الكاميرا، بل كذلك لناحية أن الأفلام التي عُرضت خلال فترة الإضراب اضطرت إلى التخلي عن أحد أهم عناصر الترويج وهو قيام الممثلين بإجراء المقابلات الإعلامية، فضلا عن أن العديد من الأفلام التي كانت قد أنتجت بالفعل إما عُرضت من دون هذا الغطاء الإعلامي أو أنها تعرّضت لتغيير برامج عرضها وتكديسها في انتظار حل تلك الأزمة.
من ناحيتها، فإن المناسبات السنوية المعتادة، مثل حفلة توزيع جوائز جمعية المنتجين، وحفلة توزيع جوائز المخرجين، وحفلة جوائز “غولدن غلوبز”، كما الاحتفال المقبل لجوائز الأوسكار، كانت ستتم (لو تمت) بلا ممثلين لو استمر الإضراب إلى الشهر المقبل وما بعده، لأن المناسبات المذكورة وسواها تُعتبر، في عرف النقابة القوية (تضم عشرات ألوف المنتسبين) ترويجا لشركات الإنتاج ولا تسمح به.
أراح الاتفاق المبرم بال كل المعنيين على اختلاف حقولهم وفي الأخص أكاديمية العلوم والفنون السينمائية مانحة جوائز الأوسكار.
ارتفاع مضطرد
كانت هذه المؤسسة العريقة قد أجّلت حفلها السادس والتسعين إلى العاشر من شهر مارس/آذار عوض موعدها المعتاد في الأسبوع الأخير من الشهر الثاني من العام، وذلك تحسّبا لاستمرار الإضراب من جهة، ومساهمة في لملمة المجتمع السينمائي لنشاطاته المعتادة ومنحه الوقت لذلك. لهذه الغاية، أجّلت تواريخ التوقف عن قبول الأفلام وتواريخ إعلان الترشيحات لمنح صانعي السينما وقتا إضافيا.
وفي حين أن جوائز الأوسكار تبقى ميدان منافسة أميركية في الأساس، نظرا إلى أن معظم مسابقاتها الرئيسة تعنى بميادين السينما الأميركية وحقولها، إلا أنها أيضا الهدف الذي ازداد الطلب عليه من قِبل مخرجي الأفلام العالمية ومؤسساتها، ويدل عليه الارتفاع المضطرد في عدد الدول التي تتقدم رسميا، نيابة عن سينمائييها، لترشيح أفلامها أو الجهات المستقلة التي تستطيع تأمين الشروط المطلوبة لدخول المسابقة.
رقم قياسي
وكان عدد الأفلام التي رشحت للفيلم العالمي في العام الماضي وصل إلى رقم قياسي في تاريخ الجائزة إذ بلغ 93 فيلما. أما بالنسبة إلى هذا العام فإن العدد النهائي بلغ 89 فيلما، أي بفارق ثلاثة أفلام فقط. ليس هناك من لغز حول هذا الاهتمام العالمي بالإشتراك في مسابقة دولية كهذه، كون الأوسكار لا يزال أعلى جوائز التقدير مكانة، والجائزة التي تمنح الدول المتقدمة بأفلامها صيتا كبيرا، إلى جانب أن المهرجانات السينمائية اليوم (من كانّ وڤينيسيا إلى لوكارنو وبرلين وصندانس وسواها) تستطيع أن تجذب المزيد من الأفلام والمواهب الفنية الكبيرة على أساس أنها السبيل النموذجي لدخول عروضها مسابقات الأوسكار الأميركي.
الطريقة التي تُعتمد لتقييم هذه الأفلام الأجنبية حال إرسالها إلى الأكاديمية مستوفية الشروط، تتبع خطوات تدريجية. هناك مجموعات مختلفة من الأعضاء تنصرف حاليا لمشاهدة كل هذه الأفلام الـ 89. يشاهد أفراد كل مجموعة العدد الذي يريد من الأفلام المعروضة شرط ألا يقل هذا العدد عن 13 فيلما للفرد. واعتمادا على التصويت الأول تعلن القائمة القصيرة للأفلام الأجنبية التي تحتوي على الأفلام الخمسة عشر التي نالت أعلى الأصوات. تعلن هذه القائمة المصغّرة في 21 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وقد غُيّر الإسم المتداول لهذه المسابقة قبل بضع سنوات من “أوسكار أفضل فيلم أجنبي” إلى “أوسكار أفضل فيلم عالمي”، تبعا لمحاولة الأكاديمية إثبات دورها على صعيد السينما العالمية.
سعي عربي حثيث
شهد الاهتمام بضم الأفلام العالمية إلى مسابقة الأوسكار خطوات متدرّجة من العام 1947 فصاعدا. فحتى سنة 1955 قدّمت الأكاديمية جائزة واحدة من دون ترشيحات مما عرضته الصالات الأميركية من أفلام غير أميركية. بذا لم يكن هناك ترشيحات رسمية كما الحال اليوم. وفي 1956 اعتمدت الجائزة كمسابقة سنوية ترشح فيها خمسة أفلام كل عام.
لكن هناك خطوطا غير واضحة للعديد من المتابعين حين يصل الأمر إلى سباق الأفلام الأجنبية، مع مزيد من تلك الأفلام التي باتت تشترك في المسابقة الرئيسية جنبا الى جنب الأفلام الأميركية. بدأ مثل هذا التقاطع في العام 1970 عندما رُشح فيلم “زد”Z باسم الجزائر في سباق الفيلم الأجنبي (ونال أوسكارها) وانضم، في الوقت نفسه، إلى سباق الأوسكار الكبير أيضا منافسا الفيلم الفائز بأوسكار أفضل فيلم وهو “كاوبوي منتصف الليل”.
تكرر هذا الوضع عشر مرّات، آخرها في العام الحالي عندما طُرح الفيلم الألماني “كله هادئ على الجبهة الغربية”، في المسابقتين معا (فاز بأوسكار أفضل فيلم عالمي). في العام الماضي كان الفيلم الياباني “قد سيارتي” هو الفيلم المزدوج الدخول. في هذه القائمة، وحدها السويد حظيت بهذه الفرصة المزدوجة مرّتين (مرّة عن فيلم إنغمار برغمان “صرخات وهمسات” (1973) وقبله فيلم “المهاجرون” ليان ترووَل (1972).
ضمن هذا الاهتمام ليس غريبا أن تسعى السينمات العربية حثيثا لدخول مسابقة ستمنح الفائز بها مكانة عالمية. باستثناء فيلم كوستا- غافراس “زد”Z الذي هو من تمويل جزائري بالفعل، لم يحقق فيلم لدولة عربية مثل هذا النجاح.
فيلم “وداعا طبريا”
هذا العام هناك تسع دول عربية، وهي بحسب جدول ورودها بالأبجدية الإنكليزية: مصر والعراق والأردن والمغرب وفلسطين والسعودية والسودان وتونس واليمن.
المثير في ذلك أن المزيد من الأفلام العربية لم يعن قط ارتفاع مستواها بالمقارنة مع الأفلام الأجنبية. علينا في هذه الحالة إدراك حالة فنية محددة في هذا المجال قلما يضعها المخرجون العرب في الاعتبار وهي أن عدم فوز الفيلم العربي (باستثناء “زد”) بالجائزة في هذا المجال لا يعود إلى استبعاد سياسي (بدليل دخول فيلمَي هاني أبو أسعد الفلسطينيين في الترشيحات الرسمية وهما “الجنة الآن” و”عمر”) بل إلى تميّز فني ومطابقة الشروط الفنية من عدمها بحسب المستويات التي يعتمدها المصوّتون. فالمفهوم السائد في هذا الصدد هو الكمال في شروط الإنتاج والصورة والمضمون.
حرب غزّة
ذكر فلسطين يقودنا إلى مسألة لم تكن مطروحة من قبل وهي احتمال جذب الفيلم الفلسطيني المرشّح هذا العام “وداعا طبريا” للينا سويلم، اهتماما أكبر بسبب ظروف الحرب الحالية في غزة . وهو فيلم تسجيلي عُرض في مهرجان تورنتو ويتناول لقاءات عائلية بين طرف آت في زيارة (من فرنسا) وطرف يعيش على أطراف البحيرة في الجزء القريب من الحدود الأردنية.
تبعا لتاريخ إنجازه، فإن الفيلم لا علاقة له بالحرب الواقعة حاليا في غزّة، لكنه، في طبيعته الهادئة وحديثه عن الألفة العائلية وجذورها الفلسطينية، قد يجد ما يكفي من الأصوات لدخوله القائمة القصيرة بجانب 14 فيلما آخرى. ذلك قد يشكل تمهيدا محتملا لدخوله الترشيحات الرسمية، لكن ليس بنسبة كبيرة.
كذلك الحال بالنسبة إلى الفيلم الأردني “إن شاء الله ولد” لأمجد الرشيد. إنه من تلك الأفلام التي تطرح مضمونا إجتماعيا لافتا يحتل الصدارة بينما تبقى معالجته في المستوى الثاني من إثارة الإهتمام. هناك إجادة في التمثيل وجديّة في الإخراج وطرح اجتماعي لتقاليد تثير اهتمام الغربيين (ولو أنها لم تعد جديدة في ذاتها) لكن المعالجة تبقى قريبة من الدراما التلفزيونية
الاشتراك السعودي متمثل في “هامبور ج.ع” لعبد الإله القرشي. حضوره مهم ونوعية تنفيذه جيّدة، لكن وصوله إلى الدائرة الأخيرة من التشريحات ليس فعلا سهلا.
السبب هو أن معظم ما حققته الأفلام السعودية في نهضتها الرائعة خلال السنوات الثلاث الماضية كان من الفئة التي تنضوي تحت “النوع”Genre. أفلام محددة بالنوع الذي تنتمي إليه القصة: كوميديا، رياضة، دراما مجتمعية، فانتازيا. لكن غالبية الأفلام التي تدخل الترشيحات النهائية وتفوز هي من الفئة التي لا تنتمي إلى هذا التخصص النوعي، بل تلك الفالتة من التصنيف السريع وتنتمي تاليا إلى سينما المؤلّف. تبعا لذلك، وإلى أن تتقدّم السينما السعودية بفيلم ينتمي إلى الشروط الفنية أساسا، فإن حضور الفيلم السعودي يبقى مُهمّا لذاته مهما كانت تقنيات التنفيذ جيدة.
مصر والمغرب
مع فيلم قوي ، الذي يمثل مصر وأخرجه عمر هلال، تتوضح الصورة أكثر بقليل. هو بدوره فيلم كوميدي لكن لمساته كوميدية وطريقة تنفيذه تخلو من التنميط السائد في السينما المصرية التي يمثلها في ترشيحات هذا العام. موضوعه كذلك له حساباته كونه يعرض موضوعا غير مطروق، فهو عن رجل يحلم بالسفر حول العالم لكن لا يملك الوسيلة لتنفيذ حلمه بسبب فقره. حين يعلم بأن هناك رحلة مخصصة للعميان لجولة عالمية، يتظاهر بالعمى منضما إلى الباقين.
فيلم “ڤوي! ڤوي! ڤوي!”
ليس لدى الفيلم أي عنصر حاسم يقودنا لتأكيد إمكان دخوله في الترشيحات الأخيرة، وهذا هو واقع العديد من الأفلام العربية المختلفة (موضوعا) والجيدة (تنفيذا) في كل عام.
الفيلم المغربي “أم كل الأكاذيب” لأسماء المدير، مقاربة ليست بعيدة كثيرا عن الفيلم الفلسطيني “وداعا طبريا” من حيث أنه – بدوره- مبني على النوع التسجيلي غير العفوي مع شخصيات حقيقية تقودها المخرجة نفسها. لا نرى أن هذا الفيلم سيجتاز المسافة بين تمثيل دولته وتبوؤ القائمة القصيرة أو الرسمية لاحقا.
في المنهج ذاته من الجمع بين ما يشبه التسجيلي والروائي، تتقدم المخرجة كوثر بن هنية بفيلمها الجديد “أربع بنات”. هذا عاشر فيلم تونسي يتقدّم الى الأوسكار، وثالث فيلم لمخرجته في هذا السعي، علما بإنها وصلت إلى الترشيحات النهائية سنة 2021 عبر فيلمها “الرجل الذي باع جلده”. للأسف ذهبت الجائزة لأقل الأفلام المرشحة لهذه الجائزة في تلك السنة وهو الفيلم السويدي “ثمالة”.
حسابات
بقيت في القائمة ثلاثة أفلام لثلاث دول عربية، هي “وداعا جوليا” لمحمد كردفاني (السودان) و”المرهَقون” لأمير جمل (اليمن) و”حدائق معلقة” لأحمد الدراجي (العراق).
هذا الأخير فيه جهد لتقديم دراما إنسانية مثيرة للاهتمام. حكاية شاب صغير يعمل في استخراج ما قد يستطيع بيعه من القمامة المرمية في بعض مجامع النفايات في العراق. في يوم، يجد دمية لامرأة عارية تستطيع أن تنطق بالآهات. يستغل الشاب الدمية فيتقاضى المال عن كل رجل يأتي ليشبع غريزته في غرفة مغلقة. الموضوع يستحق التحية لكن كتابته وإخراجه أمر آخر. على ذلك، قد يضمن ما يكفي من الأصوات لدخول القائمة القصيرة قبل أن يغادرها في الجولة الثانية والأخيرة. علما انه احتمال محدود في النظر- طبعا- الى مستويات العديد من الأفلام غير العربية كذلك.
“وداعا جوليا” هو ثاني تمثيل للسودان بعد فيلم “ستموت في العشرين” لأمجد أبو العلا قبل ثلاثة أعوام، وهو هنا أحد منتجَي هذا الفيلم. اللافت هو حديث الفيلم عن الفترة السابقة مباشرة لاستقلال جنوب السودان عن السودان وكيف ساهمت الأحداث الطائفية بين المسلمين والمسيحيين (لا يقول إنها كانت مرتّبة) في ذلك الانفصال. الفيلم مرويّ من خلال قصّة مغنية يقتل زوجها رجلا مسيحيا فتعمد إلى توفير العمل لزوجة القتيل. حظوظه هنا لن تختلف كثيرا عن حظوظ المرّة السابقة.
أما الفيلم اليمني الذي شهد عرضه العالمي الأول في برلين، فإنه دراما حول عائلة فقيرة ستنجب طفلا رابعا في الوقت الذي بالكاد يستطيع الزوج تأمين الطعام لأولاده الثلاثة. ما شوهد منه يشي بموهبة مخرج قيد التأسيس لكن هذا أبعد ما يمكن الذهاب إليه كفيلم مسابقة.
ما يجمع بين كل هذه الأفلام، صدق المحاولة لتقديم مسائل اجتماعية أو فردية صادقة. لكن النيات وحدها لا تصنع النجاح المنشود، كذلك فإن الناحية المنسية دوما هي أن الأفلام الآتية من دول أوروبية أو جنوب شرق آسيوية تتمتع دوما بأفضلية الاعتبار كونها أفضل صنعا وأقرب إلى النموذج الثقافي الذي يوجه معظم المنتخبين من أعضاء الأكاديمية.